تمثال ابن رشد خارج اسوار قرطبة القديمة
وهناك عشرات غير هؤلاء لذا ولفهم المناخ السياسي الذي عاشت فيه ولادة اثر أنهياردولة أجدادها الأمويين أستميح القارئ عذرا قبل ان ارسم له الخارطة الوجدانية التي تقوده الى بيتها بوقفة عند ابن رشد مفتاح ذلك العصر فكريا وجار ولادة جغرافيا في قرطبة فالسياسة والدور الذي تلعبه في صقل أهل زمانها هي من أكبر المؤثرات على تشكيل المجتمع وقيمه وربما كانت هذه الوقفة ضرورية لنفهم العلة الدائمة في مجتمعات تتحرر إجتماعيا دون أن يكون لها من التحرر السياسي نصيب .
اذا شئت ان تذهب الى بيت ولاده من عند التمثال الذي يحمل بيتيها الشعريين فمن الأفضل ان تظل خارج سور المدينه العتيقه وان تسير بمحاذاة القناة الموازية له حتى تصل الى تمثال ابن رشد الذي يمسك كتابه بشماله , وتبدو حواف السور المدببه خلفه وكانها صواريخ عصرية مهيئة للاطلاق من منصات خفية . وعلى ذكر الكتاب , فقد كانت قرطبة مدينة العلم والكتب والثقافة في الوقت الذي كانت فيه شقيقتها اشبيليه مدينة الطرب والفنون . ويؤثر عن صاحب التمثال ابن رشد قوله انهم كانوا في تلك الايام اذا مات كاتب في اشبيليا حملوا كتبه الى قرطبه لتباع فيها , واذا مات مطرب في قرطبه فان الاته تحمل ليتم بيعها في اشبيليا , وما تلك بقسمة ضيزى .
وأظن انه لا بأس من وقفة عند ابن رشد قبل الوصول الى بيت ولادة فهذا المفكر الكبير أكثر منها تأثيرا في مجاله وميدانه ليس عندنا فحسب بل في اوروبا فحين أصدر رينان قبل قرن ونصف القرن من الزمان في منصف القرن التاسع عشر كتابه (ابن رشد والرشدية ) كان ذلك الفيلسوف العربي عند مفكري النهضة الاوروبية أهم من كارل ماركس عند منظري الثورة البلشفية فكل القيم الاساسية التي قامت عليها النهضة الحديثة من ايمان بالعلم ودفاع عن التقدم ومناداة بحق النساء في المساواة ودعوة للبشر لتحكيم قوانين العلم المدني تجدها مسطورة بوضوح ما بعده وضوح عند فيلسوفنا الكبير الذي أعدنا اكتشافه عن طريق اوروربا لكن هل أستفدنا عمليا من ذلك الاكتشاف ؟
نظريا عقدنا له عشرات الندوات والمؤتمرات أشهرها مؤتمر بغداد عام 1948حين كان احمد امين رئيس الدائرة الثقافية في الجامعة العربية ثم مهرجان ابن رشد بالجزائر عام 1978عندما صار اسم تلك الدائرة منظمة
( اليكسو) وكان يترأسها رجل من أهل الفكر هو الدكتور محيي الدين صابر
وقد حضرت المهرجان الاخير وكنت شابا متحمسا( لا يعجبه العجب ولا الصيام في رجب) وخرجت منه وانا على قناعة تامة أثبتتها الايام باننا أمة كلام لا أمة أفعال لان كل ما تبقى من ذلك الكلام الكبير الكثير الذي قيل على مدار ايام في عاصمة المليون شهيد لا يتعدى بيانا من ثلاث صفحات وكتابا ثمينا عن مؤلفات ابن رشد أعده الاب جورج شحاتة قنواتي استاذنا الذي درسنا اللغة السريانية في جامعة حلب وهو من القلائل الذين يتقنون تلك اللغة مع اللاتينية التي حفظت لنا التراث الرشدي لترد لنا الجميل فنحن الذين حفظنا لها التراث الاغريقي وخصوصا أرسطو الذي انقطع له فيلسوفنا وتفرغ وقدم عنه وعن افلاطون وسقراط العديد من الشروح والمختصرات .
