يتناقل أنصار الانفتاح على نظام بشار الأسد في الإعلام التركي ما قاله أمام "مجلس الشعب" على طريقتهم وبما يتناسب مع ما يريدون ويدعمون من تصور. "الأسد تراجع عن شرط الانسحاب التركي من الأراضي السورية وقبل الجلوس أمام طاولة التفاوض. ما يقوله يتطابق إلى حد كبير مع ما يريده الجانب التركي. وهو بات أكثر واقعية ويدرك حاجته إلى إنهاء الخلافات مع تركيا وصعوبة مقاومة الضغوطات الروسية والإيرانية بهذا الخصوص".
منذ أشهر طويلة ونحن نسمع الأسطوانة نفسها. هناك تبدل في المواقف وليونة وانفتاح بين أنقرة ودمشق. وهناك جهود إقليمية تبذل للتقريب بين أردوغان والأسد. وأن موعد القمة المرتقبة يكاد يعلن بين لحظة وأخرى.
آخر ما بين أيدينا هو دعوة الإعلامي التركي المقرب من حزب العدالة عبد القادر سلفي لإقامة خط هاتفي أحمر بين أردوغان والأسد لمعالجة المشاكل الطارئة والخطيرة، على طريقة واشنطن وموسكو بعد اندلاع أزمة الصواريخ الكوبية في مطلع الستينيات.
يقول الأسد في خطابه أمام "مجلس الشعب" إن غياب المرجعية هو أحد أسباب عدم التوصل لنتائج في المحادثات مع تركيا. "تحسن العلاقات يتطلب التراجع عن السياسات الراهنة، وهذه ليست شروطاً بل حقوقاً. الحل هو المصارحة وتحديد موقع الخلل".
لنأخذ كلام الأسد الموجه إلى الجانب التركي ونعتمده كموقف يعلنه النظام باتجاه قوى المعارضة السورية هذه المرة "عندما يتم الاتفاق على العناوين يصدر بيان مشترك من خلال لقاء بين الطرفين بمستوى يحدد لاحقاً. هذا البيان المشترك يتحول إلى ورقة مبادئ تشكل القاعدة للإجراءات التي يمكن أن تتم لاحقاً بالنسبة لاعتماد العناوين التي تهم الطرفين".
لو كان الأسد استمع إلى صرخات ونداءات الشعب السوري قبل 13 عاماً بهذا الاتجاه وأعلن موقفاً مشابهاً وقتها، لما كان يحتاج إلى مخاطبة تركيا على هذا النحو وتوجيه هذا النوع من النصائح اليوم.
من الممكن طبعاً التقريب بين أولويات أنقرة وأولويات النظام في دمشق في المسائل والملفات التي تقلق الطرفين والأخطار المحدقة بهما مثل إفشال مشروع قسد في الحكم الذاتي وتسريع الحلحلة في ملف اللجوء وفتح المعابر الحدودية أمام الحركة التجارية.
لكن المشكلة هي أولاً في الملفات السياسية وما يقوله المجتمع الدولي حول النظام والقرارات الأممية الصادرة بشأنه. وهي ثانياً في طريقة تعامل حكومة العدالة مع حليفها في صفوف قوى المعارضة السورية الذي عول عليها لسنوات في خطط التنسيق والتعاون على المستوى المحلي والإقليمي.
احتمال الجلوس أمام طاولة التفاوض بين أنقرة ودمشق ما زال قائماً، "الحوار بدأ من أجل مصالح الطرفين وسلامة الشعب السوري وحقوقه أيضاً" كما رددت القيادات التركية أكثر من مرة. لكن ما تقوله أنقرة حول أهداف المسار الجديد لا يتوافق في أكثر من مكان مع ما يردده النظام في دمشق. يتخلى الأسد عن شرط الانسحاب العسكري التركي من شمالي سوريا قبل الذهاب إلى طاولة الحوار السياسي مع أنقرة. لكنه يريد أن تبقى المسألة في صلب الحوار بين الجانبين. ستقبل أنقرة بذلك لكن الثمن المقابل هو قبول الأسد بما تقوله هي أيضاً بشأن تحريك المرحلة الانتقالية السياسية في سوريا بناء على مضمون القرار 2254.
حماس بعض الأقلام التركية التي تستعجل القمة التركية السورية لا يقل عن حماس بشار الأسد، لكن الخارجية التركية حسمت موقفها باتجاه آخر كما نُقل عن مصادرها قبل أيام.
