.
نص الترجمة:
تُعَدُّ الحرب التي بدأت للتو بين روسيا وأوكرانيا مُحصِّلة 30 عاما من الأخذ والرد. والأمر أبعد من أوكرانيا نفسها واحتمالية انضمامها إلى الناتو، فهي تدور حول مستقبل النظام الأوروبي الذي تَشكَّل بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، حيث صمَّمت الولايات المتحدة وحلفاؤها خلال تسعينيات القرن الماضي هيكل الأمن الأوروبي دون أن يكون لروسيا دور أو التزام واضح. ومنذ تولَّى "فلاديمير بوتين" رئاسة روسيا وبلاده تتحدَّى هذا النظام، فقد اشتكى الرجل مرارا من تجاهل النظام العالمي لمخاوف الأمن الروسي، كما طالب باعتراف الغرب بحق موسكو في دائرة امتيازات خاصة داخل الفضاء السوفيتي السابق، وشنَّ توغُّلات عسكرية محدودة في الدول المجاورة له (مثل جورجيا) التي سعت للخروج من فلك روسيا، وذلك للحيلولة دون تغيير وجهة تلك الدول بالكامل نحو الغرب.
يخطو بوتين بهذا النهج الآن خطوة أخرى إلى الأمام، حيث يُقدِم على غزو أوكرانيا غزوا أشمل بكثير من مجرد ضم القرم والتدخُّل في إقليم دونباس الذي نفَّذته روسيا عام 2014، وهو غزو سيُقوِّض النظام الإقليمي الحالي، وربما يفرض حضور روسيا من جديد نحو ما يعتبره بوتين "المكانة التي تستحقها" بلاده في القارة الأوروبية والمشهد العالمي. ويرى بوتين أن التوقيت مواتٍ الآن للتحرُّك، إذ إن الولايات المتحدة في نظره ضعيفة ومنقسمة وأقل قدرة على أن تسلك سياسة خارجية متماسكة، كما أن العقدين اللذين قضاهما في منصبه جعلاه يستخف بمسألة القوة الباقية للولايات المتحدة. ويقف بوتين اليوم في مواجهة خامس رئيس أميركي منذ تولِّيه رئاسة روسيا، وقد بات يرى واشنطن بعد كل تلك السنين محاورا غير موثوق به. أما الحكومة الألمانية الجديدة فلا تزال تبحث عن موطئ قدم لها في المشهد السياسي، إذ تُركِّز أوروبا في المجمل على تحدياتها الداخلية الآن، فيما تملك روسيا سطوة مُعتبرة على القارة الأوروبية بفضل سوق الطاقة المُحكَم.
يتصرَّف بوتين مدفوعا بمجموعة مبادئ متداخلة لسياسة بلاده الخارجية تشي لنا بأن موسكو ستكون طرفا مثيرا للاضطرابات في السنوات المقبلة، ولنُسمِّها "عقيدة بوتين". ويقع في القلب من هذه العقيدة إجبار الغرب على معاملة روسيا وكأنها الاتحاد السوفيتي، أي قوة لها احترامها وهيبتها، ولها حقوق خاصة في جوارها المباشر، وصوت مسموع في كل قضية دولية مهمة. وترتكز هذه العقيدة على أن دولا قليلة فقط هي التي يحق لها امتلاك مثل هذه السلطة، إلى جانب السيادة الكاملة على أراضيها، وأنه ينبغي لبقية الدول الخضوع لأهواء تلك النُّخبة القليلة من القوى الكبرى. وتنطوي هذه العقيدة على ضرورة الدفاع عن النظم الاستبدادية وتقويض الديمقراطيات، وهي ترتبط في الأخير بهدف بوتين الأسمى: عكس مآلات انهيار الاتحاد السوفيتي، ونقض عُرى التحالف الأطلسي، والتفاوض من جديد على التسوية الجغرافية التي أنهت الحرب الباردة.