وان شئت ان تعرف المزيد عن هذا الرائد الفذ فان تراجم أهل الفكر والادب في كتب اعلامنا وتراجمنا لا تكاد تغني الوامق ولا تبل ريق الظمآن فهي تكتفي بسنتي الولادة والوفاة وتسرد اسماء الشيوخ والتلاميذ ثم المؤلفات وبعدها ان شئت ان تعرف المزيد عن الحياة الشخصية لمن تحب من مفكرين فعليك بقراءة ما يرشح من المعنى الخفي بين السطور فدوما هناك في الفكر العربي والحياة العربية منظور ومنطوق ومستور ومسكوت عنه وغالبا ما يكثر النوع الثاني في حياة الشخصيات المثيرة للجدل كما حصل بين فيلسوف قرطبة والامير المتنور الذي رعى بعض جوانب مشروعه السياسي .
وفي حالة فيلسوفنا راهب الفكر وعاشق الحرية والثقافة و الذي لم يتوقف عن القراءة الا ليلتين –كما يخبرنا ابن الابار- لابد ان تجد حياة ابن رشد مملة قياسا بحياة ولادة التي لم نصل الى بيتها القرطبي بعد وهذا طبعا ان لم تكن من اهل الفكر والفلسفة الذين تشغلهم اهتمامات أعمق .
ولم يقع القدماء وحدهم تحت هذا الوهم انما وقع تحته مفكر و باحث رائد في الدراسات الرشدية هو الدكتور محمد عابد الجابري الذي يعتقد ان ابن رشد لم تكن له غير حياته العلمية (فليس هناك ما يحكى عن حياة فيلسوف قرطبة خارج حياته العلمية ليس لاننا نفتقد المعلومات عن جوانب اخرى من حياته بل لان حياته لم تكن تعرف جواتب اخرى منفصلة عن نشاطه العلمي ) .
واذا صدقنا الدكتور الجابري بان ابن رشد تمت نكبته بسبب كتاب (الضروري في السياسة ) الذي اختصر فيه جمهورية افلاطون للامير يحيى شقيق الخليفة المنصور وانه كان صاحب مشروع اصلاحي يضع ثقله خلف ذاك الامير فان علينا ان نفترض ان الفيلسوف قد عرف حياة غير علمية ترتبط بمشروعه الاصلاحي فهو –مع فرق العصور – أول مثقف غرامشي في تاريخ الفكر العربي يمتلك مشروعا سياسيا طموحا ويعمل من خلال طبقة –وتنظيم ربما – لانجاح ذلك المشروع ومن كان هذا شأنه لابد ان يكون له حياة غير علمية خصوصا ان كان متحرر الفكر ثاقب الرؤية مليئا بالنشاط والحيوية ويدرك قبل غيره ان اعتكافه لا يفيد كثيرا ما يحمله من أفكار .
لقد كان ابن رشد الرابض امام الاسوار المدببة لقرطبة وكتابه بيسراه- ككل مفكر كبير- متواضعا و قريبا من الناس وليس مفكر صوامع وأبراج عاجية فها هو ابن الابار يقول عنه في كتاب (التكملة لكتاب الصلة ) :
(وكان على شرفه أشد الناس تواضعا وأخفضهم جناحا ،غني بالعلم من صغره الى كبره حتى حكي عنه انه لم يدع النظر ولا القراءة منذ عقل الا ليلة وفاة ابيه وليلة بنائه على أهله ) .
فاذا أضفنا الى ذلك عمله بالقضاء ثم بالطب ندرك خرافة اعتكافه و استحالة عزلته العلمية ونرجح انه مثل معظم مفكري القرون الوسطى كان يعمل لتغيير السلطة والمجتمع من خلال تمرير مشروعه عبر امير متنور وقد وجد ضالته في أبي يعقوب يوسف الذي كان متبحرا في القضايا الفلسفية والفكرية بشهادة ابن رشد التي حفظها عبد الواحد المراكشي في المعجب على لسان احد تلاميذ فيلسوف قرطبة :
(لما دخلت على امير المؤمنين ابي يعقوب وجدته هو وابو بكر بن طفيل ليس معهما غيرهما .....فكان اول ما فاتحني به امير المؤمنين بعد ان سألني عن اسمي وأسم أبي ونسبي أن قال لي : ما رايهم بالسماء - يعني الفلاسفة – أقديمة هي أم حادثة ؟ فادركني الحياء والخوف فأخذت أتعلل وانكر اشتغالي بعلم الفلسفة ولم اكن ادري ما قرر معه ابن طفيل وجعل يتكلم على المسألة التي سألني عنها ويذكر ما قاله ارسطوطاليس وافلاطون وجميع الفلاسفة ويورد مع ذلك احنجاج أهل الاسلام عليهم فرأيت منه غزارة حفظ لم أظنها في احد المشتغلين بهذا الشأن ) .
