ولا شك أن في قصة ولادة مع عشاقها عامة وابن زيدون على وجه الخصوص "فبركات" جليلة أضافتها التفسيرات الذكورية للحفاظ على صورة الشاعر الفحل الذي مرغت به ولادة تراب الزهراء وقرطبة ومعهما رمل ملقة وأشبيليا لكن شيوخ التاريخ أقصد شيوخ "الفبركة " وأساتذتها ظلوا الى جانب الشاعر الوزير مع أنه يعترف علنا وفي آخر بيت من قصيدة الزهراء التي يقول مطلعها
أني ذكرتك بازهراء مشتاقا
والافق طلق ووجه الارض قد راقا
نعم يعترف في ذيل تلك القصيدة الذائعة لرشاقتها بما لا يستطيع انكاره على معاصريه ويقر ابن زيدون شعريا بأن ولادة قلبت له ظهر المجن وسلته لتتسلى بمن حولها من شعراء وعشاق وجوار فيقول بمسكنة يدركها العشاق "المضروبون على أقفيتهم" والذين يكابرون كما يكابر الوزير الشاعر بأستمرار الحب عندهم رغم أفوله وغروب شمسه عند الحبيبات
فالآن أحمد ماكنا لعهدكم
سلوتم وبقينا نحن عشاقا
الإعتراف سيد الادلة كما يقول الفقه الجنائي لكننا لسنا في محكمة أذن دعك ممن على المكابرة يصرون و دع عنك ذا وعد القول – ليس في هرم ممدوح زهير- بل في مآثر باني أمجاد قرطبة عبد الرحمن الناصر سليل الفتى الدمشقي عبد الرحمن الداخل الذي لقبوه صقر قريش من قبيل ادعاء الشرعية القبلية لا الجغرافية فقريش الشامية كانت قد أصبحت بعيدة العهد بمكة وشعابها حتى أن معاوية جد جميع هذا الرهط المغامر رفض العودة أواخر أيامه ولو لتأدية المناسك
وكنا قد اتينا الزهراء يوم جمعة على طريقة وعن طريق مولاها وبانيها الخليفه المتحضر عبد الرحمن الناصر الذي غضب من خطيب مسجدها فقاطعه وجعل يصلي في مسجد قرطبه . فلما سئل لماذا لا يعزله وهو على ذلك قادر قال : "لماذا اعزله ما دمت استطيع ان اصلي خلف غيره ...؟" سبحان الله النفس الحسنه مولعة بكل شئ حسن فعلا . لذا كان الظلم في عهد الخلفاء الذين يحبون البناء أقل والعدل أكثر أما دسائس القصور ومؤامراتها فموجوده بالتساوي عند من يحبون الهدم وعند من يعشقون البناء .
ولم تكن الزهراء وحدها مأثرة الناصر الذي حكم نصف قرن , وسجل هواجس روحه العذبه في يوميات ضاع معظمها فقد اكمل ذلك المعماري الفذ جامع قرطبه وأعلى أعمدة بيت الله قبل ان يشيد بيته وقصوره , فصار الجامع تحفه معمارية ناطقه تشعرك باعمدتها الرشيقه الموزعه ما بين ابيض واحمر بالود والحميميه , اكثر مما تشعرك بالرهبه التي تجدها في كنائس القوط الذين كانوا قبله . وحين تدخل مسجد قرطبه من الباب المقابل لفندق "ماريسا" تجد الفناء الخارجي كأنه فناء المسجد الاموي بالفيحاء بحمامه وليمونه ونافورته الصامته وكأني بهؤلاء القوم – مثل حضرتنا - قد جمدوا ذاكرتهم عند دمشق ولجأو الى تكرار كل ما يوقظ ذكرياتها .
وفي ذلك المسجد بالذات تشعر بعمق ومهما كانت علمانيتك ان الاسلام هو هوية روحية بالدرجة الأولى فتترك الصلبان والفرسان والتماثيل والكاتدرائيه وتحث الخطى لتحتمي بالمحراب فتجد بدل الواحد اثنين وبينهما بالخط المذهب "بسم الله الرحمن الرحيم هو الله الذي لا اله هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن" فتكرر المهيمن عدة مرات ثم لا تسعفك العيون ولا الترميمات المضافة على القراءة , فتعود الى القدوس والسلام وتترك ما تبقى سليما من روحك ليسيل مع الزخرف والتوريقات الاسلامية التي تظهر لامعة وجديده وكأن الفنان العربي رفع ازميله قبل دقائق عنها .
وفي الطريق الى الزهراء وكانوا قديما كما يخبرنا الشقندي في رسالته يسيرون به ليلا على ضؤ المشاعل لمسافة عشرة أميال فيما أوروبا حولهم تغط في سباتها تحت ستارتين سميكتين من جهل وظلام ، اقول في ذلك الطريق لابد ان تحضر بقوة وكثافة سيرة ومأثرة ذلك الخليفة العاشق الذي بنى مدينة كاملة لجارية أحبها وأطلق عليها أسما نسائيا أعترافا بفضل تلك المرأة التي منحته السعادة وبعض الإستقرار فكان أكثر خلفاء الاندلس سماحة وتسامحا وأكثرهم ايضا قدرة على فرض سيطرة الدولة فمن ذا الذي يزعم أن الاشداء وحدهم خلقوا للحكم بعد سماع سيرة هذا الرومانسي الكبير .
