تفاقم شعور الولايات المتحدة بنشوة النصر مع نهاية الحرب الباردة، ليسود شعور بالعجرفة تجلى بأوضح اشكاله إزاء العرب. فلقد تعاملت الإدارات الأميركية اللاحقة مع مصالح العرب بالكثير من الخفة، فذهبت هباء، وعودها بعملية سلام جدية بعد طرد صدام حسين من الكويت. ثم فتحت أبواب العراق لإيران بعد احتلاله، واستبعدت العرب تماما من التعافي العراقي. وحين قررت الولايات المتحدة رفع غطائها عن عدد من الأنظمة في الإقليم، استبعدت بكل تصميم دور الدول من إدارة تداعيات "الربيع العربي"، بل فوضت قوى إقليمية وعلى رأسها روسيا وإيران هذه التداعيات على الأرض الخ... فمن هدية زر التشغيل Reset Baton من هيلاري الى لافروف، إلى رسالة أوباما الى خامنئي يتعهد فيها بعدم إطاحة الأسد، يتكرس هذا التفويض، ليعطي بطاقة بيضاء لأفعال روسيا وإيران، وصولاً الى أوكرانيا.
بل أصغى بعض الدبلوماسيين الأميركيين بشغف لما تروجه القوى الاقليمية حول عبثية العمل مع العرب، "فهم غير جديرين ببناء الدول ولا بإدارة الإقليم". وبذلك استعبد العرب من مباحثات الاتفاق النووي، ومن المفاوضات حول سوريا، وليبيا وغيرها. وحتى حين جرت بعض محاولات خجولة في مجال الدفاع كانت ناقصة ومتأخرة، وسرعان ما خبت. فتارة تمحض طائرات F35 للإمارات، ثم تسحب، وتارة تنشر الباتريوت في المملكة ثم تسحب، ثم تمضي واشنطن في نقل سفارتها للقدس الخ... فما الذي كانت تتوقعه الولايات المتحدة؟!
رويداً بدأ التحول الكبير في المملكة العربية السعودية! تحول لم يكتفِ بحرق المراحل داخلياً بشكل عاصف وعميق، في ثورة من فوق يمكن مقارنتها بالمايجي في اليابان، بل شملت الإمساك بزمام المبادرة الاستراتيجية خليجياً وعربياً ودولياً. هذا في حين عانت أميركا من افتقاد الأدوات ومن فقدان الوزن في الإقليم. وبذلك صارت الدول العربية تبحث عن تحالفات جديدة لرأب التوازن. وحتى إسرائيل راحت تتلذذ بالسباحة في بحر الصين والفولغا.
العبرة لم تكن في مجيء بايدن الى جدة فحسب، بل في تلك الصورة لاجتماع دول الخليج ومصر والأردن والعراق وتقاطع رؤية خطابهم، ليقولوا لبايدن ما يريدون وما يرفضون. كان يكفي ذلك لنستنتج أن ثمة جديداً يتحقق، بل لعل العرب قد عادوا؟!
سبقت زيارة بايدن جهود دبلوماسية كبيرة ساهم فيها بلينكن وأوستن وسوليفان للتحضير للانعطاف الأميركي الكبير. فلقد افلس تفويض إيران وروسيا حتى من وجهة مصلحة أميركا، لتدور الإدارة حول القطبة الناقصة في مخططاتها، سواء أمن البحار أم الطاقة أم دورة رأس المال. كانت القطبة الناقصة تدور حول الشرق الأوسط والعرب بالذات!
لا يمهل هذا العصر أصحاب العقول الكسولة والبطرانة. انه يختصر في شهور ما كان ليحدث في عقود. وسرعان ما جاءت الأحداث لتضع أمام الإدارة الأميركية تحديات كانت تهملها بكسلها المعهود. إلى أن ابتلى الله بوتين بغزوة أوكرانيا. فمن تسارع الأزمة الاقتصادية والتضخم بعد كوفيد، إلى أزمة الطاقة والوقود الاحفوري إلى انفجار أزمة الأسمدة والغذاء وسلاسل تموين زراعة، انفجرت مغامرة بوتين الشمشومية.