لقد تميزت المدرسة الاندلسية عن الشرقية بعقلانيتها فحين غرق الشرق العربي في فتاوى الامام الغزالي المتزامنة مع الحروب الصلبية والمصنوعة خصيصا بناء على طلب السلاجقة كهجوم فكري مضاد ضد الفاطميين ( الباطنية بتعبير الغزالي ) كانت المدرسة الاندلسية بقيادة ابن رشد وابن طفيل تقطع شوطا بعيدا في انزال الفلسفة من عليائها وتحويلها الى اداة تغيير بتبسيطها وجعل العامة تفهم مقاصدها فقد كان اول مشروع يكلف به الامير المتنور فيلسوف قرطبة هو – رفع القلق عن عبارة أرسطو- وقد نقل ذلك التكليف كالعادة ابن طفيل الذي كان يعمل بمثابة مستشار ثقافي للامير ثم الخليفة أبي يعقوب يوسف الذي كان يتنقل ككل مستشاريه ومفكري دولته بين قرطبة واشبيليا ومراكش وقد قال ابن رشد عن رفع ذلك القلق اللغوي :
(استدعاني ابو بكر بن طفيل يوما فقال لي : سمعت امير المؤمنين يتشكى من قلق عبارة أرسطو أو عبارة المترجمين عنه ويذكر غموض أغراضه ويقول : لو وقع لهذه الكتب من يلخصها ويقرب أغراضها بعد ان يفهمها فهما جيدا لقرب مأخذها على الناس فان كان فيك فضل قوة لذلك فأفعل )
ان رفع القلق عن العبارة واللغة والفكر لا يقل أهمية عن رفع القلق عن الناس والشعوب فمشروعات التغيير الكبرى تبدأ على الورق قبل ان تتحقق في السياق الاجتماعي والسياسي وما لم يكن المشروع الفكري – السياسي واضحا في ذهن أصحابه يظل نجاحه من الامور المشكوك فيها وكان في ذهن ابن رشد الذي لم نستفد منه كما يجب وأقامت النهضة الاوروبية مشروعها الفكري على العديد من انجازاته وترجماته مشروعا تقدميا خلاقا يأخذ بالعلم دون أن يهمل دور العقيدة ويلتفت للنساء معترفا لهن بحق الرياسة بذات المقدار الذي يخاطب فيه العنصر الذكوري المهيمن .
وصدق او لا تصدق فان ابن رشد كتب النص التالي عن الدور السياسي للمرأة وجواز رياستها في القرن الثالث عشر الميلادي أي قبل ثمانية قرون من هذا الزمان :
( واما اشتراكهن في صناعة الحرب وغيرها فذلك بين من حالة ساكني البراري وأهل الثغور ومثل هذا ما جبلت عليه بعض النساء من الذكاء وسن الاستعداد فلا يمتنع ان يكون لذلك بينهن حكيمات او صاحبات رياسة ) .
وهناك من يبالغ ويعطي لذلك الفيلسوف دورا في حكاية كروية الارض وتحركها وليس ثباتها كما اعتقد الفلاسفة الستاتيكيون طويلا وهي نقطة ماتزال مثار أخذ ورد وجدل وأهمية النص الذي أثارها انه يثبت تواجد ابن رشد منذ شبابه عند الخليفة عبد المؤمن والد الامير المتنور ابي يعقوب يوسف للمشاركة في النهضة التعليمية التي بدأها ذلك الخليفة المطلع بتنظيم الطلبة - تماما كما فعلت حركة طالبان في افغانستان - مع الفرق الذي يفصل بين المتحجرين والمتنورين فالمتحجر يجمع حوله أمثاله فيسجن النساء ويحطم الفنون والمتنور صاحب الافكار الحرة يبحث عن متنورين على شاكلته ففي عهد الخليفة الموحدي الاول –بعد ابن تومرت المؤسس- بدأت حركة تثقيف واعداد شاملة من خلا ل الاكثار من المدارس ثم انتقلت الظاهرة الى الاندلس وبالغ فيها ابنه الاكثر تنورا ابو يعقوب الذي تحفظ كتب التراث له عدة رسائل بعثها الى الطلبة في الجزيرة الخضراء يناقشهم في امور كثيرة أشكلت عليهم ونصوصها لمن يريد الاطلاع عليها عند ابن القطان في ( نظم الجمان ) وحين يهتم خليفة قوي بالحوار الدوري مع الطلاب تدرك حجم و نجاعة المشرع الاندلسي – الرشدي الذي وضعت لبناته الاولى منذ ذلك التاريخ الموغل بالقدم .
