غضب الآلهة ووخز الجن
بشكل عام، أرجع العرب قبل الإسلام أسباب الأوبئة إلى "غضب الآلهة على الناس، وإلى أرواح شريرة تصيب الجسم من الأكل والشرب، وإلى أنواع من الهوام والحشرات"، ذكر علي، مشيراً إلى أن أشهر الأوبئة كانت الحمى والطاعون والجدري والجذام.
فعلى سبيل المثال، نسبوا الطاعون إلى "وخز الجن"، فهو يقع لأن الجن تطعن الشخص وتخزه.
وكانت الحروب من الأسباب التي ولّدت أوبئة في المنطقة العربية الجنوبية، إذ كانت "تأتي على عدد كبير من الناس، فتتركهم جثثاً تتعفن على ظاهر الأرض، كما كانت تأتي على مواطن السكن ومواضع المياه، وعلى كل ما يملكه الناس، وتزيد في مشكلة الفقر مشكلة، وتبعد الناس عن النظافة، فتهيئ بذلك للأوبئة أمكنة جيدة، لتلعب بها كيف تشاء"، ذكر علي.
كما لعبت معطيات البيئة في شبه الجزيرة العربية دوراً في إصابة أهلها بالأمراض، مثل الحمى التي انتشرت في أماكن فيها الينابيع والمستنقعات والمياه الآسنة الواقفة وما شاكل ذلك من أمكنة. ولمّا كان العرب في حاجة شديدة إلى الماء، كانوا يشربون منها اضطراراً، فيصابون بأنواع من الأمراض.
ويذكر علي أن وسائل الوقاية من البعوض الناقل للحمى كانت غير معروفة، كما أن وسائل العناية بالصحة وتنظيف الجسم لم تكن متوفرة بسبب طبيعة حياة العرب حينذاك، لذلك صارت أجسامهم معرّضة لمختلف الأمراض، لا سيما بين "أهل المدر" (العرب المستقرين) الذين لم تكن بيوتهم صحية، ولا مياههم نقية، وكانت بيوتهم ضيقة، لذلك كانوا يصابون بالسل وبالأمراض الأخرى، أكثر من الأعراب المتباعدين في السكن، والذين لا يعرفون البعوض، ويستنشقون الهواء النقي، وتقيهم الشمس من شر الجراثيم.
وعرف العرب قبل الإسلام السل بـ"داء إلياس"، لأن إلياس بن مضر الجد السادس للرسول محمد أوّل مَن مات به، وسمي أيضاً بـ"ياس".
وفي تلك الأزمنة أيضاً، تفشت أمراض جلدية، لقلة العناية الطبية وعدم توفر وسائل النظافة بين معظم الناس، ولسوء تغذيتهم بسبب فقرهم العام
فانتشر "البرص"، وكانوا يطلقون عليه "الوضح" كذلك، لبياض يظهر في ظاهر البدن، ومنه قيل لجذيمة الأبرش ثالث ملوك تنوخ وأول ملك للحيرة (233– 268) جذيمة الوضاح، وأصيب به الحارث بن حلزة اليشكري، من عظماء قبيلة بكر بن وائل وجماعة آخرون من الأشراف.
وكان الناس يكرهون مجالسة البرص خشية العدوى. يذكر علي أن قريش أخرجت الشاعر أبا عزة عمرو بن عبد الله بن عمير بن وهيب بن حذافة، وكان مصاباً بالبرص، من مكة مخافة العدوى، فكان يمكث ليلاً في شُعف الجبال، ونهاراً يستظل بالشجر.
وكانوا يبتعدون عن المصاب بمرض الجذام المعدي، والذي تنتشر بقع سوداء في جسمه، فيفسد مزاج الأعضاء وهيأتها، وربما ينتهي الأمر بتقطع الأعضاء وسقوطها بسبب التقرح، وعن المصاب بـ"البهق"، هو مرض جلدي أيضاً، يترك بياضاً في الموضع المصاب من الجسد.
ومن الأوبئة التي شهدتها الجزيرة العربية قبل الإسلام نوع من البثور يخرج في البدن، دعوه بـ"العدسة"، وهو عبارة عن بثرة صغيرة شبيهة بحبة العدس، تخرج على الجسم مفرقة، كالطاعون، فتقتل المصاب بها غالباً.