عاصفة من الماضي
تملك روسيا، في نظر بوتين، الحق التام في أن يكون لها مقعد على الطاولة في القرارات الدولية الكبرى كافة. وبعد أن مَرَّت ما يعتبرها بوتين إهانة التسعينيات، حينما أُجبِرَت روسيا وهي في أضعف حالاتها على القبول بأجندة وضعتها الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون، يبدو أن بوتين قد حقَّق مراده اليوم. فقد نجحت روسيا في إعادة بناء جيشها بعد حرب عام 2008 مع جورجيا، حتى أصبحت الآن القوة العسكرية الأبرز في المنطقة، مع القدرة على مد أذرع قوتها عالميا، كما أن قدرة موسكو على تهديد جيرانها تُتيح لها أن تُجبِر الغرب على الجلوس إلى طاولة المفاوضات معها، وهو ما ثبتت صحته بوضوح في الأسابيع الماضية. ورغم طرد موسكو من مجموعة الثماني (G8) بعد ضمها شبه جزيرة القرم، فإن حق النقض الذي تتمتع به في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، بالإضافة إلى دورها بوصفها قوة عظمى جغرافيًّا ونوويًّا وفي مجال الطاقة، يضمنان لها التزام بقية دول العالم بأخذ رأيها في الاعتبار.
يرى بوتين أنه يحق لروسيا تماما استخدام القوة إذا ما اعتقدت أن أمنها مُهدَّد، إذ تُعَدُّ مصالح روسيا مشروعة مثلها مثل مصالح الغرب، ويؤكد بوتين أن الولايات المتحدة وأوروبا تجاهلتا مصالح بلاده في هذا الصدد. وقد رفضت الولايات المتحدة وأوروبا سردية المظلومية تلك الصادرة عن الكرملين، التي ترتكز على تفكُّك الاتحاد السوفيتي، لا سيما انفصال أوكرانيا عن روسيا. وحينما وصف بوتين الانهيار السوفيتي بأنه "الكارثة الجيوسياسية العظمى للقرن العشرين"، فإنه كان يتباكى على 25 مليون روسي وجدوا أنفسهم خارج روسيا، وخاصة حقيقة أن 12 مليون روسي وجدوا أنفسهم في الدولة الأوكرانية الوليدة. وبحسب ما كتبه بوتين في مقال نُشِر الصيف الماضي بعنوان "حول الوحدة التاريخية بين الروس والأوكرانيين"، فقد "وجد الناس أنفسهم (عام 1991) خارج دولتهم في ليلة وضحاها، مُبعدين بوضوح هذه المرة عن وطنهم الأم التاريخي"، وقد وُزِّع هذا المقال على الجنود الروس مؤخرا.
هذه السردية حول هزيمة روسيا على يد الغرب مرتبطة بهوس خاص عند بوتين: فكرة أن الناتو، الذي لم يكتفِ بأن يضم في عضويته دول ما بعد الاتحاد السوفيتي وأن يُقدِّم لها المعونة، قد يُهدِّد روسيا نفسها. ويُصِرُّ الكرملين على أن هذا الهاجس يستند إلى مخاوف حقيقية، فقد تعرَّضت روسيا مرارا للغزو على يد الغرب، إذ غزتها في القرن العشرين قوات التحالف المناهضة للبلشفية، التي ضمَّت جنودا من الولايات المتحدة، وذلك خلال حربها الأهلية بين عامَيْ 1917-1922، وغزتها ألمانيا مرتين، ما أدَّى إلى مقتل 26 مليون مواطن سوفيتي في الحرب العالمية الثانية. وقد ربط بوتين صراحة بين هذا التاريخ ومخاوف روسيا الحالية بشأن توسُّع الناتو قُرب حدودها، وما نتج عن ذلك من مطالب لضمان أمنها.
أما اليوم، فإن روسيا قوة نووية عظمى تُلوِّح بصواريخ جديدة "فوق صوتية"، وما من دولة لديها نية لغزو روسيا، في حين يمتلك جيرانها إلى غربها سردية مختلفة، ويؤكدون قابلية غزوهم من جانب روسيا طيلة قرون. وبدورها لن تشن الولايات المتحدة هجوما أبدا على روسيا، رغم اتهام بوتين لها بالسعي إلى "الحصول على قطعة شهية من كعكتنا". ومع ذلك، فإن تصوُّر روسيا التاريخي لذاتها والمستند إلى هشاشتها يجد آذانا مُصغية لدى سكانها، إذ يعج الإعلام الذي تُسيطر عليه الحكومة بمزاعم مفادها أن أوكرانيا قد تكون قاعدة الناتو لشن عدوانه على البلاد. وبالفعل، أورد بوتين في مقاله العام الماضي أن تحويل أوكرانيا لتكون "قاعدة إطلاق موجَّهة لروسيا" جارٍ على قدم وساق.