المهم ان ابن رشد كان منذ يفاعته جزءا من النهضة الثقافية اتي بدأها عبد المؤمن فنصه عن فلكية الارض وانها ليست كبيرة قياسا الى ما حولها يستشهد برؤيا في مراكش في عهد ذلك الخليفة وقد كان موقفه من تحرك الارض الذي يدل على تفتح مبكر قياسا بذلك الزمان عنوانا لتفكيره المتفتح على وجه العموم وخصوصا من الناحية السياسية التي لا يستطيع ان يهملها كل من يبحث عن الاصلاح لذا لم يكن مستغربا ان نجد له عدة مواقف من سلطة الاستبداد (مدينة الغلبة كما يسميها ) وكما كان مونتسكيو يحكي عن الاستبداد الشرقي وعينه على ( اللواوسة) الفرنسيين كان ابن رشد يستعير مدينة الاستبداد الاغريقية لينتقد الاستبداد المغربي –الاندلسي الذي أعقب حكومة جماعية في مدينته قرطبة شارك فيها جده وفي هذا النقد للاستبداد والمستبدين عبارة قد تكون المفتاح لنكبة ابن رشد فاغلب من ناقشوا القصة السخيفة التي تقول انه نكب بسبب عبارة قال فيها انه شاهد الزرافة عند سلطان البربر – يقصد الخليفة المنصور- يدركون استحالة ان تكون هذه العبارة سببا لنكبة كبرى تصل الى حد النفي واحراق الكتب فالارجح ان تعليقاته الشخصية على كتب ارسطو وافلاطون وربط افكارها بما يجري في الاندلس هي التي قادت الى النكبة المعروفة اما العبارة المفتاح التي تربط اثينا افلاطون بقرطبة ابن رشد جهرا وصراحة لا غمزا ولمزا فهي :
(لذلك تسعى الجماعة الغاضبة الى اخراجه- المستبد- من مدينتهم فيضطر هو الى استعبادهم والاستيلاء على عتادهم وأسلحتهم فيصير حال الجماعة معه كما يقول المثل (كالمستجير من الرمضاء بالنار )وذلك ان الجماعة انما فرت من الاستعباد بتسليمها الرئاسة اليه فاذا هي تقع باستعباد اكثر قسوة وهذه الاعمال هي جميعا من اعمال رئاسة وحدانية التسلط وهي شئ بين في أهل زماننا هذا ليس بالقول فحسب بل بالحس والمشاهدة ) .
وما كان المنصور وهو أقل تنورا من أبيه يحتاج الى تحريض بعد هكذا عبارة فنكب ابن رشد ووضع حدا لمشروعه الاصلاحي الرائد الذي ولد مع الجد عبد المؤمن واغتنى مع الابن ابي يعقوب يوسف ووئد على يد الحفيد المنصورالذي قرب اليه شيوخا - كالملا عمر في عصرنا – من أصحاب الخرافات والمتحجرين وهذه متوالية (هندسة سياسية ) تتكرر في حياة العرب والمسلمين كثيرا الى درجة الغيظ فبدل ان تسير الامور الى الامام بفعل التراكم والتكرار تنتكس الاصلاحات دوما ويتم لتراجع الى الخلف فبغداد التي أحرقت كتب الفلاسفة والمفكرين ايام الخليفة القاهر لم يطل بها الوقت حتى سقطت تحت سنابك خيل الغزاة وكذلك الحال في محنة احراق كتب ابن رشد فان قرطبة لم تصمد طويلا بعد الموحدين لأن الحكم الاستبدادي يفكك بنية المجنمعات ويضعفها بينما السلطة العادلة نسبيا تحافظ على اللحمة الاجتماعية وتجعل البلدان اكثر قدرة على الصمود في وجه غزاتها .
ان احياء الطريقة الرشدية في التفكير أفادت اوروبا كثيرا في نهضتها فلما وصل اسلوب التفكير الرشدي الينا رأيناه يجف ويتحول الى مهرجانات واحتفاليات موسمية اما تأثيره في الحراك الاجتماعي والسياسي من حيث تبني العلم المدني ومحاربة الاستبداد والمساواة بين الرجال والنساء فلم يظهر منه الا أقل القليل فلا تستغرب مع هذا الاهمال الفظيع لواحد من أهم أعمدتنا الفكرية ان ننتكس بدل ان نتقدم وان تزدهر في بلادنا مدارس التكفير الظلامي عوضا عن مدارس التفكير الحر المستنير .
