فوق الطاولة بدا المنظر وردياً، إذ تطلبت صياغة البيان المشترك جهداً هائلاً لتلميع الطاولة وتغطية بصمات الركلات من تحتها. وأكد البيان الالتزام بسيادة سوريا، ومكافحة الإرهاب، ومنع محاولات خلق حقائق جديدة على الأرض بما في ذلك مبادرات الحكم الذاتي، وضد الاستيلاء على عائدات النفط شرق الفرات. ودعا لزيادة المساعدات لجميع السوريين من دون تمييز وتسييس، إذ لا حل عسكرياً. وأكد البيان الدور المهم للجنة الدستورية مع إدانة استمرار الهجمات العسكرية الإسرائيلية.
وبذلك وفق البيان، مشكلة سوريا الوحيدة هي في وجود 900 جندي أميركي، إضافة إلى القصف الإسرائيلي! وإلا فهي سمن وعسل. فيا لسخف منطق التكاذب. لكن لا جواب عمن يشتري نفط شمال سوريا ولا من يقوض السيادة السورية؟.
على الأرض وتحت الطاولة كان الأمر مختلفاً تماماً، بل كان يذخر بالركل واللبط.
أولى الركلات السياسية كانت بين روسيا وإيران، إذ تستمر روسيا في التغاضي عن الضربات الإسرائيلية على المواقع الإيرانية. هذا رغم أن روسيا قد بدأت مؤخراً في تقليص هوامش استخدام الطيران الإسرائيلي رداً على موقفها من أوكرانيا. لكن إسرائيل مستمرة في القصف بشكل محرج لروسيا بشدة.
ثانياً، احتجاج إيران على شروط روسيا للاتفاق النووي، والتي أدت، في النهاية، إلى خسارة نافذة ذهبية كانت متاحة لها. وثمة ركلات بالتأكيد بسبب كسر روسيا لأسعار نفطها وانخفاض صادرات إيران للصين تاركة ما يقرب من 40 مليون برميل من النفط الإيراني على ناقلات نفط في البحر، تبحث عن مشترين.
وتشترك روسيا وإيران في ركلات ضد تركيا، إذ تريدان حصر هجوم القوات التركية على مناطق تواجد القوات الأميركية، الأمر الذي يعني عملياً، فتح الطريق لسيطرة قوات النظام على هذه المناطق، وخروج أميركا وتركيا من الساحة السورية خاويتا اليدين. وتدرك تركيا حجم الفخ المنصوب.
انها ميلودراما سوريالية. فقوات النظام السوري تقف متلاصقة مع القوات الكردية والروسية والإيرانية والأميركية، وبجانب آخر تقف القوات التركية وحلفاؤها من قوات المعارضة السورية. وفي حين كان السلاح يصطك بشكل يصم الآذان، كان المجتمعون في طهران يتحدثون عن الحلول السياسية في سوريا.
وبعد، ثمة ركلات تجري بين تركيا وإيران بسبب الدور القديم المتصاعد لإيران في دعم "حزب العمال الكردستاني". هذا السر المعلن تم تبطينه بشكل مضحك في البيان المشترك حول إدانة كل أشكال الإرهاب. وثمة ركلات إيرانية - تركية متعلقة بقلق تركيا من التحول الديموغرافي والتشيّع الكثيف في حلب وريفها والميليشيات الشيعية المحتشدة على حدود السيطرة التركية.
أما الركلات بين روسيا وتركيا، فحدث ولا حرج. إذ لا يتوقف الأمر على بيع أوكرانيا مسيّرات بيرقدار التي أصبحت أسطورة في أوكرانيا، بل بدور تركيا في الحرب الزاحفة لإضعاف روسيا في القفقاس ووسط آسيا وليبيا وسوريا وصولاً للانشقاق المتسارع لكازاخستان بعيداً من روسيا بدعم غربي وتركي.
فالركلات هنا أبعد بكثير من سوريا البائسة، بل تتعلق مباشرة بالجيو-استراتيجيا الطويلة الأمد لوسط آسيا. لكن بوتين مكره لا بطل لتأمين تصدير الحبوب.