والظاهر أن هذا المرض كان منتشراً في مكة، فقد رُوي أن قريشاً كانت تتقي العدسة، وتخاف عدواها، حسبما ذكر علي.
وعُرفت "الحصبة" في تلك الفترة، والجدري، وذُكر أن العرب عالجتهما بمُرار الشجر، وبنباتي الحنظل والحرمل.
الحجر الصحي والعزل الذاتي
لم يقف العرب وقتئذ مكتوفي الأيد أمام هذه الأوبئة والأمراض الفتاكة، بل واجهوها بوسائل عدّة، منها ما يُعرف في وقتنا الحالي بالحجر الصحي. بحسب علي، "كان الجاهليون يعرفون عدوى بعض الأمراض، فكانوا يتجنبونها، ولا يقتربون من المريض المصاب بها، ويطلقون عليها العدوى، فكانوا إذا أصيبوا بأوبئة، فرّوا إلى أماكن بعيدة سليمة تهرباً منها، وحجروا على المريض، لألا يقرب منهم، فينتقل المرض اليهم، مثل الجذام"
وفي أوقات انتشار الأوبئة، كان الأغنياء والموسرون يفرون من الأماكن المزدحمة إلى أماكن بعيدة، ويلجأون إلى الصحاري ابتعاداً عن المصابين.
السحر والكهنة في مواجهة الوباء
ولما كان العرب قبل الإسلام عاجزون عن تفسير أسباب المرض والوباء تفسيراً علمياً، كانوا يتطبّبون بالسحر والرقى والتعاويذ والتبرك بالهياكل، والتوسل إلى الأصنام، وتلاوة العزائم، لطرد الجن والشياطين من الجسد، ودفع الأذى، وجلب النعيم والخير، حسبما ذكر الدكتور محمد سهيل طقوش في كتابه "تاريخ العرب قبل الإسلام".
ويذكر علي أن تطبيب الأمراض كان من واجب الكهان ورجال الدين بالدرجة الأولى، باعتبارهم المقربين من الآلهة، فهم مَن يداوون المريض، ويعطونه الوصفات التي أخذوها عمَّن سبقوهم ومن تجاربهم الخاصة، ويعتقدون أن فيها الشفاء.
ذكر جرجي زيدان في كتابه "تاريخ التمدن الإسلامي"، أن العرب قبل الإسلام كانوا إذا خافوا وباءً نهقوا نهيق الحمار، اعتقاداً منهم بأن ذلك يحميهم منه
وتحوي النصوص العربية الجنوبية توسلات وتضرعات كثيرة إلى الآلهة، لأن تمنّ على المتوسلين إليها بالصحة والعافية، وبالشفاء من الأمراض التي نزلت بهم، وبحمايتهم من الأوبئة المتفشية.
وفي ما خص مواجهة الأرواح الشريرة بالتعاويذ، ذكر علي أن العرب علّقوا قبل الإسلام العظام، أو المعادن، أو نعل الحيوان مثل نعل الفرس، ورسموا العين واليد على الجدران وفوق الأبواب، لحماية أنفسهم من العيون المؤذية ومن حسد الحاسدين.
وذكر جرجي زيدان في الجزء الثالث من كتابه "تاريخ التمدن الإسلامي"، أن العرب كانوا إذا خافوا وباءً نهقوا نهيق الحمار، اعتقاداً منهم بأن ذلك يحميهم منه، كما كانوا يعتقدون أن شرب دماء الملوك تشفي من الخبل.
أطباء وعقاقير
مع مرور الزمن، وبفعل الملاحظة وتجارب الحياة، حصّل العرب بعض المعارف الطبية، فاستعملوا العقاقير التي استخرجوها من النباتات والأشجار ومنتجات الحيوان، حسبما يذكر طقوش.
وظهر بينهم أطباء حازوا صيتاً بين القبائل، على نحو ما كان لزهير بن جناب الكلبي التغلبي، والذي اشتهر بـ"طبيب الملوك"، والحارث بن كلدة الثقفي، الذي تلقى تعليمه في فارس وعرف بـ"طبيب العرب"، والنضر بن الحارث بن كلدة بن عبد مناف، الذي كان من أشراف قريش وحاز بعض علوم الطب.