والآن لنترك فيلسوفنا وكتابه بيسراه لنتوجه الى بوابة السور القديم التي لابد من عبورها قبل الوصول الى بيت ولادة في قرطبة وغدا او بعد غد نتابع الرحلة على جناح الحب
اذا شئت ان تذهب الى بيت ولاده من عند التمثال الذي يحمل بيتيها الشعريين فمن الأفضل ان تظل خارج سور المدينه العتيقه وان تسير بمحاذاة القناة الموازية له حتى تصل الى تمثال ابن رشد الذي يمسك كتابه بشماله , وتبدو حواف السور المدببه خلفه وكانها صواريخ عصرية مهيئة للاطلاق من منصات خفية . وعلى ذكر الكتاب , فقد كانت قرطبة مدينة العلم والكتب والثقافة في الوقت الذي كانت فيه شقيقتها اشبيليه مدينة الطرب والفنون . ويؤثر عن صاحب التمثال ابن رشد قوله انهم كانوا في تلك الايام اذا مات كاتب في اشبيليا حملوا كتبه الى قرطبه لتباع فيها , واذا مات مطرب في قرطبه فان الاته تحمل ليتم بيعها في اشبيليا , وما تلك بقسمة ضيزى .
وأظن انه لا بأس من وقفة عند ابن رشد قبل الوصول الى بيت ولادة فهذا المفكر الكبير أكثر منها تأثيرا في مجاله وميدانه ليس عندنا فحسب بل في اوروبا فحين أصدر رينان قبل قرن ونصف القرن من الزمان في منصف القرن التاسع عشر كتابه (ابن رشد والرشدية ) كان ذلك الفيلسوف العربي عند مفكري النهضة الاوروبية أهم من كارل ماركس عند منظري الثورة البلشفية فكل القيم الاساسية التي قامت عليها النهضة الحديثة من ايمان بالعلم ودفاع عن التقدم ومناداة بحق النساء في المساواة ودعوة للبشر لتحكيم قوانين العلم المدني تجدها مسطورة بوضوح ما بعده وضوح عند فيلسوفنا الكبير الذي أعدنا اكتشافه عن طريق اوروربا لكن هل أستفدنا عمليا من ذلك الاكتشاف ؟
نظريا عقدنا له عشرات الندوات والمؤتمرات أشهرها مؤتمر بغداد عام 1948حين كان احمد امين رئيس الدائرة الثقافية في الجامعة العربية ثم مهرجان ابن رشد بالجزائر عام 1978عندما صار اسم تلك الدائرة منظمة
( اليكسو) وكان يترأسها رجل من أهل الفكر هو الدكتور محيي الدين صابر
وقد حضرت المهرجان الاخير وكنت شابا متحمسا( لا يعجبه العجب ولا الصيام في رجب) وخرجت منه وانا على قناعة تامة أثبتتها الايام باننا أمة كلام لا أمة أفعال لان كل ما تبقى من ذلك الكلام الكبير الكثير الذي قيل على مدار ايام في عاصمة المليون شهيد لا يتعدى بيانا من ثلاث صفحات وكتابا ثمينا عن مؤلفات ابن رشد أعده الاب جورج شحاتة قنواتي استاذنا الذي درسنا اللغة السريانية في جامعة حلب وهو من القلائل الذين يتقنون تلك اللغة مع اللاتينية التي حفظت لنا التراث الرشدي لترد لنا الجميل فنحن الذين حفظنا لها التراث الاغريقي وخصوصا أرسطو الذي انقطع له فيلسوفنا وتفرغ وقدم عنه وعن افلاطون وسقراط العديد من الشروح والمختصرات .
وان شئت ان تعرف المزيد عن هذا الرائد الفذ فان تراجم أهل الفكر والادب في كتب اعلامنا وتراجمنا لا تكاد تغني الوامق ولا تبل ريق الظمآن فهي تكتفي بسنتي الولادة والوفاة وتسرد اسماء الشيوخ والتلاميذ ثم المؤلفات وبعدها ان شئت ان تعرف المزيد عن الحياة الشخصية لمن تحب من مفكرين فعليك بقراءة ما يرشح من المعنى الخفي بين السطور فدوما هناك في الفكر العربي والحياة العربية منظور ومنطوق ومستور ومسكوت عنه وغالبا ما يكثر النوع الثاني في حياة الشخصيات المثيرة للجدل كما حصل بين فيلسوف قرطبة والامير المتنور الذي رعى بعض جوانب مشروعه السياسي .