في ذلك الطريق لا بد ان تتراقص في ذهنك الأمكنه الأندلسية بأسمائها العربية على غير ترتيب , العقيق , وشرق العقاب وعين الشهداء , والجعفريه , والبطحاء , وقد تأسبنت هذه الأسماء كلها فلم يبق منها بالاسم القديم الا الرصافة التي استلفتها الاسبانيه من العربية وجعلتها ARRUZAFA وحولها الاسبان الى استراحة قومية ظل منها الى اليوم بعض ما بناه عبد الرحمن بن معاوية تيمنا برصافة جده هشام في الشام . وظل مع الجدران الرمان السفري "الدركوشي" والريحان الحلبي والعنب السوري الابيض الذي صاروا يطلقون عليه في الاندلس اسم عنب عذارى لطوله وحلاوته وشبهه بأنامل الحسناوات . وهذا الاسم لا علاقة له بعين عذاري المعروفه في البحرين , فقد ظل كمعظم تسميات الاندلس صناعة أموية منقوله بحنين عارم من دمشق الى تلك الاصقاع .
وما ان يواجهك السور الثلاثي السميك المهدم بالزهراء حتى تترحم على ارواح الذين يكرهون الهدم ويحبون البناء وتتعجب من اولئك الذين يكررون الخطأ التاريخي ذاته فيحصنون ويدعمون ويتمترسون ويتناسون ان المدن المحصنه جيدا تؤخذ دائما من داخلها وان اسوار العدل والمساواة والحرية هي التي تحمي الدول من الانهيار والمدن من السقوط , لكن على من تقرأ مزاميرك يا فينيقي ويا عربي ويا شامي ويا مسلم بعد ان انفض السامر ورحل البداة من حيث اتوا بعد ان خلعوا اوتاد الخيام .
واعجب ما في الزهراء ان مهندسيها المعماريين كانوا خبراء سياسة من الدرجه الاولى . فقد جعلوا باب دار الوزراء باتجاه اشبيليه وبوابه قصر الجيش باتجاه قرطبه , فصار الوزراء ومنهم ابن زيدون يفرون باتجاه بني عباد وصار الجيش يتقهقر باتجاه قرطبه بعد كل غزوة ويترك الزهراء لقدرها كسبية حسناء يقع في حبها كل من تدخل في حوزته من غزاتها او تقع عينه عليها من عابريها .
ويبدو ان أول حديقة حيوان عربية تقام في تلك البقاع كانت الى الشرق من بوابة الجيش فقد اقام الناصر في الزهراء على ذمة ابن خلدون في تاريخه "محلات للوحش فسيحة الفناء متباعدة السياج ومسارح للطير مظلله بالشباك" . وقد بقي من تلك المطارح والمسارح السواقي التي كانت تنقل الماء الى حديقة الحيوانات بالزهراء التي قيّض لها مؤرخا وصفها بدقه هو ابن حيان الذي حكى عن كل شئ فيها وعنها بما في ذلك أجرة البغال التي كانت تحمل الرخام اليها , فجعل بوصفه واخباره مهمة المرممين سهلة ميسرة . وقد كانوا يقومون حين زرت الزهراء اول مرة عام 1994 بترميم المجلس الاكبر الذي كان يستقبل فيه سيد الزهراء زواره ,ثم عدت عدة مرات متفرقة لاجد مجلس عبدالرحمن يزداد اكتمالا وقد كانت تتوسط ذلك المجلس بركة من الزئبق يستخدمها الخليفة في العبث بعقول الزوار فيأمر غلمانه الصقالبة بتحريك الزئبق فيتشكل منه تحرك الشمس التي تغازله من جهة الجنوب الشرقي مهرجان من الضؤ الطبيعي الذي يخطف الابصار .
ولا اعرف لماذا تفرض الامتدادات الافعوانيه نفسها في معظم اللوحات الجصيه التي تزين ذلك المسجد وتذكرك بالمرأة الافعى اللاسعه اللاذعه والمنتقمه مع ان المكان كله بني بالاساس كرمى لعيون امرأة محبوبه بسيطة وعفوية , حمل اسمها "الزهراء" ولم يبنى لامرأة نكد وسموم .
لقد احب محيي الدين ابن عربي الزهراء وأطال الحديث عنها في المسامرات وخاطب فيها طائرا مغردا يكوي قلبه الشجن وسأله ذلك السؤال الممض الذي يحمل جوابه في تضاعيفه وبين ثنايا حروفه :
فقلت على ماذا تنوح وتشتكي
فقال على دهر مضى ليس يرجع
وقبل ابن عربي وقف الوزير الاشهر ابو الحزم ابن جهور مفتتح عهد دول الطوائف على أطلال الزهراء وخاطبها بقوله :
قلت يوما لدار قوم تفانوا
اين سكانك العزاز علينا
فاجابت هنا اقاموا طويلا
ثم ساروا ولست اعلم اينا
ولا تدري انت ولا غيرك ماذا يمكن ان يقال بعد هذه "الأين" الحاسمة التي تقطع ببلاغتها قول كل خطيب وشاعر ومفكر , فالقيثارات ما زالت تصدح بالسهوب والنساء يرحن ويجئن على سفوح جبل الورد وجبال "سييرا مورينا" ولكن بأزياء مختلفة وأسماء أخرى والبشر ما زالوا يأتون ويذهبون فيسبقون أبقارهم السعيدة حينا وأحيانا تسبقهم الأبقار فلا يظل من الهزائم والصراعات والامجاد الا حجرا ينعي بانيه وأسلحة صدئة معلقة بانكسار على جدار ... أو بقايا جدار