يعتقد بوتين أيضا أن روسيا لها كامل الحق في دائرة من الامتيازات الخاصة في الفضاء السوفيتي السابق، وهو ما يعني أن على جيرانها ألَّا ينضموا إلى أي تحالف تعتبره مُعاديا لها، وخاصة الناتو والاتحاد الأوروبي. وقد أوضح بوتين هذا المطلب في المعاهدتين اللتين اقترحهما الكرملين في 17 ديسمبر/كانون الأول الماضي، إذ تتطلَّب المعاهدتان التزام أوكرانيا والدول السوفيتية السابقة -وكذلك السويد وفنلندا- بالحياد الدائم، وتجنُّب السعي لنيل عضوية الناتو. وسيكون على الناتو كذلك التراجع إلى وضعه العسكري عام 1997، أي قبل توسُّعِه الأول، عن طريق سحب جميع قواته ومعداته من وسط وشرق أوروبا، مما يُخفِّض وجود الحلف إلى ما كان عليه قبل تفكُّك الاتحاد السوفيتي. وكذلك سيكون لروسيا حق النقض في خيارات السياسة الخارجية لجيرانها من الدول غير العضوة بالناتو، وسيضمن ذلك بقاء الحكومات الموالية لها في تلك البلدان، وأهمها أوكرانيا.
فرِّق تَسُد
حتى الآن، لم تُبدِ أي حكومة غربية استعدادها لقبول هذه المطالب الاستثنائية، إذ تتبنَّى الولايات المتحدة وأوروبا مبدأ حرية الأمم في تحديد أنظمتها السياسية الداخلية، وارتباطات سياساتها الخارجية، في شتى أنحاء العالم. أما الاتحاد السوفيتي، في الفترة بين 1945-1989، فقد حرم وسط أوروبا وشرقها من تقرير المصير، ومارَس سلطاته على السياسات الداخلية والخارجية للدول الأعضاء في "حلف وارسو" بواسطة الأحزاب الشيوعية المحلية والشرطة السرية والجيش الأحمر. وحين حاد بلد منها عن النموذج السوفيتي -مثل المجر عام 1956 وتشيكوسلوفاكيا عام 1968- عُزل قادته بالقوة، ومن ثمَّ مَثَّل حلف وارسو تحالفا ذا سجل فريد من نوعه: لقد كان يغزو أعضاءه فقط.
يتشابه تفسير الكرملين الحديث للسيادة بصورة لافتة مع التفسير السوفيتي، فهو يرى، كما قال جورج أورويل، أن بعض الدول أكثر سيادة من غيرها. وقد قال بوتين إن قوى عظمى قليلة فقط -روسيا والصين والهند والولايات المتحدة- هي مَن تتمتع بالسيادة التامة، وتختار بحرية أي تحالفات ستنضم إليها، أما الدول الأصغر مثل أوكرانيا وجورجيا فلا تتمتع بالسيادة الكاملة، ولذا عليها احترام قيود روسيا الصارمة، تماما مثلما تحترم دول وسط أميركا وجنوبها، بحسب بوتين، جارتهم الأكبر في الشمال. هذا ولا تسعى روسيا إلى عقد التحالفات بالمعنى الغربي للكلمة، بل تبحث عن شراكات تبادلية وأداتية مفيدة لها ولشركائها معا، مثل شراكتها الصين، بحيث لا تحد من حرية تصرُّف روسيا أو تصدر حكما على شؤونها السياسية الداخلية.
