نظرا للصعوبات الاقتصادية التي رافقت الجائحة وأعقبتها اضطررنا لإيقاف أقسام اللغات الأجنبية على أمل ان تعود لاحقا بعد ان تتغير الظروف

الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بخمس لغات عالمية
الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بأربع لغات عالمية
Rss
Facebook
Twitter
App Store
Mobile



عيون المقالات

رياح الشام

25/03/2025 - مصطفى الفقي

في الردّة الأسدية الإيرانية

22/03/2025 - عبد الجبار عكيدي

لن تحكموا سورية هكذا

20/03/2025 - مروان قبلان

حكّام دمشق وأقليّات باحثة عن "حماية"

13/03/2025 - عبدالوهاب بدرخان

بَين ثورتَي 1925 و2011: كم تساوي سوريا؟

12/03/2025 - إبراهيم الجبين

التطييف وبناء الوطنية السورية

11/03/2025 - رانيا مصطفى

فلول الأسد: التجربة المرة

11/03/2025 - فايز سارة

خالد الأحمد: المستشار المنفي

10/03/2025 - عروة خليفة

الجرح الاوربي ...عميق

04/03/2025 - سوسن الأبطح

في دمشق نسيتُ الفوتوغراف

04/03/2025 - غطفان غنوم


سوريا بين غياب المؤسسين وحصار الكاريزما: فشل بناء الدولة؟




لم تكن الكارثة السورية محض نتيجة لحكم مستبد أو ثورة ناقصة، بل كانت انعكاساً عميقاً لغياب النخب السياسية والفكرية القادرة على حمل مشروع وطني جامع. بين سلطة ترى الوطن مزرعة خاصة، ومعارضة تائهة بين الولاءات والمصالح، تاهت سوريا في البحث عن "القائد الضرورة" الذي ينقذها، فيما ظل الوطن بأسره بلا من يؤسسه فعلاً.


 تفريغ المفاهيم
تم تفريغ المفاهيم السياسية من جوهرها عمداً أو جهلاً. روّج النظام، وشاركه في ذلك جزء من المعارضة، لفكرة أن الديمقراطية هي صندوق انتخابي فحسب. وكأن الصراع على سوريا هو معركة إسقاط فرد واستبداله بآخر، لا معركة إعادة بناء الدولة من أساسها. تحوّلت الانتخابات إلى غاية، لا وسيلة. وغابت الأسئلة الكبرى: كيف نكتب عقداً اجتماعياً جديداً؟ كيف نحمي حقوق المواطنين على اختلاف قومياتهم وأديانهم وانتماءاتهم السياسية؟ كيف نبني دولة القانون لا دولة العائلة أو الطائفة أو الحزب؟
في هذا الفراغ، أعيد إنتاج مفهوم "القائد المنقذ". شخصيات تم تصديرها كبدائل محتملة، لا لامتلاكها مشروع دولة، بل لأن آلة الإعلام العربي والغربي وجدت فيهم فرصة لملء الفراغ وتفادي الفوضى. هكذا بقيت سوريا تدور في فلك البحث عن "الرجل المناسب"، بينما كانت بحاجة إلى رجال دولة ونخب تؤسس، لا تُدير الأزمة فقط.
في كل تجربة انتقال ديمقراطي ناجحة، كان وجود "آباء مؤسسين" شرطاً للعبور من القمع إلى الدولة الحديثة. نخب تعرف جغرافيا بلادها وتاريخها، تفهم التحولات الديمغرافية والاقتصادية، وتملك الشجاعة لصياغة دستور جديد، لا إعادة تدوير الاستبداد.
لكن سوريا، على مدار عقد كامل، افتقرت إلى هذه النخبة. فلا أحد امتلك الجرأة على فتح ملفات التهجير والتغيير الديمغرافي. ولا أحد طرح السؤال عن الثروة والموارد ومن يملك الحق في إدارتها. ولم يظهر من يستطيع تجاوز هواجس الطائفة والعشيرة والولاءات الخارجية.
 
