نظرا للصعوبات الاقتصادية التي رافقت الجائحة وأعقبتها اضطررنا لإيقاف أقسام اللغات الأجنبية على أمل ان تعود لاحقا بعد ان تتغير الظروف

الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بخمس لغات عالمية
الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بأربع لغات عالمية
Rss
Facebook
Twitter
App Store
Mobile



عيون المقالات

العالم والشرق الأوسط بعد فوز ترامب

17/11/2024 - العميد الركن مصطفى الشيخ

إنّه سلام ما بعده سلام!

17/11/2024 - سمير التقي

( ألم يحنِ الوقتُ لنفهم الدرس؟ )

13/11/2024 - عبد الباسط سيدا*

طرابلس "المضطهدة" بين زمنين

13/11/2024 - د.محيي الدين اللاذقاني

اليونيسيف ومافيا آل كابوني دمشق

12/11/2024 - عبد الناصر حوشان

هل يشعل العراق حرباً إقليمية؟

09/11/2024 - عاصم عبد الرحمن


أزمنة الحب ووقائع الفتن والحرب في الرمانة الشامية




بين قرطبة وغرناطة بحساب نشوء الممالك ـ لا بحساب الاميال ـ ستة قرون من الزمان فالاولى ازدهرت مع مغيث مولى عبد الملك بن مروان في القرن الثاني الهجري بينما انتظرت الثانية الى القرن السابع ليعمرها عرب الشام ثم الصنهاجيون المغاربة قبل ان تسلم قيادها الى بني نصر الذين ينسبون أنفسهم الى الخزرج ويفتخر ملوكهم« بأنهم من نسل سعد بن عبادة ويعرفون احيانا لأسباب لا علاقة لها بقصر الحمراء ولا بالدم الذي اراقوه دون حساب باسم بني الاحمر، لكن اسم بني نصر كان الأحب الى قلوبهم والأقرب.
ترى هل كان التاريخ يعبث ويمكر حين جعل أكبر وآخر هزائم العرب في الاندلس تأتي في أيام بني نصر..؟


قصر الحمراء اعجوبة الحضارة الاسلامية في الاندلس
قصر الحمراء اعجوبة الحضارة الاسلامية في الاندلس
 

الفاتحون الأوائل نقلوا الدمشقيين من قرطبة إلى غرناطة قبل أن يعمرها الصنهاجيون ثم يصنع بني نصر بحزازاتهم الداخلية هزيمتها المدوية