تُعَدُّ مثل هذه الشراكات الاستبدادية مُكوِّنا من مكونات عقيدة بوتين، ويُقدِّم الرئيس بلاده بوصفها داعما للوضع القائم، ومدافعا عن القيم المحافظة، ولاعبا عالميا يحترم القادة الراسخين في مواقعهم، لا سيما المستبدين منهم. وكما أظهرت الأحداث الأخيرة في كلٍّ من بيلاروسيا وكازاخستان، فإن روسيا هي القوة التي يلجأ إليها الحكام المستبدون المحاصرون طلبا للدعم، فقد دافعت روسيا عن المستبدين من جيرانها وعن غيرهم ممن يبعدون عنها جغرافيًّا مثل كوبا وليبيا وسوريا وفنزويلا. أما الغرب، بحسب الكرملين، فيدعم الفوضى وتغيير النظم السياسية، على غرار ما حدث خلال حرب العراق عام 2003، والربيع العربي عام 2011. وقد حقَّقت روسيا في السنوات الأخيرة نجاحا كبيرا فيما يتعلَّق برغبتها في أن يعرفها العالم بوصفها القائد والداعم لأنظمة الحكام الأقوياء، وآية ذلك ما قامت به جماعات المرتزقة المدعومة من الكرملين بالنيابة عن روسيا في أنحاء شتى من العالم، مثلما هو الحال في أوكرانيا.
لا يقتصر تدخُّل موسكو المحافظ على نطاق ما تعتبره منطقة نفوذها، إذ يعتقد بوتين أن مصالح روسيا ستتحقَّق على أفضل وجه بتفكُّك التحالف الأطلسي. ومن ثمَّ يدعم بوتين الجماعات المُشكِّكة في الاتحاد الأوروبي والجماعات المناهضة لأميركا في القارة الأوروبية، كما تدخَّل في انتخابات بدول أخرى، وعمل في العموم على توسيع الشقاق داخل المجتمعات الغربية. ويتمثَّل أحد أكبر أهداف بوتين في دفع الولايات المتحدة إلى الانسحاب من أوروبا، وتجدر الإشارة هُنا إلى ازدراء الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب لحلف الناتو، وتجاهله بعضا من كبار حلفاء الولايات المتحدة في أوروبا، بالإضافة إلى حديثه علنا عن انسحاب الولايات المتحدة من التحالف. أما إدارة الرئيس جو بايدن فتسعى بدأب إلى إصلاح التحالف، وقد عزَّزت بالفعل أزمة بوتين حول أوكرانيا من وحدة التحالف. بيد أن هناك ما يكفي من الشكوك في شتى أنحاء أوروبا حول استمرار التزام الولايات المتحدة بعد عام 2024، وقد حقَّقت روسيا بعض النجاح في تعزيز هذه الشكوك، لا سيما من خلال وسائل التواصل الاجتماعي.
قد يُمهِّد إضعاف التحالف الأطلسي الطريق أمام بوتين ليُدرِك هدفه النهائي: الإطاحة بالنظام الدولي الذي تلا الحرب الباردة، وهو النظام الليبرالي المستند إلى القواعد وتُشجِّعه أوروبا واليابان والولايات المتحدة، وذلك لصالح نظام دولي آخر أكثر قبولا بالنسبة لروسيا، إذ تسعى موسكو إلى ما يشبه تحالف القوى في القرن التاسع عشر. ولربما يتحوَّل نظام كهذا أيضا إلى تجسيد جديد للنظام الناتج عن "مؤتمر يالطا" (الاتفاقية الموقَّعة عام 1945 بين الاتحاد السوفيتي وبريطانيا والولايات المتحدة)، بحيث تُقسِّم روسيا والولايات المتحدة والصين الآن العالم إلى مناطق نفوذ ذات أقطاب ثلاثة. وبالفعل، عزَّز التقارب المتزايد بين موسكو وبكين دعوة روسيا إلى إقامة نظام "ما بعد الغرب".
أقرَّ النظام العالمي في القرنين التاسع عشر والعشرين قواعد معينة للعبة، إذ احترمت كلٌّ من الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي خلال الحرب الباردة مناطق نفوذ بعضهما بعضا إلى حدٍّ كبير. وقد نُزِع فتيل أخطر أزمتين في تلك الحقبة -أزمة الإنذار الأخير لبرلين الذي أطلقه القائد السوفيتي خروشوف عام 1958، وأزمة الصواريخ الكوبية عام 1962- قبل أن تندلع مواجهة عسكرية. وإن كان للحاضر أي دلالة، فإنه يدل على أن نظام "ما بعد الغرب" بالنسبة إلى بوتين سيكون عالما "هوبزيا" (بالنسبة إلى المفكر الإنجليزي توماس هوبز الذي يُستخدم اسمه لوصف وضع به تصارع فوضوي حاد دون قواعد واضحة) ومضطربا لا يلتزم بأدنى قواعد. وفي خضم سعيه إلى نظامه الجديد ذاك، سيكون نهج بوتين عمليا هو الاستمرار في إثارة الاضطرابات بالغرب، ودفعه إلى تخمين نِيَّاته الحقيقية، ومن ثم مفاجأته بتحرُّكات موسكو.