خارطة طريق الحوار والتفاوض مع دمشق ستكون مشابهة لطريقة التفاوض مع العديد من العواصم والدول التي شهدت ملفات خلافية بينها وبين تركيا. لا قمة بين أردوغان والأسد تسبق التفاوض الذي سيكون على مراحل وبشكل مبرمج ومتدرج، أمني ودبلوماسي وسياسي.
يريد بشار الأسد التفاهم مع أنقرة على خارطة طريق في الحوار، يسبقها تحديد أولويات النقاش تحت عنوان المبادئ والأسس الواجب أن ترسم معالم المسار الجديد.
وترد مصادر الخارجية التركية بالإشارة إلى أن أولويات تركيا قد تلتقي مع أولويات الأسد في وحدة أراضي سوريا وخطط محاربة الإرهاب وتسهيل عودة ملايين اللاجئين، لكن العقبة الأساسية والأهم هي غياب موضوع شكل التوافق الوطني الحقيقي على بناء سوريا الجديدة وموقع القرار 2254.
المسار الجديد لا يمكن له أن يُبنى على "عفا الله عما مضى" وإمكانية العودة بالعلاقات إلى ما قبل 13 عاماً، لأن المتغيرات السياسية والأمنية والاجتماعية والتوازنات الإقليمية الجديدة تقول غير ذلك.
يواصل الأسد لعبة الالتفاف من وراء الرقبة للإمساك بالأذن، مستفيداً من حاجة حزب العدالة والتنمية للتفاوض معه لأسباب داخلية وخارجية. لكنه يتجاهل أن أي حوار يجريه مع أنقرة يسبقه حوار تركي روسي وتركي إيراني وتركي إقليمي حول ما يمكن أن تصل إليه الأمور في نهاية المطاف. هل سيرضى أردوغان بمواصلة التفاوض مع الأسد ومحاورته إلى ما لا نهاية؟ أم أن الأسد يراهن على تجاوز هذه المرحلة وانتظار وصول المعارضة التركية إلى الحكم لتعطيه كل ما يريد؟
الرد التركي باختصار على مثل هذه التساؤلات هو تراجع الاندفاع الذي برز في العام المنصرم. لأن إيران لا تريد إطلاق يد النظام باتجاه تفاهمات سترضي أنقرة والعديد من العواصم العربية وتكون على حساب مصالح طهران ونفوذها في سوريا والمنطقة. ولأن قيادات العدالة والتنمية لن تذهب إلى أية طاولة مفاوضات مع الأسد هدفها المراوغة وكسب الوقت بانتظار سيناريو التغيير السياسي في الداخل التركي.
ما يدفع أنقرة للتراجع عن الضوء الأخضر الذي أشعلته أمام النظام والتلويح باقتراب موعد القمة التركية السورية هو نشوة النصر المبكرة التي عاشها بشار الأسد معولاً على حاجة تركيا له أولاً، والاستقواء بالتطورات الإقليمية الأخيرة التي قد تمنحه فرص ملء فراغات محتملة بعد تموضع العديد من العواصم العربية في التعامل مع ملف الأزمة السورية ثانياً. ثم قناعة تركية جديدة باتجاه أن العواصم العربية التي قررت منح بشار الأسد فرصة مراجعة مواقفه وسياساته وصلت إلى طريق مسدود، سواء حيال المبادرات والوساطات العربية والخليجية باتجاه حوار سوري – سوري حقيقي وخطط تسهيل عودة اللاجئين، وتمسك النظام بمعادلة تصدير المزيد من شحنات الكبتاغون مقابل استيراد المزيد من النفوذ الإيراني.
فرّط الأسد بالعرض التركي الذي قدمه أردوغان قبل أسابيع "خطوة إيجابية يقدم عليها الأسد باتجاه أنقرة، ستقابلها على الفور خطوة تركية باتجاه تسوية العلاقات بين الجانبين". وهو لذلك سيحتاج إلى قوة دفع جديدة تعيد أنقرة إلى مقولة ما قبل أشهر. الوسيلة لذلك ليست الاستقواء بالضغوطات والوساطات التي يقدمها البعض، بل التخلي عن المراوغة واللعب على الحبال الروسية والإيرانية التي لن توفر له ما يريد إلى ما لا نهاية.
----------
تلفزيون سوريا
*كاتب وأكاديمي تركي.