 
بني نصر أو بني هزيمة،لا فرق فقد قضي الامر الآن بل قضي قبل ان تصل جحافل «ايزابيلا وفيرناندو» الى فحص غرناطة (مرجها)، فحزازات بني نصر وثاراتهم الداخلية خربت المدينة التي كانوا يشبهون مرجها وسهولها لكثرة بساتينها ورمانها بغوطة دمشق، فمن الرمان اشتقت غرناطة كما يخبرنا المؤرخون والجغرافيون اسمها، فـغراناتا باللاتينية تعني الرمانة، ثم زادوا فلقبوها بالفيحاء لمؤاخاتها بدمشق الشام وكان الرمان والريحان والياسمين ـ وما في العالم أعطر من ياسمين دمشق ـ من دلائل تلك الاخوة التي لم تنفصم عراها عبر القرون، فها هو الشاعر الفرنسي اراغون يذكرنا مطلع القرن العشرين بشتلات الشام وعناقيد كرز الغوطة والغراس التي تتراقص بتلاتها الى اليوم في مرج غرناطة الفسيح:
كانوا يجهلون انهم عبروا المتوسط ومعهم نبتة جنون
كأؤلئك الذين جاؤوا في متاعهم سهوا ببذور من سورية
وما تخيلوا حين زرعوها ان يأتي يوم تتمايل فيه ربيعا عناقيد الكرز في مرج غرناطة
اما ان الشوام يحملون كالشعراء نبتة جنون فنعم، لكنهم لم يحملوا الكرز ولا الريحان والرمان سهوا يا أخا الفرنسيس فكتب التاريخ تخبرنا ان أخت عبد الرحمن الداخل (صقر قريش) التي ظلت بعده في دمشق كانت ترسل له سرا ورغم عيون الرقباء والعسس شتلات الريحان والرمان والياسمين كي لا يحس بالغربة، فالسوريون امة من ياسمين ورمان وريحان وجنون، ومن ولع عميق لا يضاهى بالسياسة والنساء والزهو، لذا كانت سياسات غرناطة لا تشبه غيرها وكان الوله الشامي المنقول اليها بكامل عطره يتقطر فروسية وشعرا وموسيقى ليشكل لاحقا أنبل ظاهرة في الرومانسية الاوروبية اختلط فيها شعر الحب بالفروسية في ما عرف في الآداب العالمية اثناء ازمنة الحب الجميل باسم شعراء التروبادور الذين حموا مع محبوباتهم سمعة القرنفل الاحمر والريحان والياسمين الدمشقي وجعلوا من تلك الرموز كلها عناوين عشق وصبابة.
* الفارس والجميلة
* في مدخل الحمراء كان لقاؤنا.. لا مع تلك الاندلسية التي التقاها نزار قباني والجاردينيا الحمراء تسبح بين امواج شعرها الاسود بل مع الريحان الدمشقي الذي احتفظ ليس بعطره فحسب بل باسمه العربي الذي استعارته اللغة الاسبانية من عرب الشام، فأول ما يقابلك من أروقة في قصر الحمراء رواق الريحان  "باتيو دو لوس ارياناس" وفيه البركة التي تتوسط كل بيت دمشقي، يخرخر ماؤها ليسقي الريحان ويشرب منه، فالريحان والياسمين من الازهار التي لا تشمها فقط بل تتشربها روحك كما تتشرب رائع الشعر، ومنه في جناح الريحان وأروقة الحمراء كلها الكثير ومعظمه لعبد الله بن زمرك الذي فتك بأستاذه ابن الخطيب ليخلو له قلب مولاه الغني بالله وتخلو له جدران قصر الحمراء التي حولها الى ديوان ناطق، ففي رواية على لسانه حفظها المقري في النفح يؤكد ان كل ما هو على جدران قصر الحمراء من رائق القول فهو من نظمه.
وفي فناء الريحان عند بوابته الشمالية ميمية ابن زمرك التي قالها مهنئا مليكه باسترداد الجزيرة الخضراء ووضع فيها كالعادة كل المبالغات العربية في شعر المديح:
فأمنت حتى الغصن من نفحة الصبا ـ وأرهبت حتى النجم في كبد السما
والكتابة في بعض مقاطعها حال عليها الحول وصارت تصعب قراءتها، لكن القصيدة معروفة وفيها الثنائية الابدية للحلم الاندلسي الذي إما ان يتجه صوب الشام او نحو نجد وتهامة في الجزيرة العربية مهد شعر الغزل الرفيع:
تأمل أطلال الهوى فتألما ـ وسيما الجوى والسقم منه تعلما
أخو زفرة هاجت له نار ذكرة ـ فأنجد في شعب الغرام وأتهما
ولك ان تضع «وشوما» بدلا من «وأتهما»، فشعراء تهامة ونجد هاجروا جميعا الى دمشق الشام ومنها الى الاندلس في تلك الاوديسة الشجاعة التي انتهت نهاية مفجعة عند اسوار تلك المدينة المنذورة للصبابات.