عودة روسيا
بالنظر إلى أزمة أوكرانيا الحالية، يبدو أن بوتين ما زال يتصرَّف وفقا لقناعته بأن الغرب تجاهل طيلة ثلاثة عقود ما يراه الكرملين مصالح روسيا المشروعة. ومن ثمَّ فهو عازم على إعادة ترسيخ حق روسيا في وضع حدود للخيارات السيادية لجيرانها وحلفائها السابقين من "حلف وارسو"، وإجبار الغرب على قبول هذه الحدود، وليكن ذلك بالدبلوماسية أو بقوة السلاح.
لا يعني هذا أن الغرب قليل الحيلة، فسيكون على الولايات المتحدة الاستمرار في المسار الدبلوماسي مع روسيا والسعي إلى تسوية مؤقتة مقبولة للجانبين، دون المساس بسيادة حلفائها وشركائها. وفي الوقت نفسه، عليها الحفاظ على التنسيق مع الأوروبيين للاستجابة لتحرُّكات روسيا غير المقبولة ومعاقبتها. ولكن من الواضح أنه حتى إذا توقَّفت الحرب التي بدأت للتو، فما من عودة إلى الوضع القائم قبل حشد روسيا لقواتها في مارس/آذار 2021. وقد تكون النتيجة النهائية لهذه الأزمة إعادة تنظيم الأمن الأوروبي الأطلسي للمرة الثالثة منذ نهاية أربعينيات القرن الماضي.
لقد أتى التنظيم الأول بواسطة ترسيخ "نظام يالطا" على صورة كتلتين متنافستين في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، وأتى التنظيم الثاني بين عامَيْ 1989-1991، مع انهيار الكتلة الشيوعية ثم الاتحاد السوفيتي ذاته، وما أعقب ذلك من رغبة الغرب في جعل أوروبا "موحَّدة وحرة". وفي نهاية المطاف، تدور الأزمة الحالية حول إعادة روسيا رسم خريطة عالم ما بعد الحرب الباردة، وسعيها إلى إعادة بسط نفوذها على نصف أوروبا، بالاستناد إلى حجة أنها تضمن أمنها. وبصرف النظر عن مآلات الأزمة الحالية، من المؤكَّد أنه ما دام بوتين باقيا في السلطة، فإن عقيدته سوف تبقى، وسوف تُلقي بظلالها على العالم لفترة طويلة.
——————————————————————————–
Foreign Affairs موقع ميدان.
نص الترجمة:
تُعَدُّ الحرب التي بدأت للتو بين روسيا وأوكرانيا مُحصِّلة 30 عاما من الأخذ والرد. والأمر أبعد من أوكرانيا نفسها واحتمالية انضمامها إلى الناتو، فهي تدور حول مستقبل النظام الأوروبي الذي تَشكَّل بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، حيث صمَّمت الولايات المتحدة وحلفاؤها خلال تسعينيات القرن الماضي هيكل الأمن الأوروبي دون أن يكون لروسيا دور أو التزام واضح. ومنذ تولَّى "فلاديمير بوتين" رئاسة روسيا وبلاده تتحدَّى هذا النظام، فقد اشتكى الرجل مرارا من تجاهل النظام العالمي لمخاوف الأمن الروسي، كما طالب باعتراف الغرب بحق موسكو في دائرة امتيازات خاصة داخل الفضاء السوفيتي السابق، وشنَّ توغُّلات عسكرية محدودة في الدول المجاورة له (مثل جورجيا) التي سعت للخروج من فلك روسيا، وذلك للحيلولة دون تغيير وجهة تلك الدول بالكامل نحو الغرب.
