ما ينبغي تأكيده أن مسار أستانة وإن كانت انطلاقته مطلع 2017 هو القضية السورية، بل في جانبها العسكري فحسب، الا أن استمرار هذا المسار أثبت أنه بات يعكس تفاهمات الدول الثلاث ليس على المسألة السورية فقط، بل على مجمل المصالح المشتركة بين الأطراف المشار اليها، وفي هذا السياق لا نستغرب إن وجدنا تحقيق نجاحات في مجالات متنوعة لرعاة أستانة ليس من بينها القضية السورية، ولعل هذا ما حصل بالفعل في قمة طهران الأخيرة.
فإذا كان ما يجمع بين طهران وموسكو هو أن كلا البلدين يخضع لعقوبات من جانب الغرب والولايات المتحدة، فمن الطبيعي أن تكون أولويتهما هي إيجاد فرص للتغلب او الخروج من عبء تلك العقوبات، وذلك من خلال إبرام العديد من التفاهمات الجديدة على المستويين الاقتصادي والتجاري، وقد حصل ما يماثل ذلك أيضاً بين طهران وأنقرة، اذ اتفق الجانبان على رفع حجم التبادل التجاري بينهما ليصل الى ثلاثين مليار دولار.
أما على المستوى السياسي فلا بأس أن يقارب كل طرف من الأطراف الثلاثة القضية السورية من خلال مصالحه ورؤيته الخاصة، فالدولة المضيفة إيران لا تزال ترى أن حل القضية السورية يبدأ بخروج القوات الأميركية وعودة السوريين إلى مظلة الأسد، ومساعدة المجتمع الدولي لهذا النظام فيما يخص عودة اللاجئين وإعادة الاعمار، وهذه الرؤية هي ذاتها التي تنطلق من نظام الملالي بأن ما حصل في سوريا مؤامرة وعدوان عليها، وعلى المجتمع الدولي أن يكفّر عن اخطائه بمكافأة حاكم دمشق.
في هذا السياق، لا تكاد روسيا تبتعد عن الرؤية الإيرانية بدعوتها أيضاً إلى ضرورة خروج القوات الأميركية من سوريا موازاةً مع وجوب بسط نظام الأسد سيطرته على كافة الجغرافية السورية، والبدء بمحادثات سورية-سورية بقيادة الأسد، أي البدء بعملية سياسية تتجسد بعودة "المتمردين" إلى إطار شرعية الأسد حسب الرؤية الروسية، ولعل ما زاد في إغراء الروس بالاستمرار في هذا الطرح هو المواقف الرخوة أحياناً والرمادية أحياناً أخرى للمعارضة الرسمية، وخاصة مواقف اللجنة الدستورية التي لا تزال متماهية مع رغبة موسكو في استمرار اللقاءات العبثية لهذه اللجنة وبيانها الأخير حول تسمية وفد النظام بوفد حكومة الجمهورية العربية السورية الذي أثار حفيظة وغضب السورين.
أما أنقرة فإنها أكدت على لسان الرئيس رجب طيب اردوغان على ضرورة مكافحة الإرهاب القسدي الذي لا ينبغي أن يكون مختلفاً عن الإرهاب الداعشي وفق أنقرة، كما أكد على ضرورة تجريف مشتقات حزب العمال الكردستاني من منبج وتل رفعت، ولا بأس، وفقاً للرئيس أردوغان، بعد ذلك من العودة إلى حوار سياسي بين الأطراف السورية على أساس القرار الاممي 2254.
لقد انتهت قمة طهران بحصاد سياسي واقتصادي وفير فيما يخص الدول الثلاث، الا أن وفرة هذا الحصاد لا تطال السوريين ولا قضيتهم فيما اتفق عليه أطراف أستانة الثلاثة، وهو أن تبقى هدنة وقف إطلاق النار قائمة، وبوجود الهدنة ينتفي وجود الحلول، ومن ثم لا بأس من ترحيل الخلافات حول القضية السورية إلى لقاءات قادمة، ذلك أن ما تريده روسيا وإيران هو التأكيد على أن قمة طهران قد أنتجت رداً مناسباً على قمة جدة الخليجية الأميركية، كما أن الحليفين الروسي والإيراني أرادا التأكيد على أنهما لا يزالان الطرف الأقوى في الشرق الأوسط، فضلاً عن أنهما يمتلكان الكثير من الأوراق التي تجعل منهما ندّين للخصم الأميركي والغربي في المنطقة العربية، وما عزّز من ثقة موسكو وطهران بقدرتهما على مشاغلة الخصم الأميركي هو عدم إجماع الدول الخليجية ومعها مصر والأردن على مفهوم دفاعي واضح في مواجهة التهديد الإيراني، أضف إلى ذلك فشل الرئيس الأميركي بايدن في اقناع قادة الخليج العربي بالانخراط في حلف عسكري مناهض لإيران، إضافة لفشله أيضاً بإقناع الدول الخليجية بأخذ موقف معادٍ لروسيا والصين على أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا، الأمر الذي يجعل طهران ترى أن امامها المزيد من المساحات التي تصلح لمناورات مستقبلية حيال صراعها مع الولايات المتحدة.
إصرار الرئيس التركي على "اجتثاث الإرهاب" المتمثل بحزب الاتحاد الديمقراطي، الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني، لا يوحي بتراجع تركيا عن عزمها القيام بالعملية العسكرية كما توقع البعض، فهل حصل الرئيس التركي على ضوء اخضر من شركاء أستانة لشن العملية العسكرية في الشمال السوري؟ لعل الجواب الفعلي على هذا التساؤل يبقى رهن التفاهمات البينية بين كلّ من تركيا والولايات المتحدة من جهة، وروسيا وتركيا من جهة أخرى، تلك التفاهمات التي ربما يخترق الإعلام جانباً كبيراً منها، إلّا أن جانباً آخر لا يظهر إلّا في الأوقات المناسبة.
--------
المدن
--------
المدن