اما لماذا تم نقل عرب الشام من قرطبة الى غرناطة، في مرحلة سياسية مضطربة من التاريخ الاندلسي، فالجواب عند لسان الدين بن الخطيب في كتاب «الإحاطة في أخبار غرناطة»، فقد وجد الشاميون حسب روايته انفسهم حين وصلوا الى الاندلس اشخاصا غير مرغوب فيهم - بيرسونا ننا غراتا -لأن الذين وصلوا مع موسى بن نصير اولا وكانوا يعرفون بالبلديين ما كانوا يريدون ان يقاسمهم أحد خيرات تلك البلاد، فلما وصل الشاميون مع بلج بن بشر القشيري ضجت قرطبة زمنا ثم جاء الحل على يد ارطياس قومس الاندلس ومتعهد جزية أهل الذمة الذي قال ـ وكان داهية ـ: أنزلوهم في البيرة فهي شبه منازلهم في الشام.
وقد كانت البيرة المعروفة اليوم باسم " الفيرا " هي الاصل وغرناطة الفرع، وكانت الرمانة الشامية قرية صغيرة ملحقة بالبيرة الى القرن السادس الهجري حين بدأت الاحوال بالتبدل ليحل الفرع مكان الاصل وتبدأ غرناطة أسطورة صعودها السريع وسقوطها المدوي الذي صار علامة فارقة في التاريخ والاسطورة تماما كسقوط طروادة في تاريخ الأغريق.
«عشية سقطت غرناطة..
قال فارس لجميلته..»..
من هذه اللازمة الموسيقية بدأ كتاب اراغون «مجنون إلسا»، وهو الدفاع الانساني الوحيد عن أبي عبد الله الصغير آخر ملوك غرناطة العربية فقد ادرك الشاعر الفرنسي الذي جعلته إلسا الروسية كونيا في لحظة كشف ابداعي ومعرفي ان الملك المغلوب لا بد ان يكون خائنا جبانا حين يكتب الغالبون التاريخ، وبالتالي فليس من الضروري ان يكون كذلك في الواقع. ومن الدفاع عن ملك مغلوب الى الدفاع عن حضارة مهزومة شع الشعر ليجعل من اراغون عربيا اكثر من العرب وهو يهدي أجمل كتبه ـ وكل ما كتبه جميل ـ الى أمير المسلمين محمد بن ابي الحسن بن عبد الله الذي لا يذكر العرب دموعه الا بالعبارة المنحولة والمنسوبة الى امه عائشة الحرة ـ اراغون يسميها عائشة الثغري ـ التي قالت له وهو يبكي سقوط غرناطته : ابك كالنساء ملكا مضاعاً.. لم تحافظ عليه مثل الرجال.
بالله عليك يا عائشة ماذا يستطيع صبيك المدلل ان يفعله لأمة قررت الانتحارقبل ان تلديه بزمن طويل وسخرت في سبيل ذلك كل ملوك اماراتها وطوائفها..؟
ان تأنيبك لم يمنع اراغون من التعاطف مع ابي عبد الله الصغير ولا من النظر الى الاسطورة بما يليق بها من فجائعية حارقة:
«تقدم ايها الملك المقهور قدام التاريخ والاسطورة
انت يا من اقتصرت عظمتك على الفاجعة والقبر
ولينسدل سجف الزمن الاحمر العظيم على دموعك
اليك الوجه الذي زيفوه لك هل تراه جميلا؟
أهذه وجنتك؟ أهذا جبينك في لفح سوط الاهانة»
وما كان أراغون الذي اغرم وحده من الغربيين بغرناطة فقد سبقه شاتوبريان ليكتب عن أخر بني سراج ذاك الفارس العربي الذي نجا من المذابح العربية ـ العربية يوم سال الدم غزيرا في اروقة قصر الحمراء ووصل الى النوافير التي سالت بالدم الاحمر في قاعة بني سراج المواجه لقاعة الاختين داخل تلك التحفة المعمارية العربية، وسبقه من الفرنسيين ايضا فيكتور هيجو صاحب «نشيد الحمراء» المليء بالانبهار والشجى:
«ايتها الحمراء يا قصرا من خيال الملائكة
يا شرفة مزخرفة بأوراق وأغصان تشع بالانسجام
حين تنعكس فضة القمر على قناطرك العربية
يردد الليل صوت سحرك الصافي»
ومن غير الفرنسيين، سبق اراغون واشنطن ايرفنج الاميركي الذي أقام في القصر وكتب اساطيره وحصل لنفسه على مكان فيه، فالغرفة التي أقام فيها اثناء كتابته عن الحمراء وغرناطة في القرن الثامن عشر تحمل اسمه وتستطيع ان تزورها في آخر القصر بعد وقفة خلابة مع اشجار الليمون وتشير تلك الغرفة الى فرد من قائمة طويلة من الفنانين والكتاب والشعراء فتنها سحر ذلك المكان الذي لحن فيه الموسيقار مانويل دي فالا مقطوعاته الرائعة «ليال في حدائق الاندلس» ونظم فيه تيوفيل غوتيه عدة قصائد، وتكر السبحة لتصل الى لوركا وبيكاسو ودالي آخر موجة عطر من الدوح الاندلسي العابق بشذاه الخاص الذي لا يشبه اي شذى:
