وكان من جملة ما اهتم المسيري بنقده هو قضيّة "النسوية" في إطار متعدّد الأدوات، كتحرير المصطلح والمفهوم، وبيان الفروق بين المطالبات بنيل المرأة حقوقها ودعوات المساواة وتعريف المسلمين بأساس الإيديولوجية النسوية وأنها ناتجة عن التفاعل ضمن الإطار الكلّي للحضارة المادية الغربية، وهذا الأسلوب –برأيي- مرجعية أساسيّة بنى عليها المسيري نظرياته وتحليلاته الفكرية للآخر على اختلاف تسمياتها الاقتصادية، والفكريّة، والسياسية، والاجتماعية، وغيرها.
المسيري وجدل مفهوم "النسويّة"!
يرى المسيري أن أحد أهم أسباب الفشل في تحديد نطاق المفاهيم الفكرية ذات التأثير الواضح في حياتنا الاجتماعية هو "إخفاقنا في تعريف البعد الكلي والنهائي، [وهذا] هو السبب الكامن وراء ما نلاحظ من خلط المفاهيم؛ إذ يجري تصنيفها والربط أو الفصل بينها على أسس سطحية من التشابه والاختلاف"
ومن هذا المنطلق يتساءل المسيري عن جوهر الإنسان، فهل هو كائنٌ ماديٌّ أم أنه كائنٌ يتجاوز المادة ومعاييرها؟ وهل لحياته هدف أم أنّها ملقاة على عاتق الصدفة والحتميات الماديّة العمياء؟، وبناء على ذلك يرى المسيري أنّ ترجمة كلمة (Femminsm) بـ "النّسوية" ترجيحٌ غير موفّق، فهي لا توضّح جذور المصطلح الكامنة، حيث تتموضع تلك الجذور مع نظرية الحقوق الجديدة التي تبتغي الدفاع عن كل أقليّة "شاذّة" وتدعو إلى التطبيع معها وتقبّلها وإلغاء أي حدود بينها وبين الأكثرية الطبيعيّة.
على صعيد نِسوي محض تُرجم هذا التحوّل بظهور حركة الفيمينزم، التي يترجمها المسيري: بالتمركز حول الأنثى، لبيان الفرق بين حركة الكفاح لـ"تحرير الأنثى" من المظالم التاريخية التي وقعت عليها في كثير من المجتمعات والدول وحركات "التمركز حول الأنثى"، فالأولى تدافع عن حقوق المرأة في إطار إنساني مشترَك على الأقل، فتميز بين انتماء الإنسان لجنسه ومجتمعه وحضارته، وبين استقلاله عن المادة والدعوة إلى التساوي الكامل، كما تُعامَل المرأة فيها فردًا اجتماعيًّا ينشد العدالة للجميع سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعياً في الأغلب.
إلا أن الحركة الثانية تنطلق من جدليّة الصراع المادي المستمر، وتجاوز التاريخ، الذي تراه ظالماً ومتحيزاً ضد المرأة، كما تعامِل الإنسان باعتباره مادة يمكن إعادة صياغتها على نحوٍ جديدٍ، وذلك لأن مرجعيتها السيولة المطلقة.
كيف أطّر المسيري لفكرة "التمركز حول الأنثى"؟
يركّز عليها المسيري في كتابه "قضيّة المرأة بين التحرير والتمركز حول الأنثى "، على التحوّلات التي طرأت على المجتمعات الغربيّة من نطاق الإيمان الغيبيّ، إلى الفردانيّة الذاتيّة وصولاً إلى ظهور رؤية مادّية ترى أن الوجود مبنيٌّ على المادّة الكامنة في الطبيعة، وهنا يكون الإنسان جزءاً من المادة الكليّة، وبذلك تنتهي الثنائيات كالذكر والأنثى، لصالح استمرار نموذج المادة الواحد.
