وعلماء الاجتماع بحثوا ظاهرة البطل كثيراً، وحاولوا تعريفه بعدة تعريفات يتفق أغلبها على أنه كل شخصية ملهمة وفذّة وآتية بما هو خارق من الأفعال. ولكل مجتمع أن يعرّف، حسب ثقافته، ما هو ملهمٌ وفذّ وخارق. والتنقيب في تاريخ المجتمعات عندما يتعلق الأمر بالأبطال سهلٌ وممكن لأن الشعوب تخلّد أبطالها أكثر مما تخلّد رموزها المقدسة الأخرى. والكثير من الحضارات القديمة وصلنا منها سير كاملة عن أبطالها الشعبيين بينما لا نكاد نعرف أسماء الآلهة التي عبدوها، والملوك الذين حكموهم.
التاريخ العربي والإسلامي لديه أبطال كثر، بعضهم لا يختلف عليه أحد، وبعضهم الآخر يكاد الناس يحتربون حولهم فتسيل الدماء. ولكن علينا، عندما نبحث في تاريخ البطولة العربي والإسلامي، أن نميّز بين من هو (بطل) ومن هو (مقدّس). فالرمز الديني مثلاً قد ينال شعبية تاريخية ورمزية عالية وتقديساً أبدياً ليس لفعل بطولة أتى به، ولكن لمكانته الدينية وأسبقيته وتمسكه بالقيم الأصلية. وقد تجتمع الصفتان في شخص واحد. ولكن، برأيي، أن (البطل) هو من يشقّ هرمية المجتمع صاعداً نحو الأعلى بمحض أفعاله التي لو لم يأت بها لما سمع به أحد، و(المقدس) هو من أسبغت عليه الظروف الاجتماعية والتاريخية مكانة رمزية اعتبارية تحفظ له التقدير والتقديس دون أن تحفظ له عملاً يميّزه عن غيره أو قصة يخلدها التاريخ.
الغالبية العظمى من أبطال التاريخ العربي والإسلامي هم قادة عسكريون. ومهمة علماء الاجتماع والمؤرخين هي تحديد الأسباب التي جعلت المجتمعات العربية والإسلامية السابقة، بامتداداتها الثقافية في المجتمعات المعاصرة، تنتخب البطل الحربيّ وتتجاهل الآخرين ممن أتوا بأفعال بطولية غير حربية. التاريخ العربي الإسلامي يمنح (البطولة) للفاتحين والقادة والمحاربين بسهولة، بغض النظر عما قد يكتنف سيرهم من ظلم أو يقف وراء حروبهم من مآرب، وبغض النظر عما إذا كانت الدماء التي على سيوفهم مبررة أو غير مبررة. كل هذه التفاصيل تسقط سهواً أو عمداً إزاء الأثر الكبير الذي تحدثه أفعالهم سواء في صدور العامة أو ساحات القتال. وفي المقابل، فإنه يتردد كثيراً في منح (البطولة) للعلماء والمفكرين والفنانين والمصلحين الاجتماعيين والمخترعين إلا بعد فحص وتمحيص شديدين، ومسح دقيق لمرجعياتهم الفكرية والثقافية، وقناعاتهم الدينية، وميولهم المذهبية والسياسية. إن أثر كل فرد على مجتمعه، سواء كان قائداً حربياً أو مخترعاً، ليس معياراً أساسياً هنا، بل المعيار هو قدرته على إلهام العامّة، وخرق العادة، وسبك الحكاية القابلة للانتشار والخلود.
أثر ذلك على المجتمعات العربية والإسلامية السابقة هو أنها منحت دوافع مستمرة للناس ينخرطون معها في الجيوش، ولم تمنحهم دوافع للانكباب على الاختراع والابتكار مثلاً. وإذا نفضنا كتب التاريخ الإسلامي خرجنا بمئات السير والتراجم لقادة الفتوحات مقابل العشرات فقط من سير المخترعين والأطباء وعلماء الطبيعة والكيمياء. ولن نحيل ذلك للبعد الحضاري والزمني فحسب، لأن الحضارة اليونانية التي سبقت ذلك بقرون كثيرة كان عدد فلاسفتها يوازي عدد محاربيها إن لم يفقه، آخذين في الاعتبار أن لقب الفيلسوف كان يشمل علماء الرياضيات والجبر والهندسة والطبيعة والطب وغيرها. كانت مدارس الفلسفة في المجتمعات اليونانية تعج بالطلبة مثلما تعجّ المدارس الحربية بالمحاربين. كلهم يفتش عن مجد ما في إحدى الساحتين: الحرب أو العلم.