اللحظة التأسيسية الحاسمة
على الضفة الأخرى من العالم، نجحت دول كانت غارقة في الدم والفوضى، لأنها امتلكت تلك اللحظة التأسيسية الحاسمة مثل: الولايات المتحدة التي خرجت من حرب أهلية طاحنة، لكنها أنجبت نخباً سياسية كتبت دستوراً صمد قروناً. حيث تمّت إدارة التعدد والاختلاف عبر القانون والعقد الاجتماعي لا عبر الغلبة والقتل.
أما جنوب إفريقيا فقد اختارت طريق المصالحة والعدالة بدل الثأر والانتقام. وكتب نيلسون مانديلا ورفاقه دستوراً جديداً يضمن الحقوق للجميع، ويحفظ توازن مجتمع شديد التعقيد.
كما صاغت ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية دستور "بون" الذي وضع الإنسان وكرامته في قلب المشروع الوطني. والأهم أن الجمهورية الجديدة لم تُبنَ على إنكار الماضي، بل على الاعتراف بالجرائم والتعهد بعدم تكرارها.
حتى تشيلي، بعد دكتاتورية بينوشيه، واجهت ماضيها بتأسيس "لجنة الحقيقة والمصالحة"، ووضعت ذاكرة الضحايا في قلب الدولة، لتمنع تكرار المأساة.
 
فخّ الفشل
لكن في المقابل، ثمة دول سقطت في فخ الفشل لأنها افتقرت لتلك النخبة القادرة على التأسيس:
العراق بعد 2003، نموذج صارخ على أن إسقاط الطاغية لا يعني بالضرورة بناء الدولة. غابت النخب الوطنية، وحلّ مكانها نظام محاصصة طائفي وعرقي عمّق الشرخ المجتمعي، وأعاد البلاد إلى حروب أهلية وصراعات مستمرة حتى اليوم.
ليبيا بعد القذافي، تحولت إلى ساحة مفتوحة للصراع بين أمراء الحرب والمليشيات، لأن لحظة التأسيس ضاعت في اقتتال على السلطة لا على شكل الدولة، فغرقت البلاد في فوضى السلاح والخراب.
حتى تونس التي حاولت، ولو بشكل متعثر، أن تكتب دستوراً جديداً بعد الثورة، سرعان ما ارتدت إلى مربعات الاستبداد. مقاومة الدولة العميقة، وعودة الشعبوية، وانقلاب المشهد السياسي، كلها عوامل جعلت التجربة التونسية تتعثر، رغم أنها كانت الأقرب لمحاولة إنتاج نخب تؤسس لدولة القانون.
إن ما جمع كل التجارب الناجحة هو إدراكها لحقيقة بسيطة: لا يمكن بناء دولة جديدة من دون مواجهة الماضي. والعدالة الانتقالية ليست ترفاً، بل ضرورة أخلاقية وسياسية. وهي التي تمنع تكرار المجازر وتضمن للضحايا مكاناً في ذاكرة الوطن، وتفتح الباب لمصالحة حقيقية.
مع الأسف، في سوريا، تم تجاهل هذا الملف حتى الآن.  ولم تجرؤ القيادة الجديدة على طرح خطة واضحة للعدالة والمحاسبة. هكذا تُرك السوريون أسرى لذاكرة مثقلة بالدم، لا أفق فيها سوى الانتقام.
العالم بأسره اليوم غارق في موجة شعبوية جارفة، لكن سوريا لا تملك ترف الانجراف أكثر. إنها بحاجة إلى نخب حقيقية، تكتب دستوراً لكل السوريين، وتبني مشروع وطن لا مجرد سلطة جديدة.
 
زعامات اللحظة
استمرار صناعة "زعامات اللحظة" وتسويق شخصيات بلا مشروع وطني، لن يقود إلا إلى جولة جديدة من الدم، ودولة مفخخة بالكراهية والحقد. وحدها النخب المؤسِّسة، العارفة بتفاصيل سوريا وتعقيداتها، قادرة على كتابة العقد الاجتماعي الجديد، وإطلاق مرحلة انتقالية تنتهي إلى انتخابات حرة تعبّر عن الجميع لا عن لحظة انتصار فريق على آخر.
في النهاية، لا تبنى الأوطان على ركام الكراهية ولا تُصاغ الدول في غرف الصفقات أو شاشات الإعلام. ما تحتاجه سوريا اليوم ليس قائدًا جديدًا ولا انتخابات شكلية، بل نخبة تمتلك شجاعة التأسيس، لا إدارة الخراب. نخبة قادرة على مواجهة الماضي بدل دفنه، وكتابة عقد اجتماعي يعيد تعريف الوطن والمواطنة والعدالة.
من دون ذلك، ستبقى سوريا تدور في حلقة مغلقة من الدم، حيث الضحايا والجلادون يتناوبون الأدوار، وحيث تتحول كل محاولة للخلاص إلى مدخل لمجزرة جديدة. وحده مشروع التأسيس- لا مشروع السلطة- يمكن أن يُعيد لهذه البلاد روحها، ويمنح أهلها فرصة أخيرة للخروج من هذا الجحيم.
-------
المدن

مها غزال
الثلاثاء 25 مارس 2025