إن دعوة المساواة التي وصلت إليها حركة "التمركز حول الأنثى" ليست دعوة إنسانيّة بل هي أيديولوجية صراعٍ مادّية
إن التحوّل من المنظومة الأولى إلى الأخيرة يعني انفصال الإنسان عن المنهج الذي يتجاوز المادة إلى الذوبان فيها، وهنا فإن الإنسان يصبح جزءاً من الطبيعة بعد فقده الإيمان بالله، وبمرور الزمن لم يبق هناك حدودٌ في فهم الأشياء، فكلُّها تنطلق من نقطة واحدة وتنتهي إلى النقطة نفسها، وهو ما يشكّل الحالة السائلة التي تحدث عنها زيغمونت باومان في تحليل موجات الحداثة الغربية.
هذه الأيديولوجيا المادّيّة تمدَّدت لتشمل جوانب الحياة كلِّها، فغدا العمل والحب والشعور الإنساني مؤطَّرًا بالمادّة؛ وبذلك تغيرت الكثير من المفاهيم والقيم كالأمومة التي كانت تضحية عظمى تدافع عنها كل النساء إلى أمرٍ مكلِفٍ يجب السعي للتخفّف منه لأنه بلا أجر مادي.
وعندما تتحوّل المرأة من كائنٍ إنسانيٍّ إلى كائنٍ مادّيٍ فإن ذلك يعني فقدانَ المرأة لذاتِها، لأنها تصبح جزءًا من الطبيعة التي هي المادة، وحين ذاك لن تكون مساواتها مع الرجل نابعة من كفاحها، وإنما لأن أيديولوجيّة العالم المعاصر تحتّم النظر إليهما على أنهما جزء من المادة وما يجمعهما ماديتهما المشتركة لا إنسانيتهما، فيتم اختزالهما ضمن مستوى مادي لا يهتم لذكورة الذكر أو أنوثة الأنثى، و"بسقوط الأم والزوجة تسقط الأسرة ويتراجع الجوهر الإنساني المشترك، ويصبح لكلٍّ مصلحة خاصة، وقصص صغيرة خاصة، والمساحات المشتركة الجامعة تتقلص شيئًا فشيئًا حتى تختفي، والجميع يجابهون الدولة وقطاع اللذة بمفردهم، ويسوّى الجميع بالحيوانات والأشياء" وبذلك تسود السيولة الطاغية التي لا تفرّق بين الرجل والمرأة أو بين الإنسان والأشياء.
وعليه فإن دعوة المساواة التي وصلت إليها حركة "التمركز حول الأنثى" ليست دعوة إنسانيّة بل هي أيديولوجية صراعٍ مادّية تختلف عن الحياة الطبيعية التي يجب أن تعيشها الزوجة أو الأخت أو الحبيبة أو أي امرأة تبحث عن حقوقها المشروعة ودورها داخل المجتمع الإنساني.
مخاطر أيديولوجيا التمركز حول الأنثى!
إن أهم آثار هذا الفكر انطلاقه من النسبية التي لا معالم لها، فيصبح المجتمع سيّالًا يتشكل بمزاج كل فردٍ على حدة، وكأنّ هذا الفرد في هذا التفكير ليس كائنًا اجتماعيًّا بل منقطعًا عن أي سياق تاريخي، ولا تربطه أي علاقات بأسرة أو مجتمع أو دولة أو مرجعية تاريخية أو أخلاقية.
كما أن حركة التمركز حول الأنثى هي تعبير عن هذا التحول المادي وتغييب للقيمة الإنسانية، فقد انقسم العالم أولاً حول التمركز على الذات أولاً سواء كانوا إناثًا أم ذكورًا، ليدخل الجنسان لاحقًا في حالة من الصراع والهيمنة، حيث ركّزت حركة التمركز حول الأنثى على الفوارق بين الرجل والمرأة وقدّمت خطابًا يوحي بأنّه لا يوجد إنسانية مشتركة أصلًا بين الرجل والمرأة، وكأنها في حالة صراع كوني أزلي مع الرجل، فحركة المرأة المتمركزة حول ذاتها، تفسر التاريخ وكأنها شعب الله المختار –على حد تعبير المسيري- في مواجهة الآخرين، ولأنها في حالة صراع مستمرة معه، فقد سيطر الذكور على المجتمع بالسلاح والغزو.