«هي انت ذي يا ارضا مستحيلة تمرع برتقالا
غرناطة يا جسدا من بنفسج وياسمين تأتيني ريحها
كما من حمامات عامة برائحة بشرية دون اسم
تلك هي شهوة الفؤاد اليك حتى لأقول لنفسي
لا بد من حريق كي تتعرف الى شميم الخشب»
ترى هل كانت خلوة النفس الاراغونية واشتياق فؤاده لنفسه في ذهن محمود درويش بعد سبعين عاما وهو يعتبر الشام والاندلس نفسا واحدة «امر عليك اذ اخلو الى نفسي ....كما يمر دمشقي بأندلسي».
* جادك الغيث
* من أعلى هضبة في غرناطة فوق جنة العريف، وفيما جبل شلير يزهو بثلوجه كشيخ تقي معمم بالبياض يقرأ «التحيات المباركات » ساهما دون ان يسلم، نظرت الى سفح حي البيازين ثم الوادي الممتد الى ما لا نهاية والذي كان نهرا يقسم المدينة الى قسمين ـ تماما كما كان بردى ـ وأدركت بنظرة تلخص عمرا من القراءة عن الاندلس ان القدماء لم يبالغوا حين رأوا غرناطة كدمشق فهي وخصوصا في ايام الثلج تشبهها حتى الثمالة، فالشيخ احمد بن محمد المقري التلمساني لم يخطئ حين قال عن ذلك الشبه في «نفح الطيب من غصن الاندلس الرطيب»:
«غرناطة نزل بها اهل دمشق وسموها باسمها لشبهها بها في القصر والنهر والدوح والزهر والغوطة الفيحاء».
وما ضره، غفر الله له، لو ذكر الثلوج على قمتي شلير وقاسيون وغزل العشاق فوق الربوة وغنج الشاميات بالحميدية، وقارن باب توما وأحياء دمشق العتيقة بقصبة غرناطة القديمة وربض المنصور وربض القاضي ومنطقة حمام التاج وجامع التوابين، فبعض هذه الامكنة في غرناطة بالكاد تفرقه عما تعرف من احياء دمشق.
ان غرناطة من المدن التي تتسلل الى ملكوت الروح في غفلة عن اصحابها مثل كل عشق عظيم، لا يحس به المصاب برشته السحرية المباركة الا بعد ان يكون قد نصب خيامه وتمكن ليقيم الى الابد. واذا كان هذا عشق الغرباء لها ـ وهي مدينة تحنو على كل غريب ـ فكيف هو عشق الابناء الذين اضطروا للنزوح عنها ايام الفتن الداخلية وحروب المناوشات والاسترداد  "لاكينغويستا" ومؤامرات السياسة الداخلية التي أسقطتها من الداخل قبل ان يصلها الاعداء، فالمدن العظيمة ومهما كانت متانة اسوارها تسقط دوما من داخلها بأحصنة خشبية حينا كطروادة وبحمير بشرية كغرناطة التي حاربت أحزابها وفرقها بعضها بعضا اكثر مما حاربت العدو الخارجي الذي استفاد من ثغرات أبنائها أكثر من استفادته من ثغرات أسوارها.
وقبل ان ندخل في تفاصيل ذلك الفصل الدامي الذي ختمه ابو عبد الله الصغير بما يليق به من فجائع وانكسارات، دعونا نتذكر قبل الانتقال من الحب للحرب ان موشحة قصيرة كتبها ابن غرناطة وخلاصة ثقافتها الوزير لسان الدين بن الخطيب تلخص فداحة الحلم الاندلسي الذي كان بعيد المنال حتى عن الغرناطيين قبل سقوط مدينتهم. وقد كتب ابن الخطيب هذه الموشحة التي يحفظها كل عربي من الارجنتين الى بومباي حين كان منفيا في سلا المغربية:
جادك الغيث إذا الغيث همى ـ يا زمان الوصل بالأندلس
لم يكن وصلك إلا حلما ـ في الكرى أو خلسة المختلس

وسقطت غرناطة لكن الحلم الاندلسي لم يسقط معها، بل ربما كان سقوطها الفاجع سببا رئيسيا في توهج ذلك الحلم وانتقاله من الاندلسيين الى العرب قاطبة، وما يزال هناك الكثير ليقال عن ذلك الحلم بحبه وحربه وعن رجاله في قمة صعودهم وسفوح سقوطهم، فابن الخطيب الذي مات مخنوقا محروقا في فاس المرينية / المغربية قبل قرن ونيف من سقوط غرناطة كان ابن مرحلة «بداية النهاية»، وهذه المرحلة تختزن عادة كل الآهات التي كثفها ابوعبد الله الصغير في آهة واحدة صارت تعرف عالميا باسم «تنهيدة العربي الاخيرة» وصار لها موقعها الجغرافي المميز على قمة جبل السروات.


د.محيي الدين اللاذقاني
الاثنين 5 غشت 2024