لا أدري لماذا لم تقدم له الوزيرة الإسرائيلية ايليت شاكيد، التي صارت اليوم زعيمة حزب «يمينا»، العطر الذي روجت له في إعلان مصوّر، عام 2019 حيت كانت وزيرة العدل في الحكومة الإسرائيلية وكان اسم ذلك العطر «الفاشية».
الرئيس بايدن فضل أن يتعطّر بالنفط، وكان شرط الحصول على النفط، الذي سبق لنزار قباني أن عمّده عطراً خلال حرب تشرين 1973، هو محو دم جمال خاشقجي. التجأ الصحافي السعودي المعارض إلى واحة الديمقراطية والحريات في أمريكا، فذاق طعم الموت في إسطنبول، وطويت قصته بكلمات غائمة قالها بايدن، وهي تشبه كلام بيان وزارة الخارجية الأمريكية عن لا مسؤولية الجيش الإسرائيلي عن قتل شيرين أبو عاقلة.
الأمريكيون يتخبطون في هذه الحرب العالمية التي افتتحتها الحرب الأوكرانية، حلفاؤهم الأوروبيون يرتجفون برداً في عز الصيف، خوفاً من نقص الغاز والنفط في موسم الشتاء.
لا تملك أمريكا وسط هذا التخبط الذي تعانيه إدارة بايدن، سوى ممحاة كبيرة تبيعها لحلفائها.
محو فلسطين إرضاء للإسرائيليين، وبيع العرب كلاماً فارغاً عن حل الدولتين، الذي يعلم الجميع أنه تحلل على أيدي الإسرائيليين.
ومحو جرائم المستبدين العرب عبر ابتلاع كل الكلام عن حقوق الإنسان.
محو مزدوج يشتري به بايدن فترة سماح تسمح له بعبور امتحان الانتخابات النصفية للكونغرس الأمريكي، وتغطي تردده أمام إبرام صفقة مع إيران، قبل أن ينجح بوتين في خنق أوروبا بالنفط والغاز.
تبدو الأمور أشبه بالمتاهة، لكن المسألة هي أن ما تبقى من العرب يدخلون هذه المتاهة بلا دليل.
تخلوا عن عنصر وحدتهم الشكلية التي اسمها فلسطين، ليجدوا أنهم صاروا خارج اللعبة، لأنهم حولوا أنفسهم وبلادهم إلى مجرد ساحة مفسحين المجال أمام إسرائيل لتكون لاعباً أساسياً ومقرراً.
وإسرائيل لا تلعب مع الفلسطينيين والعرب الآخرين سوى لعبة واحدة اسمها لعبة الممحاة. شرط وجود الدولة اليهودية الصهيونية هو محو الآخرين. هذا ما فعلته الآلة العسكرية والإعلامية الصهيونية طوال سبعة عقود ولن تتوقف عن القيام به حتى يحين الحين.
ولأننا اعتدنا على الممحاة الإسرائيلية، فقد فوجئنا بنص صغير نُشر على موقع المكتبة الوطنية الإسرائيلية في الذكرى الخمسين لاستشهاد غسان كنفاني، وهو بعنوان: «في ذكرى غسان»، وجاء فيه: «ذهب غسان وبقيت روحه ورسائله وإرثه ورواياته ووصاياه عالقة في أذهان أحبائه. اليوم، في الذكرى الخمسين لرحيله، تلقي ذكرى غسان كنفاني الظلال لتغطي كل ما هو خارج البوصلة، ويبقى الدرب الذي اختاره مضاء لمتابعيه ومحبيه».
توحي قراءة هذا النص بمدى ارتباك كاتبه وتردده وقدرته على التحايل، فغسان قتله الموساد الإسرائيلي ولم «يرحل»، ولكن ما معنى قول الكاتب إن ذكرى غسان «تلقي الظلال لتغطي كل ما هو خارج البوصلة»، ماذا تعني كلمة بوصلة، هل قصد الكاتب أن يقول إن فلسطين هي البوصلة؟
هذا نص مهرّب، ولا شك أن كاتبه أراد التوقف أمام ذكرى رمز فلسطيني كبير، فتلاعب بالكلمات كي يعطي كلامه صدقية مفاجئة لمؤسسة إسرائيلية بنيت على أرض فلسطينية مصادرة في منطقة «الشيخ بدر» التي أطلق عليها الإسرائيليون اسم «غيفعات رام» في القدس.
في هذه المكتبة التي هي اليوم جزء من الجامعة، نعثر على آلاف الكتب العربية التي نهبت من بيوت الفلسطينيين في القدس الغربية. لصوصية فاقعة لم تعد سراً، بعد تلك الزيارة التي قامت بها هالة ابنة خليل السكاكيني إلى المكتبة الإسرائيلية، لتكتشف أن مكتبة والدها، التي كانت علامة ثقافية كبرى في القدس، موجودة في المكتبة الوطنية الإسرائيلية، وعندما طالبت باستردادها جاءها جواب إسرائيلي بالرفض.
في هذه المكتبة حاولت إسرائيل ابتلاع التاريخ الثقافي الفلسطيني ومحوه، هنا نجد كتب السكاكيني وخليل بيدس وإسعاف النشاشيبي، وغيرهم، وقد تحولت إلى أملاك متروكة فاستولى عليها أصدقاء بايدن الإسرائيليون. لذلك كان هذا النص الصغير عن غسان كنفاني مفاجئاً، على الرغم من نواقصه ومحوه لواقعة الاغتيال الوحشية التي حولت جسد الكاتب إلى أبجدية من الدم. غير أن المفاجأة سرعان ما تلاشت، القناة السابعة الإسرائيلية هاجمت المكتبة باعتبارها تروج لأحد «المخربين»، وإدارة المكتبة محت النص عن موقعها، معلنة «أنه حين عرفت الإدارة بالنص قررت محوه لأن نشره كان خطأ كبيراً». بالنسبة لإدارة المكتبة فالخطأ لا يكمن في جريمة الاغتيال، ولا في نهب كتب الفلسطينيين، بل في نشر نص صغير يذكر ببوصلة غسان كنفاني!
مكتبة اللصوص أرادت أن تمحو جريمتها، فلم تجد سوى نص هرّبه موظف عن غسان، لتعلن من خلاله أنها جزء من مشروع المحو المنظم لحاضر أرض فلسطين وتاريخها. يقتلون وينهبون ويمحون ضحيتهم.
لم تعد الدولة الصهيونية معنية بمحو جرائمها، فالجريمة تغطي كل شبر من المكان، بل صارت معنية بمحو ذكر الضحية واسمها ووجودها.
هذه هي اللعبة الجديدة التي ينخرط فيها العرب في هذه اللحظة المنقلبة، وسيكونون ضحيتها الجديدة.