وفي حالة فيلسوفنا راهب الفكر وعاشق الحرية والثقافة و الذي لم يتوقف عن القراءة الا ليلتين –كما يخبرنا ابن الابار- لابد ان تجد حياة ابن رشد مملة قياسا بحياة ولادة التي لم نصل الى بيتها القرطبي بعد وهذا طبعا ان لم تكن من اهل الفكر والفلسفة الذين تشغلهم اهتمامات أعمق .
ولم يقع القدماء وحدهم تحت هذا الوهم انما وقع تحته مفكر و باحث رائد في الدراسات الرشدية هو الدكتور محمد عابد الجابري الذي يعتقد ان ابن رشد لم تكن له غير حياته العلمية (فليس هناك ما يحكى عن حياة فيلسوف قرطبة خارج حياته العلمية ليس لاننا نفتقد المعلومات عن جوانب اخرى من حياته بل لان حياته لم تكن تعرف جواتب اخرى منفصلة عن نشاطه العلمي ) .
واذا صدقنا الدكتور الجابري بان ابن رشد تمت نكبته بسبب كتاب (الضروري في السياسة ) الذي اختصر فيه جمهورية افلاطون للامير يحيى شقيق الخليفة المنصور وانه كان صاحب مشروع اصلاحي يضع ثقله خلف ذاك الامير فان علينا ان نفترض ان الفيلسوف قد عرف حياة غير علمية ترتبط بمشروعه الاصلاحي فهو –مع فرق العصور – أول مثقف غرامشي في تاريخ الفكر العربي يمتلك مشروعا سياسيا طموحا ويعمل من خلال طبقة –وتنظيم ربما – لانجاح ذلك المشروع ومن كان هذا شأنه لابد ان يكون له حياة غير علمية خصوصا ان كان متحرر الفكر ثاقب الرؤية مليئا بالنشاط والحيوية ويدرك قبل غيره ان اعتكافه لا يفيد كثيرا ما يحمله من أفكار .
لقد كان ابن رشد الرابض امام الاسوار المدببة لقرطبة وكتابه بيسراه- ككل مفكر كبير- متواضعا و قريبا من الناس وليس مفكر صوامع وأبراج عاجية فها هو ابن الابار يقول عنه في كتاب (التكملة لكتاب الصلة ) :
(وكان على شرفه أشد الناس تواضعا وأخفضهم جناحا ،غني بالعلم من صغره الى كبره حتى حكي عنه انه لم يدع النظر ولا القراءة منذ عقل الا ليلة وفاة ابيه وليلة بنائه على أهله ) .
فاذا أضفنا الى ذلك عمله بالقضاء ثم بالطب ندرك خرافة اعتكافه و استحالة عزلته العلمية ونرجح انه مثل معظم مفكري القرون الوسطى كان يعمل لتغيير السلطة والمجتمع من خلال تمرير مشروعه عبر امير متنور وقد وجد ضالته في أبي يعقوب يوسف الذي كان متبحرا في القضايا الفلسفية والفكرية بشهادة ابن رشد التي حفظها عبد الواحد المراكشي في المعجب على لسان احد تلاميذ فيلسوف قرطبة :
(لما دخلت على امير المؤمنين ابي يعقوب وجدته هو وابو بكر بن طفيل ليس معهما غيرهما .....فكان اول ما فاتحني به امير المؤمنين بعد ان سألني عن اسمي وأسم أبي ونسبي أن قال لي : ما رايهم بالسماء - يعني الفلاسفة – أقديمة هي أم حادثة ؟ فادركني الحياء والخوف فأخذت أتعلل وانكر اشتغالي بعلم الفلسفة ولم اكن ادري ما قرر معه ابن طفيل وجعل يتكلم على المسألة التي سألني عنها ويذكر ما قاله ارسطوطاليس وافلاطون وجميع الفلاسفة ويورد مع ذلك احنجاج أهل الاسلام عليهم فرأيت منه غزارة حفظ لم أظنها في احد المشتغلين بهذا الشأن ) .