يخطو بوتين بهذا النهج الآن خطوة أخرى إلى الأمام، حيث يُقدِم على غزو أوكرانيا غزوا أشمل بكثير من مجرد ضم القرم والتدخُّل في إقليم دونباس الذي نفَّذته روسيا عام 2014، وهو غزو سيُقوِّض النظام الإقليمي الحالي، وربما يفرض حضور روسيا من جديد نحو ما يعتبره بوتين "المكانة التي تستحقها" بلاده في القارة الأوروبية والمشهد العالمي. ويرى بوتين أن التوقيت مواتٍ الآن للتحرُّك، إذ إن الولايات المتحدة في نظره ضعيفة ومنقسمة وأقل قدرة على أن تسلك سياسة خارجية متماسكة، كما أن العقدين اللذين قضاهما في منصبه جعلاه يستخف بمسألة القوة الباقية للولايات المتحدة. ويقف بوتين اليوم في مواجهة خامس رئيس أميركي منذ تولِّيه رئاسة روسيا، وقد بات يرى واشنطن بعد كل تلك السنين محاورا غير موثوق به. أما الحكومة الألمانية الجديدة فلا تزال تبحث عن موطئ قدم لها في المشهد السياسي، إذ تُركِّز أوروبا في المجمل على تحدياتها الداخلية الآن، فيما تملك روسيا سطوة مُعتبرة على القارة الأوروبية بفضل سوق الطاقة المُحكَم.
يتصرَّف بوتين مدفوعا بمجموعة مبادئ متداخلة لسياسة بلاده الخارجية تشي لنا بأن موسكو ستكون طرفا مثيرا للاضطرابات في السنوات المقبلة، ولنُسمِّها "عقيدة بوتين". ويقع في القلب من هذه العقيدة إجبار الغرب على معاملة روسيا وكأنها الاتحاد السوفيتي، أي قوة لها احترامها وهيبتها، ولها حقوق خاصة في جوارها المباشر، وصوت مسموع في كل قضية دولية مهمة. وترتكز هذه العقيدة على أن دولا قليلة فقط هي التي يحق لها امتلاك مثل هذه السلطة، إلى جانب السيادة الكاملة على أراضيها، وأنه ينبغي لبقية الدول الخضوع لأهواء تلك النُّخبة القليلة من القوى الكبرى. وتنطوي هذه العقيدة على ضرورة الدفاع عن النظم الاستبدادية وتقويض الديمقراطيات، وهي ترتبط في الأخير بهدف بوتين الأسمى: عكس مآلات انهيار الاتحاد السوفيتي، ونقض عُرى التحالف الأطلسي، والتفاوض من جديد على التسوية الجغرافية التي أنهت الحرب الباردة.
عاصفة من الماضي
تملك روسيا، في نظر بوتين، الحق التام في أن يكون لها مقعد على الطاولة في القرارات الدولية الكبرى كافة. وبعد أن مَرَّت ما يعتبرها بوتين إهانة التسعينيات، حينما أُجبِرَت روسيا وهي في أضعف حالاتها على القبول بأجندة وضعتها الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون، يبدو أن بوتين قد حقَّق مراده اليوم. فقد نجحت روسيا في إعادة بناء جيشها بعد حرب عام 2008 مع جورجيا، حتى أصبحت الآن القوة العسكرية الأبرز في المنطقة، مع القدرة على مد أذرع قوتها عالميا، كما أن قدرة موسكو على تهديد جيرانها تُتيح لها أن تُجبِر الغرب على الجلوس إلى طاولة المفاوضات معها، وهو ما ثبتت صحته بوضوح في الأسابيع الماضية. ورغم طرد موسكو من مجموعة الثماني (G8) بعد ضمها شبه جزيرة القرم، فإن حق النقض الذي تتمتع به في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، بالإضافة إلى دورها بوصفها قوة عظمى جغرافيًّا ونوويًّا وفي مجال الطاقة، يضمنان لها التزام بقية دول العالم بأخذ رأيها في الاعتبار.