ويدخل ضمن قائمة أطباء العرب قبل الإسلام ضماد بن ثعلبة الأزدي الذي اشتهر بممارسة الطب ومداواة المرضى من الريح، وكان صديق الرسول قبل البعثة، وآمن برسالته بعدها، وكذلك ابن حُذيم الذي برع في الكي، ونال شهرة واسعة في المجتمع، وضُرب به المثل فقيل "أطب من حُذيم"، ذكر طقوش.
واجه العرب قبل الإسلام الأرواح الشريرة التي تصيبهم بالأوبئة بالتعاويذ، فقد علّقوا العظام، أو المعادن، أو نعل الحيوان مثل نعل الفرس، ورسموا العين واليد على الجدران وفوق الأبواب، لحماية أنفسهم من العيون المؤذية
على كلٍ، وكما يذكر زيدان، كانت معالجة العرب قبل الإسلام لأمراضهم شبيهة بما كان عند المصريين وغيرهم من الأمم القديمة، فكانوا يعالجون بالعقاقير البسيطة أو الأشربة وخصوصاً العسل، والذي كان قاعدة العلاج لديهم في أمراض البطن.
غير أن اعتمادهم في معالجة الأمراض كان معظمه عائداً إلى الكي، ومن أقوالهم "كل داء حُسم بالكي آخر الأمر، وآخر الطب الكي".
وبحسب زيدان، كثيراً ما كان العرب يعالجون بالقطع أو البتر، والغالب أن يكون ذلك بالنار التي كانت تقوم عندهم مقام مضادات الالتهاب (المطهرات) في الوقت الحاضر، فإذا أرادوا فصل عضو حمّوا شفرة بالنار وقطعوه بها.
ويذكر علي أن العرب استعملوا "الكي" أيضاً لعلاج "الشوكة"، وهي حُمرة تظهر في الوجه وغيره من الجسد، وكانت داءً كالطاعون، وكانوا يسكّنونها بالرقى كذلك.
وفي جملة معالجات الأطباء ووصفاتهم استعملوا الحجامة، أي "استخراج مقدار من الدم بكأس يسحب هواؤها بالمص، فيخرج الدم من الشروط التي عُملت في ظهر الرقبة"، وبحسب علي، استخدموها في معالجة الشقيقة والصداع، كما استعملوا ديدان خاصة لامتصاص الدم.
كما استخدموا الفصد، وهو شق العرق لإخراج مقدار من الدم لمعالجة بعض الأمراض.
وعالج العرب الأورام التي تصيب الجلد بالمناقيع واللصقات، ولا سيما اللصقات الحارة، كي تعجل في إخراج الصديد من العضو المتورم، وبحسب وصف علي، نتجت هذه اللصقات من "سحق بعض الحبوب ذات المادة الدهنية، مثل حب الكتان أو حب البخور، وبعد سحقها توضع على النار، ثم تفرغ في قماش لتوضع فوق الورم لإزالته، وتحويله إلى صديد".
واستعملت اللصقات من مواد أخرى مثل التمر مع الزبد وأمثالها، وكلها ترتكز على أساس إن الدفء الذي يكون فيها يسبب زوال الورم وتحوّل الدم الفاسد إلى صديد يخرج أو يجف.
التطبيب في البيئة البدوية
ويذكر طقوش أن استخدام العقاقير كان قاصراً على أهل المدن والمراكز الحضرية، ولكن في البادية اختلف الأمر، إذ اعتمد التداوي على العرف والعادة، وعلى طب تقليدي موروث عن الآباء والأجداد، ومبني على تجربة قاصرة، ربما يصح منه البعض.
ويقوم هذا النوع من التطبيب على المداواة بالأعشاب، والرماد، والألبان، وبول الإبل، وهي عقاقير مأخوذة من البيئة البدوية.
ولم يكن هناك اتصال بين طب الأعراب وطب العالم الخارجي، إلا ما كان من طب القبائل الضاربة على أطراف الحواضر ولها اتصال مباشر بهذا العالم. وبحسب طقوش، لم يكن البدوي يثق إلا بنفسه، ولا يرى الشفاء إلا من أطبائه وبالأدوية التي يعرفها، لكنه كان يلجأ إلى أطباء الحضر لمعالجة الأمراض الصعبة والعسيرة، والحالات المهمة جداً كالعقم.
-------------
رصيف 22