وهكذا تنطلق الدعوات لإعادة صياغة كل شيء: التاريخ واللغة والرموز، وحتى طبيعة الإنسان ذاتها، فهنالك من يدعو إلى التغيير في اللغة باستخدام كلمات حيادية لا تحدّد الجنس فليس هناك الذكر والأنثى بل الجنس المخصّص، وتنتهي حركة التمركز حول الأنثى إلى التفكيك الكامل لكل ثوابت اللغة والتاريخ والمجتمعات وتهدم العلاقة الأزلية بين الرجل والمرأة.
في الحقيقة فإن حركة التمركز حول الأنثى ترى الرجل عدواً، ولا يمكن الانتقام منه إلا بمحو الفوارق نهائياً، وهنا يمكن لكل جنس أن يكون أباً وأمّاً في الوقت ذاته، ويمكن للرجال الشواذ أن يكونوا آباءً وأمهات لأطفال في الوقت ذاته، ووسائل التواصل الاجتماعي وجماعات الضغط تتكفّل بالترويج والتطبيع لهذا الطارئ الجديد باعتباره أمراً طبيعياً يجب قهر الناس عليه بمختلف وسائل هندسة الوعي.
إن الخسارة هنا ليست في انتشار فكرة النسوية التي هي عَرَض -لا أكثر- من أعراض الإطار المادّي للحضارة الغربية، وهنا فإن هذه المادّيّة لا ترى فرقاً بين ذكورة وأنوثة في عالم لا مركز له ولا يكترث أصلاً بأية ثنائيّات، فهذا العالم متعدد المراكز، ولا يلتفت للفروق الظاهرية والباطنية، حيث إنه عالم سائل، وهنا لا يختلف دور المرأة عن الرجل كما أن هذين الاثنين لا يختلفان عن أي مادة أخرى.
المرأة اليوم ليست أكثر من سلعة، فبجسدها تباع المشتريات، فصورة المرأة هي الأفضل للإعلانات، وبها تنشط مراكز التجميل، وعلى معايير معيّنة تصنّع أنماطٌ جديدة للجمال، حيث تظهرها صور الممثلات وعارضات الأزياء، ومن ثم يجب على النساء جميعهن أن يصبحن مثلهن، ومهما كانت المرأة جميلة، فإن الإعلام يشعرها بأنها ليست على الموديل الكامل الذي يجب أن تكون فيه.. وهنا تستمر الحلقة المفرغة، فالمرأة والرجل يبحثان باستمرار عن الصورة المثلى، وتزداد الأمراض النفسية، وعلى أساس ذلك تروّج برامج تغذية معينة، وملابس معيّنة، وأشياء لا تنتهي، وكل هذا يتمّ بالتسويق والتسويق المضادّ، وتكون المرأة فيه مجرد وسيلة، أو أمراً مادياً محضاً، ولا يهم في سبيل ذلك أن تتفكك الأسرة ومنظومة القِيَم الإنسانية
إن بداية الإصلاح –عند المسيري- تكون بالعودة إلى تمييز المفاهيم وإعادة نشر وتأكيد الصحيح منها، إلى جانب مواجهة تسليع الإنسان، والتأكيد على أهميّة الأسرة الطبيعية، في وجه الدعوات اللامتناهية لترسيخ الشذوذ، وأن تُتَناوَل قضية المرأة في إطار مصلحة الأسرة وفي إطار الإنسانيّة المشتركة، لا الفردانيّة والمصالح الشخصيّة والاستهلاكية، مع الحفاظ على ألّا يتحوّل الخلاف بين الجنسين إلى أساسٍ للظلم وهضم الحقوق.
تي ار تي