لقد تميزت المدرسة الاندلسية عن الشرقية بعقلانيتها فحين غرق الشرق العربي في فتاوى الامام الغزالي المتزامنة مع الحروب الصلبية والمصنوعة خصيصا بناء على طلب السلاجقة كهجوم فكري مضاد ضد الفاطميين ( الباطنية بتعبير الغزالي ) كانت المدرسة الاندلسية بقيادة ابن رشد وابن طفيل تقطع شوطا بعيدا في انزال الفلسفة من عليائها وتحويلها الى اداة تغيير بتبسيطها وجعل العامة تفهم مقاصدها فقد كان اول مشروع يكلف به الامير المتنور فيلسوف قرطبة هو – رفع القلق عن عبارة أرسطو- وقد نقل ذلك التكليف كالعادة ابن طفيل الذي كان يعمل بمثابة مستشار ثقافي للامير ثم الخليفة أبي يعقوب يوسف الذي كان يتنقل ككل مستشاريه ومفكري دولته بين قرطبة واشبيليا ومراكش وقد قال ابن رشد عن رفع ذلك القلق اللغوي :
(استدعاني ابو بكر بن طفيل يوما فقال لي : سمعت امير المؤمنين يتشكى من قلق عبارة أرسطو أو عبارة المترجمين عنه ويذكر غموض أغراضه ويقول : لو وقع لهذه الكتب من يلخصها ويقرب أغراضها بعد ان يفهمها فهما جيدا لقرب مأخذها على الناس فان كان فيك فضل قوة لذلك فأفعل )
ان رفع القلق عن العبارة واللغة والفكر لا يقل أهمية عن رفع القلق عن الناس والشعوب فمشروعات التغيير الكبرى تبدأ على الورق قبل ان تتحقق في السياق الاجتماعي والسياسي وما لم يكن المشروع الفكري – السياسي واضحا في ذهن أصحابه يظل نجاحه من الامور المشكوك فيها وكان في ذهن ابن رشد الذي لم نستفد منه كما يجب وأقامت النهضة الاوروبية مشروعها الفكري على العديد من انجازاته وترجماته مشروعا تقدميا خلاقا يأخذ بالعلم دون أن يهمل دور العقيدة ويلتفت للنساء معترفا لهن بحق الرياسة بذات المقدار الذي يخاطب فيه العنصر الذكوري المهيمن .
وصدق او لا تصدق فان ابن رشد كتب النص التالي عن الدور السياسي للمرأة وجواز رياستها في القرن الثالث عشر الميلادي أي قبل ثمانية قرون من هذا الزمان :
( واما اشتراكهن في صناعة الحرب وغيرها فذلك بين من حالة ساكني البراري وأهل الثغور ومثل هذا ما جبلت عليه بعض النساء من الذكاء وسن الاستعداد فلا يمتنع ان يكون لذلك بينهن حكيمات او صاحبات رياسة ) .
وهناك من يبالغ ويعطي لذلك الفيلسوف دورا في حكاية كروية الارض وتحركها وليس ثباتها كما اعتقد الفلاسفة الستاتيكيون طويلا وهي نقطة ماتزال مثار أخذ ورد وجدل وأهمية النص الذي أثارها انه يثبت تواجد ابن رشد منذ شبابه عند الخليفة عبد المؤمن والد الامير المتنور ابي يعقوب يوسف للمشاركة في النهضة التعليمية التي بدأها ذلك الخليفة المطلع بتنظيم الطلبة - تماما كما فعلت حركة طالبان في افغانستان - مع الفرق الذي يفصل بين المتحجرين والمتنورين فالمتحجر يجمع حوله أمثاله فيسجن النساء ويحطم الفنون والمتنور صاحب الافكار الحرة يبحث عن متنورين على شاكلته ففي عهد الخليفة الموحدي الاول –بعد ابن تومرت المؤسس- بدأت حركة تثقيف واعداد شاملة من خلا ل الاكثار من المدارس ثم انتقلت الظاهرة الى الاندلس وبالغ فيها ابنه الاكثر تنورا ابو يعقوب الذي تحفظ كتب التراث له عدة رسائل بعثها الى الطلبة في الجزيرة الخضراء يناقشهم في امور كثيرة أشكلت عليهم ونصوصها لمن يريد الاطلاع عليها عند ابن القطان في ( نظم الجمان ) وحين يهتم خليفة قوي بالحوار الدوري مع الطلاب تدرك حجم و نجاعة المشرع الاندلسي – الرشدي الذي وضعت لبناته الاولى منذ ذلك التاريخ الموغل بالقدم .