إذن، كان نيل البطولة في التاريخ العربي والإسلامي سهلاً نسبياً لكل محارب ذي قدرات قيادية جيدة، ولكن لم يكن سهلاً لكل من عدا ذلك ممن يملكون مواهب أخرى. حتى وهي مجتمعات تقدّر الفصاحة واللغة والشعر، فإن ذلك لم يشفع للشعراء أن يصيروا أبطالاً وإن طبّقت شهرتهم الآفاق. وقد مات (المتنبي) وفي نفسه شيءٌ من هذه البطولة لم يعترف له أحدٌ بها. وما زال الجدل حول سلامة معتقدات ابن سينا والرازي قائماً حتى الآن، بينما لا أحد يناقش معتقدات المهلب ابن أبي صفرة، ولا صلاح الدين الأيوبي، ولا يوسف بن تاشفين، ولا أحد يهتم بفتح باب التساؤل حول مذاهبهم ومعتقداتهم كما فعلوا مع ابن حزم والخوارزمي وابن الهيثم.
الإرث الثقافي لمعايير البطولة انسحب على المجتمعات العربية المعاصرة. فالمهندس الذي يبتكر نظاماً بيئياً ينقذ به أرواح مئات الناس لا يذكر، والسياسيّ الذي يطنطن في ميكرفون بما يهدد أرواح مئات الناس يحمله الناس على الأكتاف. والكادح الذي يعول أبناءه السبعة، وأبناء أخيه اليتامى الأربعة، وينجح بعد عشرين سنة في إدخالهم جامعات كبرى لا يصفق له إلا محيطه الأسري، والإعلامي الذي يطرح آراء ملتهبة على شاشة قناة فضائية يصبح رمزاً للكفاح والصمود قبل أن يمسح بودرة الزينة عن وجهه. المجتمعات هي التي حددت معايير البطولة، واتفقت جمعياً على مصادر الإلهام على أن تكون عاطفية تقدّم الصوت، على أن تكون عقلانية تقدّم الفعل. واستجاب الناس لهذه المعايير بشكل غريزي كما هو متوقع
التاريخ العربي والإسلامي لديه أبطال كثر، بعضهم لا يختلف عليه أحد، وبعضهم الآخر يكاد الناس يحتربون حولهم فتسيل الدماء. ولكن علينا، عندما نبحث في تاريخ البطولة العربي والإسلامي، أن نميّز بين من هو (بطل) ومن هو (مقدّس). فالرمز الديني مثلاً قد ينال شعبية تاريخية ورمزية عالية وتقديساً أبدياً ليس لفعل بطولة أتى به، ولكن لمكانته الدينية وأسبقيته وتمسكه بالقيم الأصلية. وقد تجتمع الصفتان في شخص واحد. ولكن، برأيي، أن (البطل) هو من يشقّ هرمية المجتمع صاعداً نحو الأعلى بمحض أفعاله التي لو لم يأت بها لما سمع به أحد، و(المقدس) هو من أسبغت عليه الظروف الاجتماعية والتاريخية مكانة رمزية اعتبارية تحفظ له التقدير والتقديس دون أن تحفظ له عملاً يميّزه عن غيره أو قصة يخلدها التاريخ.