يرى بوتين أنه يحق لروسيا تماما استخدام القوة إذا ما اعتقدت أن أمنها مُهدَّد، إذ تُعَدُّ مصالح روسيا مشروعة مثلها مثل مصالح الغرب، ويؤكد بوتين أن الولايات المتحدة وأوروبا تجاهلتا مصالح بلاده في هذا الصدد. وقد رفضت الولايات المتحدة وأوروبا سردية المظلومية تلك الصادرة عن الكرملين، التي ترتكز على تفكُّك الاتحاد السوفيتي، لا سيما انفصال أوكرانيا عن روسيا. وحينما وصف بوتين الانهيار السوفيتي بأنه "الكارثة الجيوسياسية العظمى للقرن العشرين"، فإنه كان يتباكى على 25 مليون روسي وجدوا أنفسهم خارج روسيا، وخاصة حقيقة أن 12 مليون روسي وجدوا أنفسهم في الدولة الأوكرانية الوليدة. وبحسب ما كتبه بوتين في مقال نُشِر الصيف الماضي بعنوان "حول الوحدة التاريخية بين الروس والأوكرانيين"، فقد "وجد الناس أنفسهم (عام 1991) خارج دولتهم في ليلة وضحاها، مُبعدين بوضوح هذه المرة عن وطنهم الأم التاريخي"، وقد وُزِّع هذا المقال على الجنود الروس مؤخرا.
هذه السردية حول هزيمة روسيا على يد الغرب مرتبطة بهوس خاص عند بوتين: فكرة أن الناتو، الذي لم يكتفِ بأن يضم في عضويته دول ما بعد الاتحاد السوفيتي وأن يُقدِّم لها المعونة، قد يُهدِّد روسيا نفسها. ويُصِرُّ الكرملين على أن هذا الهاجس يستند إلى مخاوف حقيقية، فقد تعرَّضت روسيا مرارا للغزو على يد الغرب، إذ غزتها في القرن العشرين قوات التحالف المناهضة للبلشفية، التي ضمَّت جنودا من الولايات المتحدة، وذلك خلال حربها الأهلية بين عامَيْ 1917-1922، وغزتها ألمانيا مرتين، ما أدَّى إلى مقتل 26 مليون مواطن سوفيتي في الحرب العالمية الثانية. وقد ربط بوتين صراحة بين هذا التاريخ ومخاوف روسيا الحالية بشأن توسُّع الناتو قُرب حدودها، وما نتج عن ذلك من مطالب لضمان أمنها.
أما اليوم، فإن روسيا قوة نووية عظمى تُلوِّح بصواريخ جديدة "فوق صوتية"، وما من دولة لديها نية لغزو روسيا، في حين يمتلك جيرانها إلى غربها سردية مختلفة، ويؤكدون قابلية غزوهم من جانب روسيا طيلة قرون. وبدورها لن تشن الولايات المتحدة هجوما أبدا على روسيا، رغم اتهام بوتين لها بالسعي إلى "الحصول على قطعة شهية من كعكتنا". ومع ذلك، فإن تصوُّر روسيا التاريخي لذاتها والمستند إلى هشاشتها يجد آذانا مُصغية لدى سكانها، إذ يعج الإعلام الذي تُسيطر عليه الحكومة بمزاعم مفادها أن أوكرانيا قد تكون قاعدة الناتو لشن عدوانه على البلاد. وبالفعل، أورد بوتين في مقاله العام الماضي أن تحويل أوكرانيا لتكون "قاعدة إطلاق موجَّهة لروسيا" جارٍ على قدم وساق.
يعتقد بوتين أيضا أن روسيا لها كامل الحق في دائرة من الامتيازات الخاصة في الفضاء السوفيتي السابق، وهو ما يعني أن على جيرانها ألَّا ينضموا إلى أي تحالف تعتبره مُعاديا لها، وخاصة الناتو والاتحاد الأوروبي. وقد أوضح بوتين هذا المطلب في المعاهدتين اللتين اقترحهما الكرملين في 17 ديسمبر/كانون الأول الماضي، إذ تتطلَّب المعاهدتان التزام أوكرانيا والدول السوفيتية السابقة -وكذلك السويد وفنلندا- بالحياد الدائم، وتجنُّب السعي لنيل عضوية الناتو. وسيكون على الناتو كذلك التراجع إلى وضعه العسكري عام 1997، أي قبل توسُّعِه الأول، عن طريق سحب جميع قواته ومعداته من وسط وشرق أوروبا، مما يُخفِّض وجود الحلف إلى ما كان عليه قبل تفكُّك الاتحاد السوفيتي. وكذلك سيكون لروسيا حق النقض في خيارات السياسة الخارجية لجيرانها من الدول غير العضوة بالناتو، وسيضمن ذلك بقاء الحكومات الموالية لها في تلك البلدان، وأهمها أوكرانيا.
