كان السلام ليكون حالنا الآن. وكانت عقيدة الردع وقوة الأمن الجماعي لتنجح كما أجدت نفعاً طيلة نصف قرن إبان الحرب الباردة، حين تمتعت دول أوروبا الغربية المحظوظة بحماية من الاحتلال الروسي الذي فرض سيطرته على النصف الشرقي من وطننا الأوروبي المشترك.
شكل التخلي عن أفغانستان أول خيانة غربية لـ”حليف”؛ وها قد أصبحت أوكرانيا الثانية الآن. من التالي؟ أي دولة بعيدة ستسقط تحت وقع استخدام القوة؟ هل تكون تايوان؟ أم مولدوفا؟ أو إستونيا؟ أو بولندا؟
تخيلوا أن الغرب قلق بشأن إغضاب فلاديمير بوتين ، وأن رجال الدولة ونساءها [ممن هم وهن في موقع القرار] تعاملوا بذاك القدر من المراعاة مع الحساسيات الروسية. بدأت الحرب التي تدور رحاها الآن في عام 2014 إن لم نقل قبل ذلك، حين عجز الغرب عن الإقدام ومواجهة ضم روسيا شبه جزيرة القرم واحتلالها الفعلي بعض مناطق أوكرانيا الشرقية.
سرعان ما أدرك الكرملين -ولم يكن بحاجة إلى جواسيس خارقين لكي يصل إلى هذه النتيجة- أن الغرب لن يحارب لأجل أوكرانيا، كانت المسألة مجرد مسألة وقت بالنسبة إلى هذا البلد.
لا يخفى على أحد أن ردة الفعل كانت شبه غائبة بعد شن الروس حرباً في الشيشان وجورجيا، وتدخلهم في الخلاف بين أذربيجان وأرمينيا، ودعمهم الأنظمة الديكتاتورية في كازاخستان وبيلاروس.
تعرض سكان ومواطنون بريطانيون في سالزبوري للاغتيال، ووقع “تدخل غير موفق” في الانتخابات والسياسة البريطانية، واستمر حزب “المحافظين” بتقاضي التبرعات، ولم تدافع حكومة المحافظين عن المصلحة الوطنية، ولم تفرض العقوبات الحقيقية سوى الآن [بعد فوات الأوان].
لا عجب إذن بأن يعتبر بوتين الغرب متقادماً وضعيفاً. لقد اختار لحظة رأى فيها مكمن ضعف غربياً، وهو ضعف فعلي كذلك: قادة دول منقسمة بشدة، أصابتها جائحة “كوفيد” بالوهن، ومنهم قادة جدد أو غير متمرسين أو سذج أو انتباههم مشتت. وقد تابع إخفاقات القيادة، وأفغانستان أحدث الأمثلة عليها [خير دليل عليها].
لم يفت الرئيس الروسي امتناع العديد من الحكومات الغربية عن إنفاق المال على دفاعاتها الخاصة أو على أمن حلفائها. وأدرك بوتين الأمر وتصرف على هذا الأساس. سوف تكون الحرب دامية والمقاومة طويلة الأمد. ولم يبقَ أمام أوكرانيا غير خيار وحيد، القتال، لأن الغرب خذلها. إن لم يرسل الغرب قوات عسكرية -وقد فات الأوان على ذلك- المطلوب الآن شن حرب اقتصادية على روسيا.
بدايةً، يجب فرض حظر تام على التجارة، ووقف الاحتفالات الرياضية الودية، ووقف قنوات الدعاية مثل “آر تي” الروسية، وقطع العلاقات الدبلوماسية. سوف يتوجب على الغرب بذل بعض التضحيات. وما يميز العقوبات التجارية والاقتصادية الفعالة هو أنها قد تؤذي الجهة التي تفرضها كما تلك المفروضة عليها للأسف، وهي خسارة من كل الجهات.
قدمت ألمانيا مثالاً على هذه النقطة: سوف تخسر مصدر إمداد غازها المقبل، فيما تخسر روسيا بالمقابل صفقة مربحة. على الآخرين السير على خطاها. وعلى المصالح الغربية الكبيرة مثل “ماكدونالدز” و”بريتيش بتروليوم” و”شيل” و”رينو” (التي تمسك بأوتوفاز/لادا) وشركة ميترو الألمانية للبيع بالتجزئة، وكوكا كولا -وشركات كثيرة غيرها- أن تصفي استثماراتها وتنسحب من روسيا.
ويجب سن قوانين جديدة تمنع نقل التكنولوجيا، كما تلك التي وضعت في ثمانينيات القرن الماضي خلال بداية عصر تكنولوجيا المعلومات، وهي إجراءات قضت على كل آمال الاتحاد السوفياتي القديم بمنافسة الغرب وإعالة مواطنيه.
ما عاد بإمكاننا القبول باحتفاظ المستشار الألماني السابق غيرهارد شرودر بمنصبه على رأس شركة النفط والغاز “روزنيفت” [الروسية] بعد اليوم، أو السماح لأعوان بوتين باستخدام لندن لتبييض أموالهم.
يجب حظر الصادرات الأساسية للروس، وفرض عقوبات على الدول التي تتحدى هذا النداء الدولي: مثل الصين والبرازيل. ويجب فرض رسوم عقابية على الصادرات الروسية، إن لم نقل حظرها الكامل. ويجب أن تخضع كل السلع باستثناء السلع الإنسانية مثل الأدوية لحظر تجاري مع روسيا.
ويمكننا عندها اتخاذ خطوات إضافية وتطبيق المبدأ نفسه على المشاركة في الأحداث الرياضية ولا سيما في ألعاب القوى وكرة القدم، وقطع العلاقات الثقافية والفنية. إن كان الروس يريدون استعادة الاتحاد السوفياتي، فيمكنهم استعادة الستار الحديدي والعزلة معه كذلك. إنه وضع مشين، فقوة الغرب الاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية تفوق قدرات روسيا بما لا يحتمل المقارنة.
لو أراد الغرب إنقاذ أوكرانيا، أي لو رغب بذلك فعلاً، لأمكنه إنقاذها عن طريق استخدام مزيج من الردع العسكري والاستعراض الصارم للقوة غير العسكرية. لكننا لم نفعل ذلك، وكانت العقوبات التي فرضناها على روسيا بعد تأسيس الجمهوريتين الشعبيتين المزيفتين واعتراف موسكو بهما، ضعيفة إلى حد يستدعي السخرية بأفضل الأحوال. حاول الغرب تجنب الحرب عن طريق عدم التلويح بها أبداً، وها قد حصلنا على الحرب في أي حال، وفوقها الإذلال.
قد تندلع حروب كثيرة أخرى أمامنا- على الأرجح بسبب الشكاوى القديمة المتعلقة بالأقليات الناطقة بالروسية والمتحدرة من أصول روسية في دول البلطيق، كما الخلافات التاريخية على الحدود مع فنلندا المحايدة والعدوانية المتوارثة تجاه بولندا، أو الصراعات على القوة في مناطق غير معروفة كثيراً من أوروبا، مثل مولدوفا وترانسنيستريا المتنازع عليهما، اللتين تحدان رومانيا.
أصاب وزير الدفاع بن والاس بذكره ثلاثينيات القرن الماضي ودروس تلك الحقبة، ولكنه أخطأ حين تظاهر بأن البريطانيين سوف يكررون ما فعله الحرس الاسكتلندي بالقيصر نيكولاس الأول في شبه جزيرة القرم في 1853، و”يركلونهم على قفاهم”. فلا أحد سوى بوتين يسدد كل الركلات اليوم
---------------
اندبندنت عربية