إذا كنت، كما أقول دائماً، على موعد مع المغامرة، فإن مغامراتي خائبة أكثر الأحيان، وهذا إكمال للمعادلة، وليس انتقاصاً منها، فالثنائيات شريعة حياة، ومقولة نفي النفي الفلسفية، قد تحتاج، في الشرح المطول، الى مجلد كامل، لكنني أكتب للشعب، والشعب وجود للوطن، ومن خلال هذين الأقنومين، كرست قلمي لنصرة القضية العربية في كفاحها ضد أعدائهاولما أزل!.
إنني عصامي كما يعرف القراء، لكنني ضد العصامية التي فرضت علي، بسبب الفقر الأسود، كما يعرف القراء أيضاً، لذلك أنصح ـ وآه من لعنة النصائح ـ الطلاب أن يأخذوا بالدراسة النظامية، الأكاديمية، في كافة مراحلها، وألا يتبعوني على طريق جهنم، مادام التعليم في سورية متاحاً للجميع، لأنه مجاني، وحتى شبه مجاني في الجامعات، والدراسات العليا، وقد سرني، وأبرأ بعض سقمي، أن وزارة التربية عندنا انتبهت، في وقت مبكر نسبياً، الى ثورة المعلوماتية وأثرها الخطير في عالمنا، فبادرت الى إدخال دراسة الكمبيوتر من التعليم الاعدادي فما فوق، وهذا ما ذكرته، وشكرته في محاضراتي، وفي كل حفل كان لي فيه حظ الكلام، أو مجال للكتابة الأدبية التي كرست نفسي لها، بعد الأربعين من عمري، وبعد أن صرت في فقر أبيض، كما هي حالي اليوم.
أعرف تماماً، كيف بدأت خربشة الكلمات، لكنني، صدقاً، لا أعرف كيف صرت كاتباً شهيراً، ولن أغش أحداً فأزعم أنه الحظ، لا! هناك سهر الليالي أيضاً، والسير في حقل من المسامير، تاركاً نقطة دمع في موطئ كل قدم، بعد أن طلبت العلم حتى في الصين، دع عنك الجهات الأربع، مدفوعاً بالبحث عن الرغيف، لا في المغامرة وحدها فقط، وأذكّر و«الذكرى تنفع المؤمنين» أني في حي المستنقع في اسكندرونة، بحثت في المزبلة، بين الخنازير، عما يفيد في شراء الرغيف.
لقد كنت أجيراً وبحاراً، وحلاقاً، وعتالاً في المرفأ، لكنني، بعد الشهادة الابتدائية، التي هي كل رأسمالي، أقبلت، نهماً على القراءة، التي صرت مدمناً فيها، وفي السيكارة معها، هذه التي أحذر غيري منها، اشفاقاً على الصحة العامة، بعد أن يئست من اشفاق «النفاثات» في عقد شاحناتنا، من اندفاعات «موشحات» دخانهم التي« تعطر» الجو بالمسك والغالية!
إن مقولة نفي النفي التي أشرت إليها، يمكن ايجازها بأن «الحياة تنفي الموت، والموت ينفي الحياة، فتعود الحياة وتنفي الموت» لأن الحياة أبقى، غير أن المعادلة تبقى ناقصة، دون حياة وموت، والمعادلات كلها مردّها الى هذه الثنائيات، صعوداً الى جدنا آدم، التي معادلته لم تتم إلا بجدتنا حواء، وأعتذر «إذا جاوزت حدي» في مقاربة شميم عرار نجد من الناحية الفلسفية.
قلت إنني مع المغامرة على موعد، وقد دعيت، ذات عام غير بعيد، الى احتفالية في القامشلي، بمناسبة صدور روايتي «الفم الكرزي» التي تتحدث عن الأرمن في كسب، وصبوة الى اكتشاف الطريق إليها براً، سافرت مع سائق ومرافق أرمنيين، الى مقربة من حلب، سالكاً مفرق الرقة، حيث الطريق طويل كليل امرئ القيس، وموسم الأقماح المباركة غزير غزارة غير عادية، فما في الوسع التقدم إلا ببطء شديد، بين الحصادات والدرّاسات والشاحنات التي تتابع دون انقطاع، و«الليل الأليل» أرخى سدوله علينا، و «خطوة الى وراء في سبيل خطوتين الى أمام» وبيني وبين أيوب وصبره عداوة ذكرتي بقول الشاعر «هو الثأر لا تعجل علينا بنيله»، فان لنا من عهد آدمهم ثأراً، والمقصود بذلك الفرنسيون واستعمارهم البغيض..