المهم ان ابن رشد كان منذ يفاعته جزءا من النهضة الثقافية اتي بدأها عبد المؤمن فنصه عن فلكية الارض وانها ليست كبيرة قياسا الى ما حولها يستشهد برؤيا في مراكش في عهد ذلك الخليفة وقد كان موقفه من تحرك الارض الذي يدل على تفتح مبكر قياسا بذلك الزمان عنوانا لتفكيره المتفتح على وجه العموم وخصوصا من الناحية السياسية التي لا يستطيع ان يهملها كل من يبحث عن الاصلاح لذا لم يكن مستغربا ان نجد له عدة مواقف من سلطة الاستبداد (مدينة الغلبة كما يسميها ) وكما كان مونتسكيو يحكي عن الاستبداد الشرقي وعينه على ( اللواوسة) الفرنسيين كان ابن رشد يستعير مدينة الاستبداد الاغريقية لينتقد الاستبداد المغربي –الاندلسي الذي أعقب حكومة جماعية في مدينته قرطبة شارك فيها جده وفي هذا النقد للاستبداد والمستبدين عبارة قد تكون المفتاح لنكبة ابن رشد فاغلب من ناقشوا القصة السخيفة التي تقول انه نكب بسبب عبارة قال فيها انه شاهد الزرافة عند سلطان البربر – يقصد الخليفة المنصور- يدركون استحالة ان تكون هذه العبارة سببا لنكبة كبرى تصل الى حد النفي واحراق الكتب فالارجح ان تعليقاته الشخصية على كتب ارسطو وافلاطون وربط افكارها بما يجري في الاندلس هي التي قادت الى النكبة المعروفة اما العبارة المفتاح التي تربط اثينا افلاطون بقرطبة ابن رشد جهرا وصراحة لا غمزا ولمزا فهي :
(لذلك تسعى الجماعة الغاضبة الى اخراجه- المستبد- من مدينتهم فيضطر هو الى استعبادهم والاستيلاء على عتادهم وأسلحتهم فيصير حال الجماعة معه كما يقول المثل (كالمستجير من الرمضاء بالنار )وذلك ان الجماعة انما فرت من الاستعباد بتسليمها الرئاسة اليه فاذا هي تقع باستعباد اكثر قسوة وهذه الاعمال هي جميعا من اعمال رئاسة وحدانية التسلط وهي شئ بين في أهل زماننا هذا ليس بالقول فحسب بل بالحس والمشاهدة ) .
وما كان المنصور وهو أقل تنورا من أبيه يحتاج الى تحريض بعد هكذا عبارة فنكب ابن رشد ووضع حدا لمشروعه الاصلاحي الرائد الذي ولد مع الجد عبد المؤمن واغتنى مع الابن ابي يعقوب يوسف ووئد على يد الحفيد المنصورالذي قرب اليه شيوخا - كالملا عمر في عصرنا – من أصحاب الخرافات والمتحجرين وهذه متوالية (هندسة سياسية ) تتكرر في حياة العرب والمسلمين كثيرا الى درجة الغيظ فبدل ان تسير الامور الى الامام بفعل التراكم والتكرار تنتكس الاصلاحات دوما ويتم لتراجع الى الخلف فبغداد التي أحرقت كتب الفلاسفة والمفكرين ايام الخليفة القاهر لم يطل بها الوقت حتى سقطت تحت سنابك خيل الغزاة وكذلك الحال في محنة احراق كتب ابن رشد فان قرطبة لم تصمد طويلا بعد الموحدين لأن الحكم الاستبدادي يفكك بنية المجنمعات ويضعفها بينما السلطة العادلة نسبيا تحافظ على اللحمة الاجتماعية وتجعل البلدان اكثر قدرة على الصمود في وجه غزاتها .
ان احياء الطريقة الرشدية في التفكير أفادت اوروبا كثيرا في نهضتها فلما وصل اسلوب التفكير الرشدي الينا رأيناه يجف ويتحول الى مهرجانات واحتفاليات موسمية اما تأثيره في الحراك الاجتماعي والسياسي من حيث تبني العلم المدني ومحاربة الاستبداد والمساواة بين الرجال والنساء فلم يظهر منه الا أقل القليل فلا تستغرب مع هذا الاهمال الفظيع لواحد من أهم أعمدتنا الفكرية ان ننتكس بدل ان نتقدم وان تزدهر في بلادنا مدارس التكفير الظلامي عوضا عن مدارس التفكير الحر المستنير .
والآن لنترك فيلسوفنا وكتابه بيسراه لنتوجه الى بوابة السور القديم التي لابد من عبورها قبل الوصول الى بيت ولادة في قرطبة وغدا او بعد غد نتابع الرحلة على جناح الحب