ولم تكن الدلالات لتنقص بعض المشاهد فوق الطاولة، فبعد حربه على أوكرانيا لم يعد بوتين في موقع "وسيط القوة الإقليمي"، بل صار يلملم الأصحاب من كل حدب وصوب، من مالي إلى كوريا الشمالية. ولا أدل على ذلك من مقارنة مشهد المسافة الكبيرة بين مقعد الرئيس فلاديمير بوتين وفي غياب العلم الروسي في لقائه بالمرشد الأعلى، بطول الطاولة التي جلس عليها الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي مع الرئيس بوتين في موسكو. ولا يقل عن ذلك دلالة مشهد انتظار بوتين لرجب طيب أردوغان في غرفة الاستقبال.
نعم، ما لم يُقل في هذا اللقاء أهم بكثير مما قيل. إذ يتم اللقاء في ظل تصاعد التوتر الإيراني - الإسرائيلي، والحديث الأميركي عن تشكيل "هيكل إقليمي قوي" في مواجهة طهران من جهة والذي يلقي من دون شك امتعاضاً كبيراً من روسيا بالطبع.
وبالرغم من الإشارة إلى اهتمام الطرفين بالعلاقات الاقتصادية والعسكرية، وبالرغم من قول علي خامنئي أنه "يجب سحب الدولار الأميركي تدريجياً من التجارة العالمية"، والعمل على تشكيل سوق موازية للسوق التي ترعاها الولايات المتحدة، لم يترجم ذلك الكلام حتى بتصور نظري لشراكة عسكرية مضادة أو تحالف اقتصادي موازٍ للسوق الدولية إلخ ... لذلك فلئن كان المقصود أن تكون قمة طهران الرد المشترك علي قمة جدة، فيا لها من خيبة!
تتمثّل مشكلة أنقرة الكبرى اليوم في أنّ قياداتها توجّهت من قمّة مدريد الأطلسية حيث تمّ الاتفاق على الكثير من القرارات والتدابير العسكرية والسياسية ضدّ روسيا بشكل مباشر وإيران بشكل غير مباشر، إلى العاصمة الإيرانية طهران حيث القمّة الثلاثية التركية - الروسية - الإيرانية المشتركة لبحث تعاون وتنسيق استراتيجيَّين مرتبطين بالكثير من المسائل الإقليمية، حيث أكد المجتمعون للمرة السابعة أن لا حل في سوريا إلا بالسياسة.
مضت تركيا في سياسة متعدّدة الأقطاب. لكن مع تباعد الأقطاب تضيق قدراتها على التأرجح والجسر بينها. وبعد عودته من قمة الأطلسي، والتي كان من بين أهدافها إلزام إيران بتغيير سياساتها والتراجع عن تهديد أمن واستقرار دول المنطقة، كيف يمكن لأردوغان أن يدخل على الخط في نقاش بين طهران وموسكو حول حلف إقليمي جديد في مواجهة السياسات الغربية؟ وكيف له أن يوفق بين ذلك وبين انفتاحه الواسع على كل من إسرائيل والدول العربية الخليجية؟
على الأرض سرعان ما عاد الصراع إلى سياقه القديم، كالعادة مسيّرات تقصف قاعدة حميميم من مناطق تحت السيطرة التركية، وكالعادة رد تركي لاختراقات قوات النظام يوقع قتلى في صفوف قوات النظام، وكالعادة يُقتل الأطفال السوريون بقصف روسي انتقامي، وكالعادة تستمر المصافحات والركلات!
الجديد في الموضوع أن مساحة التلاقي فوق الطاولة تضيق بشدة. إذ لم تعد روسيا وسيط القوة المسيطر. وانقضى عهد "سلم بوتين" الإقليمي Pax Putina في الشرق الأوسط، ليصعد بدلاً من ذلك ضجيج السلاح من تحت الطاولة.
----------
النهار العربي