الغالبية العظمى من أبطال التاريخ العربي والإسلامي هم قادة عسكريون. ومهمة علماء الاجتماع والمؤرخين هي تحديد الأسباب التي جعلت المجتمعات العربية والإسلامية السابقة، بامتداداتها الثقافية في المجتمعات المعاصرة، تنتخب البطل الحربيّ وتتجاهل الآخرين ممن أتوا بأفعال بطولية غير حربية. التاريخ العربي الإسلامي يمنح (البطولة) للفاتحين والقادة والمحاربين بسهولة، بغض النظر عما قد يكتنف سيرهم من ظلم أو يقف وراء حروبهم من مآرب، وبغض النظر عما إذا كانت الدماء التي على سيوفهم مبررة أو غير مبررة. كل هذه التفاصيل تسقط سهواً أو عمداً إزاء الأثر الكبير الذي تحدثه أفعالهم سواء في صدور العامة أو ساحات القتال. وفي المقابل، فإنه يتردد كثيراً في منح (البطولة) للعلماء والمفكرين والفنانين والمصلحين الاجتماعيين والمخترعين إلا بعد فحص وتمحيص شديدين، ومسح دقيق لمرجعياتهم الفكرية والثقافية، وقناعاتهم الدينية، وميولهم المذهبية والسياسية. إن أثر كل فرد على مجتمعه، سواء كان قائداً حربياً أو مخترعاً، ليس معياراً أساسياً هنا، بل المعيار هو قدرته على إلهام العامّة، وخرق العادة، وسبك الحكاية القابلة للانتشار والخلود.
أثر ذلك على المجتمعات العربية والإسلامية السابقة هو أنها منحت دوافع مستمرة للناس ينخرطون معها في الجيوش، ولم تمنحهم دوافع للانكباب على الاختراع والابتكار مثلاً. وإذا نفضنا كتب التاريخ الإسلامي خرجنا بمئات السير والتراجم لقادة الفتوحات مقابل العشرات فقط من سير المخترعين والأطباء وعلماء الطبيعة والكيمياء. ولن نحيل ذلك للبعد الحضاري والزمني فحسب، لأن الحضارة اليونانية التي سبقت ذلك بقرون كثيرة كان عدد فلاسفتها يوازي عدد محاربيها إن لم يفقه، آخذين في الاعتبار أن لقب الفيلسوف كان يشمل علماء الرياضيات والجبر والهندسة والطبيعة والطب وغيرها. كانت مدارس الفلسفة في المجتمعات اليونانية تعج بالطلبة مثلما تعجّ المدارس الحربية بالمحاربين. كلهم يفتش عن مجد ما في إحدى الساحتين: الحرب أو العلم.
إذن، كان نيل البطولة في التاريخ العربي والإسلامي سهلاً نسبياً لكل محارب ذي قدرات قيادية جيدة، ولكن لم يكن سهلاً لكل من عدا ذلك ممن يملكون مواهب أخرى. حتى وهي مجتمعات تقدّر الفصاحة واللغة والشعر، فإن ذلك لم يشفع للشعراء أن يصيروا أبطالاً وإن طبّقت شهرتهم الآفاق. وقد مات (المتنبي) وفي نفسه شيءٌ من هذه البطولة لم يعترف له أحدٌ بها. وما زال الجدل حول سلامة معتقدات ابن سينا والرازي قائماً حتى الآن، بينما لا أحد يناقش معتقدات المهلب ابن أبي صفرة، ولا صلاح الدين الأيوبي، ولا يوسف بن تاشفين، ولا أحد يهتم بفتح باب التساؤل حول مذاهبهم ومعتقداتهم كما فعلوا مع ابن حزم والخوارزمي وابن الهيثم.
الإرث الثقافي لمعايير البطولة انسحب على المجتمعات العربية المعاصرة. فالمهندس الذي يبتكر نظاماً بيئياً ينقذ به أرواح مئات الناس لا يذكر، والسياسيّ الذي يطنطن في ميكرفون بما يهدد أرواح مئات الناس يحمله الناس على الأكتاف. والكادح الذي يعول أبناءه السبعة، وأبناء أخيه اليتامى الأربعة، وينجح بعد عشرين سنة في إدخالهم جامعات كبرى لا يصفق له إلا محيطه الأسري، والإعلامي الذي يطرح آراء ملتهبة على شاشة قناة فضائية يصبح رمزاً للكفاح والصمود قبل أن يمسح بودرة الزينة عن وجهه. المجتمعات هي التي حددت معايير البطولة، واتفقت جمعياً على مصادر الإلهام على أن تكون عاطفية تقدّم الصوت، على أن تكون عقلانية تقدّم الفعل. واستجاب الناس لهذه المعايير بشكل غريزي كما هو متوقع