مثل كل الحروب، سيخرج الجميع من الحرب ضد أوكرانيا خاسرين. لكن المنكسر النهائي، هو الخاسر استراتيجياً والخاسر في بناء السلام. وكما حصل بعد الحرب الثانية، حسم الحرب مَن ربح السلام والتنمية فسقط جدار برلين. وكان على بايدن ان يضمن ان أميركا ستكون أقل الخاسرين. اندفع بايدن كرجل إطفاء يستعجل درء لهيب مستحق. من بحر الصين وتحالف "كواد"، إلى كوريا الجنوبية والفيليبين، إلى إعادة هيكلة التحالف الأطلسي وتموضعه، إلى خطط جديدة لدعم دول الجنوب في مواجهة أزمة الغذاء الخ... كان بايدن يشد حبال الشراكات والتحالفات.
أما العرب، أما المملكة، فلم تكن في عجلة من أمرها. فالعرب هم أصل التجارة وروحها. وهذه المرة نقبض فتقبضون! ولئن كنا سنتفق، فلنا في البحر والاستراتيجيات الكبرى حصة في إدارة أمن الملاحة في الإقليم من الأحمر والمتوسط وبحر العرب وصولاً الى التحالف الكبير مع الهند.
وإن كان على التقنيات العالية فنحن شركاء عضويون في تقنيات RAN LAN G5-6. وفي الإطار ذاته لا بأس في أن تتوافق أنظمة الإنذار المبكر والدفاع الجوي والبحري والردع بين القوى الإقليمية التي تشاركنا رؤيتنا للمخاطر. ففي أنظمة التسلح والأمن السيبراني يكون الزواج كاثوليكياً، وإلا صار العتاد لعب أطفال. فأنت إما هنا أو هناك. وهذه الشراكات تخلق اندماجاً في جينات الأمن القومي والمعلوماتي. ويفهم بوتين ذلك بعمق. فليست الشراكات سواسية، بعضها عابر وبعضها استراتيجي، وهذا ما دفعه إلى طهران.
في مجال الطاقة لعبها العرب بتفوق. فلئن اعتبر ولي العهد السعودي أمن الطاقة في صلب مسؤولية كل الدول لتعافي الاقتصاد العالمي وأبدى استعداد المملكة لتحمل مسؤولياتها لحماية التنمية والدول الفقيرة، فذاك سيتم بالموازنة في الدعم بين الطاقة الاحفورية والبديلة. وفي ذلك نحن شركاء أصيلون.
بل كان الدرس غنياً إزاء الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي أيضاً. وبعد أن رُوّجت قوى إقليمية لانكسار للعرب تاريخيا، وذهبت أميركا بعيداً في محض صكوك الملكية لإسرائيل في القدس والجولان، بل وزادت ذلك بإدارة ظهرها تماماً للفلسطينيين، الى حد محاولة قبر حل الدولتين، سرعان ما واجهت إسرائيل لحظة حقيقة تجبرها على أن تختار بين سكرة التطرف العقائدي وفرط القوة، وبين اضطرارها الى أن تصبح جزءاً من الإقليم ومن مصائبه. وهذا ما أكده بايدن.
هراء أن نظن هذا الانعطاف مناطاً بالحزب الديموقراطي أو بالحزب الجمهوري. انها المؤسسة! وحين قال الطباخ لبايدن: اكسر بصلة على انفك واذهب، لم يملك بايدن إلا أن يفعل، وفعل. فتلك مصلحة أميركا. وعليه الآن ان يرفق القول بالفعل. وحسبي انه سيفعل، فالبدائل محض أوهام!
أما العرب، بدولهم وأوطانهم ومشاربهم وصراعاتهم، فعليهم أن يكرسوا وحدة تصورهم لزمنهم وتنميتهم المستقبلية. فعالم اليوم بحر هائج لا يرحم ولن يمهل السفن الصغيرة المبعثرة، والعاصفة وشيكة جداً.
اختار العرب في جدة الانحياز الى منظومة الأمن والتنمية التي أسسها العالم الليبرالي في بريتون ووذز عام 1954، انه الدولار وأمن الطاقة ومسارات الاقتصاد العالمي، وكذلك كان خيار الصين في اجتماع اندونيسيا. ففي نهاية الأمر سنبقى نتاجر ونتعاطى مع الجميع، لكن الاستراتيجية تبدو محسومة.
---------
النهار العربي
---------
النهار العربي