كنت أسأل السائق كلما لاحت لنا أضواء: هل وصلنا؟ فيجيبني: ليس بعد، وتكرر السؤال، وتكرر معه الجواب، و«يا بائع الصبر لا تشفق على الشاري/ فدرهم الصبر يسوى ألف دينار!» والرحمة «شآبيب» على قبر معلمنا بطرس البستاني!
أخيراً وصلنا، وبعد التهاني بالسلامة، وأنا ألعن نفسي مرة، وألعن هذه السلامة ثلاثاً، نقلني المضيفون الى الفندق الذي سأبيت فيه، فإذا بي بين جوقتي «طرب أصيل» الجوقة الأولى مغنية تجعر من تحت، وجوقة أخرى من فوق، تعزف لحناً جنائزياً، من شاحنات، أغلبها قاطرة ومقطورة، تسير على طريق ملأى بالحفر، والحفرة تتسع لدبابة، أو لمصفحة عتيقة من الإرث الذي خلّفه لنا الاستعمار الفرنسي.
وكي أكون أمينا في إيراد الحقائق، فإن بيني وبين النوم عداوة منذ الطفولة، وفي هذه الليلة التي لبست فيها القامشلي قميص النوم، وحتى بعد أن تعبت المطربة أو بح صوتها فانكتمت، بقيت الشاحنات ترج الأرض، وقعقعة محركاتها أو إطاراتها تعزف السمفونية التاسعة لبيتهوفن، فلم يرقد لي جفن، ومع أنني حوالي الضحى شربت سطلاً من اللبن، فإن الجفن لم ينطبق على جفنٍ، «وكتمت السهم في كبدي» لأن جرح الأحبة من الأرمن الذين أرادوا تكريمي «غير ذي ألم» والله أعلم.
مضت على هذه الحادثة سنوات الآن، وقد تكون بلدية القامشلي خرجت من سباتها فأصلحت الطرقات، وربما انتبهت السلطات المختصة في دمشق، فقامت بما يلزم نيابة عنها، ومن المأمول أن يكون فندق ما، ولو على قياس البلدة، قد رأى النور، لذلك أوردت كل هذه الوقائع ويدي على قلبي، من هتفة تقول: «نعيماً» عد الى القامشلي، أهراء سورية، وبعد ذلك أتحفنا بهذه الدرر الغاليات!
مهمة الكاتب، كما أرغب أن تكون، هي الاستئناف ضد ما هو كائن، في سبيل ما سوف يكون، وما يكون هو الأفضل دائماً، فإذا كان نقدي بناءً، وهذا ما أسعى إليه، فإن المزيد من الإصلاح، وباستمرار، فيه الفلاح لقوم يعقلون، مع ملاحظة بسيطة هي أنني لست على وئام مع العقل والعقلاء، دون تحفظ، لأن بعض الجنون، لبعض الحكام العرب، مفيد في حدود رأيي ورأي غيري ربما!
إن التمرس في السياسة، يعطي مقولة «السياسة في القيادة» صدقيتها، وهذا التمرس في اتساقه مع هذه المقولة، قد أعطى برهانه، في شتى مراحل نضالنا، على أن قوتنا الخارجية تستمد مقوماتها الفاعلة، من قوتنا الداخلية، ومن هذا المنطلق فإن اجتثاث شرور الهدر والغش والفساد، في كل تموضعاتها العلنية والسرية، وفي كل تدرجاتها، ينبغي أن يقترن أو حتى يسبق، نضالنا ضد الضغوطات علينا، من أي جهة أتت، وكل تمهل في الاصلاحات الداخلية، بانتظار الانتصار على هذه الضغوطات الخارجية، أو صدها ودرء خطرها، يضعف مواقفنا السياسية الخارجية بدل أن يقويها، وهذا ما خبرناه في الوطن العربي كله، وهذا ما صار ضرورة لازمة وملحة، لا يمكن أن نكتشف حقيقتها وأبعادها، إلا في جوٍّ من الديمقراطية، أمّ الحريات، وفي ممارستها فعلاً لا قولاً، وهذا الجو من الانفتاح يزيد في منعة الحكم الذي يفيء علينا بظلاله في كل أنحاء هذا الوطن العزيز سورية.