وعليه، فإن المصدر إياه يدعو في طيات كلامه إلى هجمات وغزوات عسكرية متتالية، لكي يثبت بالبرهان الاستنتاج الذي توصل إليه المراسل العسكري الإسرائيلي الأبرز في مجاله يوسي يهوشع، ومؤداه أن بلاده “لديها دوما المزيد من المفاجآت والتحديات التي ترميها في وجه عدوها وتبقيه في حال من الإرباك والضياع”.
ويتضح من هذا الخط التصعيدي، أن القيادة الإسرائيلية باتت توقن أن “فرصة الإجهاز المادي والمعنوي على الحزب كانت محطتها الاستهلالية ضربة الضاحية الثانية المتمثلة باغتيال فؤاد شكر، باعتبار أن الضربة الأولى تجسدت في اغتيال القيادي في حركة “حماس” صالح العاروري إبان وجوده هناك، وهذه الفرصة لن تطول. ومن هنا حدد المصدر عينه عنصرين أساسيين يمكن الحزب إذا استطاع استيعابهما العودة إلى حال التعافي وامتصاص الضربة، وهما: إعادة بناء أنظمة اتصالات جديدة بدل تلك التي خرجت من الخدمة، وتجديد مقاتليه، أي الاستعاضة عن الذين “حيدوا” بالضربتين (نحو 3500 وفق تقديرات غير نهائية). وكلاهما بطبيعة الحال خريطة الطريق المضمونة لاستعادة الحزب قوة الردع وصورة المهابة التي كونها عند مريديه وأعدائه على حد سواء.
ولا شك في أن هذا المصدر الإسرائيلي يعي تماما أن مسألة أنظمة الاتصالات هي إحدى نقاط الضعف الأساسية التاريخية عند الحزب، إن لم تكن النقطة الأبرز. فالحزب عندما خاض مواجهات ضارية في 7 أيار عام 2008 لكي يحول دون تنفيذ قرار اتخذته حكومة الرئيس فؤاد السنيورة في ذلك الحين لتفكيك شبكة الاتصالات الأرضية التي مدها بإمكاناته الذاتية في 80 في المئة من الأراضي اللبنانية، إنما كان يدافع عن أحد “عناصر الحماية والأمان والحصانة” إلى درجة أنه أعرب في حينه عن استعداده للمضي في حرب أهلية واسعة ما لم تتراجع الحكومة عن قرارها. وقد كان جادا في ذلك ليقينه بالأهمية الإستراتيجية لهذه الشبكة في حربه ضد الإسرائيليين.
لكن الأمر على بلاغته لم يكن كافيا لكي يضمن الحزب اتصالات مأمونة وبعيدة من آذان العدو. لذا انطلق في رحلة بحث مضنية عن شبكة اتصالات مأمونة، خصوصا بعدما وسع مديات انتشاره العسكري وزاد أضعافا مضاعفة عديد مقاتليه. وعندما تيقن من أن شبكة الاتصالات التي بين يديه مخترقة من عدوه وأنها أحد أسباب نجاح الاحتلال في اغتيال 80 في المئة من مقاتليه، قاده بحثه إلى نظام “البايجر” القديم المهجور بعد انتشار الهاتف المحمول.
والمعلوم في هذا السياق أن إسرائيل نجحت منذ 8 تشرين الأول في اغتيال نحو ثمانية من عقوله في ميدان هندسة الاتصالات، أبرزهم علي محمد حدرج من البازورية ورفيق آخر له من بلدة الطيبة، وقضيا معا.
ولقد اتضح أن الإسرائيلي أيقن أن الحزب ذاهب إلى هذا الخيار، فنصب كمينه عبر التفخيخ المسبق لكل الصفقة التي استوردها الحزب من الخارج (تايوان أو سواها).

وبمعنى آخر، كانت لدى تل أبيب فرصة ذهبية لتحويل عملية استيراد تلك الأنظمة من عنصر أمان للحزب ومقاتليه إلى عنصر “إعدام بالجملة” من دون الحاجة إلى إرسال فرق إعدام وخلايا تصفية، فكانت عملية إعدام جماعي “نظيفة وغير مكلفة”.
والأهم من النتائج العسكرية، على جسامتها، أن الشعور بالمرارة والهزيمة انتاب قاعدة الحزب اللصيقة وبيئته الحاضنة، خصوصا وهي تشهد آلاف مقاتلي الحزب وكوادره يتساقطون أمام عيونهم وبين ظهرانيهم، قتلى أو جرحى.

وقد انبرى الكاتب والأكاديمي والباحث السياسي القريب من الحزب الدكتور #حسام مطر ليقدم صورة مكثفة عن نتائج ما أقدم عليه الإسرائيلي، فكتب: “في عمليتي تفجير البايجر والأجهزة اللاسلكية يحاول العدو تحقيق ما يطلق عليه “الانهيار الإدراكي” من خلال عمليات صادمة تدفع الخصم إلى الاعتقاد أنه منعدم الخيارات. المطلوب كيّ الوعي وبث الشك (لدى المقاومة وجمهورها) بكل شيء، إلى درجة الإحساس بالشلل، في مقابل تضخيم ما لدى العدو من قدرات واقعا”.
ويضيف مطر: “هدف العدو الآن يسمى التصعيد ضمن حرب استنزاف غير متماثلة. وهو (العدو) يقول إما أن توقفوا جبهة الإسناد، وإما أنا ذاهب إلى خطوات تصعيدية”.
ويخلص إلى الترجيح أن “العدو سيذهب إلى تصعيد مركز في الأهداف العسكرية (مع زيادة كما ونوعا) من دون استبعاد مناورة برية تطاول قرى الحافة الأمامية أو بعضها، وخصوصا تلك التي لها رمزية جغرافية”.

والواضح أن إسرائيل اختارت اللحظة المناسبة لها لتضرب ضربتيها الموجعتين، فهي كانت تقبض على زر تفجير “البايجرات” منذ أن اشتراها الحزب وصارت بين يدي عناصره قبل نحو ثلاثة أشهر، ووفق روايات أخرى قبل نحو خمسة أشهر. وقد اختارت أن تضغط على زر التفجير بعدما قررت أن تمضي إلى مرحلة احتدام متطورة من المواجهات مع الحزب. وقد كشف نتنياهو عن هذه المرحلة ومواصفاتها قبيل أيام عندما قال إنها ستكون “عمليات تطهير منتقاة لأهداف على الجانب اللبناني من الحدود”. وذهب وزير حربه غالانت إلى التلميح بأنها قد تكون حربا واسعة عندما قال “إن مركز الثقل يتحول إلى الشمال من خلال تحويل الموارد والقوات”.
وبناء عليه، بات واضحا أن إسرائيل تحرص على ألا تعطي عدوها فرصة التقاط الأنفاس واستعادة التوازن والبقاء في حال من الإرباك أمام مزيد من المفاجآت المخبوءة.
كل هذا يوجب على “حزب الله” بذل جهود استثنائية ليستعيد “قوة الرد وصورة المهابة” التي فقدها أخيرا ويحول دون أن تتحول صورته إلى ما يشبه الخروج العسكري الفلسطيني من بيروت في آب عام 1982.
فهل يمتلك هذه الفرصة؟ الميدان شاهد.
------------

النهار العربي