ينتهز الرئيس التركي فرصة تاريخية نادرة للوعد بالدفع بقوّاته نحو شمال سوريا للسيطرة على ذلك الشريط المأمول
يقارب الرئيس التركي خططه في سوريا متدلّلاً على الحلف الأطلسي، مهدّداً بفيتو يمنع انضمام السويد وفنلندا إلى خيمة الناتو. نال من استوكهولم وهلسنكي تنازلات بشأن التعامل مع أكراد حزب العمال الكردستاني المُدرَج على لوائح الإرهاب الأميركية-الأوروبية. يمنح هذا الأمر تركيا شرعيّة في ملاحقة مَن تعتبرهم امتداداً لهذا الحزب في شمال سوريا، ويتيح لإردوغان التعويل على رعايةٍ لطبول الحرب التي يقرعها واعداً بعملية عسكرية هناك.
منذ بداية الحرب السورية عام 2011 سوّق الرئيس التركي للسيطرة على شريط على طول الحدود السورية التركية بعمق 30 كلم. تمّ الحديث عن منطقة حظر للطيران هناك تساهم المجموعة الدولية في توفير إمكاناتها. حظي مشروع إردوغان بآذان صاغية في واشنطن التي كانت في عهد باراك أوباما تنظر بعين الرضى إلى حراك الإسلام السياسي في كلّ المنطقة وإلى تجربة حزب العدالة والتنمية التركي نموذجاً.
غير أنّ أجندة أوباما تبدّلت وسحبت إدارته أيّ رعاية للطموحات التركية في سوريا، لا بل إنّ الرئيس الأميركي فضّل التواطؤ مع التدخّل العسكري الروسي هناك عام 2015. صحيح أنّ دونالد ترامب أنعش في بداية عهده في البيت الأبيض آمال إردوغان برعاية خطّته، وأعلن من أجل ذلك قراراً بانسحاب كلّ القوات الأميركية من سوريا، إلا أنّ ضغوط البنتاغون وأجهزة الأمن الاستراتيجي أجهضت قرار بايدن وأحبطت آمال إردوغان.
اللحظة الأردوغانية المناسبة
على هذا ينتهز الرئيس التركي فرصة تاريخية نادرة للوعد بالدفع بقوّاته نحو شمال سوريا للسيطرة على ذلك الشريط المأمول. لا تريد واشنطن خسارة الحليف التركي في هذه المرحلة، وليس من مصلحة موسكو في عزّ حربها الأوكرانية معاداة "الشريك" التركي في عملية أستانا، ولن تذهب إيران في موسم مفاوضاتها المضنية في جنيف (والدوحة) إلى فتح معركة سياسية مع تركيا. ومع ذلك فإنّ كلّ واحد من هذه الأطراف يعوّل على الطرف الآخر لمنع إردوغان من خوض معركته السورية.
لقد تحدّثت واشنطن وموسكو وطهران في مناسبات منفصلة عن "تفهّم الهواجس التركية". وللمفارقة أنّها في المقابل أجمعت متفرّقة على معارضتها لأيّ عملية عسكرية تركيّة في شمال سوريا، ذلك أنّها "مزعزعة للاستقرار" وفق بيان إيراني، و"عمل غير حكيم"، وفق بيان روسي، وأمر تحذّر منه واشنطن، وفق بيان أميركي.
تنال خطة إردوغان من نفوذ قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في شمال سوريا. وعلى الرغم من تمتّع هذه الميليشيات ذات السيطرة الكردية بدعم الولايات المتحدة التي تعتبرها حليفاً صادقاً في محاربة تنظيم داعش، لكنّ الطرف الأميركي حريص هذه الأيام في مهمّة مستحيلة على توثيق التحالف مع تركيا وعلى حماية حلفائه الأكراد في الوقت نفسه.
ليس صدفة أن يقود السيناتور الجمهوري الأميركي ليندسي غراهام وفداً أميركياً في زيارة لأنقرة وإربيل والحسكة. فالرجل من الداعين إلى الحفاظ على الوجود الأميركي في سوريا ومن الداعمين لأكرادها، لكنّه أيضاً من أشدّ المدافعين عن توطيد علاقات بلاده مع تركيا.
من الواضح أنّ مقاربة غراهام التوفيقية تتطلّب تنازلات كردية قيل إنّها وراء المواقف التصعيدية لـ "قسد"، ومن بينها رفع درجة التأهّب في صفوفها. والواضح أيضاً أنّ هذا "الغضب" الكردي ينهل قواه من الاعتماد على روسيا التي نقلت قوات إلى المنطقة، وأوحت إلى ميليشيات إيران وقوات النظام السوري بالتحرّك صوب الشمال، وتدفع باتجاه تفاهمات بين دمشق والأكراد. تواكبت همّة غراهام مع همّة وفد عسكري تابع للتحالف الدولي ضمّ نحو 30 شخصاً من الأميركيين والفرنسيين والبريطانيين زار منطقة منبج بريف حلب الشمالي الشرقي، وذلك بعد زيارته لمدينة كوباني.
حلب خطّ أحمر؟
تمثّل"وساطة" عبد اللهيان المزعومة عزماً إيرانياً روسياً على معاندة طموحات إردوغان شمال سوريا. وتبعث زيارة الأسد لحلب، الموحى بها، رسالةً من طهران وموسكو إلى أنقرة تفيد بمعارضة أيّ تقدّم تركي باتجاه ما تعتبره العاصمتان مناطق نفوذ لا يمكن التخلّي عنها. غير أنّ في رسائل روسيا وإيران ما هو موجّه أيضاً ضدّ الولايات المتحدة وضدّ هذا التقارب الأميركي التركي المقلق، ليس فقط داخل الميدان السوري، بل بما يمكن أن يعنيه أيضاً داخل المشهد الدولي الكبير.
بيد أنّ رشاقة "قسد" في اللعب على أوتار "الكبار" محدودة وعرضيّة، ويبقى أكراد سوريا المسيطرون على "الإدارة الذاتية" أكثر مَن خبروا كيف أسقطت تفاهمات روسية-تركية وأخرى أميركية-تركية مناطق وزحزحت خطوط الخرائط على الرقعة الكبرى من دون كثير اكتراث بآمال البيادق وإراداتها. فإذا ما ذهب الأكراد بعيداً في الاقتراب من موسكو وطهران ودمشق، فإنّ واشنطن لن تردع أو تمانع خطط حليفها التركي الأطلسي، وربّما تجدها ضرورة استراتيجية كبرى.
-----------
اساس ميديا