فرِّق تَسُد
حتى الآن، لم تُبدِ أي حكومة غربية استعدادها لقبول هذه المطالب الاستثنائية، إذ تتبنَّى الولايات المتحدة وأوروبا مبدأ حرية الأمم في تحديد أنظمتها السياسية الداخلية، وارتباطات سياساتها الخارجية، في شتى أنحاء العالم. أما الاتحاد السوفيتي، في الفترة بين 1945-1989، فقد حرم وسط أوروبا وشرقها من تقرير المصير، ومارَس سلطاته على السياسات الداخلية والخارجية للدول الأعضاء في "حلف وارسو" بواسطة الأحزاب الشيوعية المحلية والشرطة السرية والجيش الأحمر. وحين حاد بلد منها عن النموذج السوفيتي -مثل المجر عام 1956 وتشيكوسلوفاكيا عام 1968- عُزل قادته بالقوة، ومن ثمَّ مَثَّل حلف وارسو تحالفا ذا سجل فريد من نوعه: لقد كان يغزو أعضاءه فقط.
يتشابه تفسير الكرملين الحديث للسيادة بصورة لافتة مع التفسير السوفيتي، فهو يرى، كما قال جورج أورويل، أن بعض الدول أكثر سيادة من غيرها. وقد قال بوتين إن قوى عظمى قليلة فقط -روسيا والصين والهند والولايات المتحدة- هي مَن تتمتع بالسيادة التامة، وتختار بحرية أي تحالفات ستنضم إليها، أما الدول الأصغر مثل أوكرانيا وجورجيا فلا تتمتع بالسيادة الكاملة، ولذا عليها احترام قيود روسيا الصارمة، تماما مثلما تحترم دول وسط أميركا وجنوبها، بحسب بوتين، جارتهم الأكبر في الشمال. هذا ولا تسعى روسيا إلى عقد التحالفات بالمعنى الغربي للكلمة، بل تبحث عن شراكات تبادلية وأداتية مفيدة لها ولشركائها معا، مثل شراكتها الصين، بحيث لا تحد من حرية تصرُّف روسيا أو تصدر حكما على شؤونها السياسية الداخلية.
تُعَدُّ مثل هذه الشراكات الاستبدادية مُكوِّنا من مكونات عقيدة بوتين، ويُقدِّم الرئيس بلاده بوصفها داعما للوضع القائم، ومدافعا عن القيم المحافظة، ولاعبا عالميا يحترم القادة الراسخين في مواقعهم، لا سيما المستبدين منهم. وكما أظهرت الأحداث الأخيرة في كلٍّ من بيلاروسيا وكازاخستان، فإن روسيا هي القوة التي يلجأ إليها الحكام المستبدون المحاصرون طلبا للدعم، فقد دافعت روسيا عن المستبدين من جيرانها وعن غيرهم ممن يبعدون عنها جغرافيًّا مثل كوبا وليبيا وسوريا وفنزويلا. أما الغرب، بحسب الكرملين، فيدعم الفوضى وتغيير النظم السياسية، على غرار ما حدث خلال حرب العراق عام 2003، والربيع العربي عام 2011. وقد حقَّقت روسيا في السنوات الأخيرة نجاحا كبيرا فيما يتعلَّق برغبتها في أن يعرفها العالم بوصفها القائد والداعم لأنظمة الحكام الأقوياء، وآية ذلك ما قامت به جماعات المرتزقة المدعومة من الكرملين بالنيابة عن روسيا في أنحاء شتى من العالم، مثلما هو الحال في أوكرانيا.
لا يقتصر تدخُّل موسكو المحافظ على نطاق ما تعتبره منطقة نفوذها، إذ يعتقد بوتين أن مصالح روسيا ستتحقَّق على أفضل وجه بتفكُّك التحالف الأطلسي. ومن ثمَّ يدعم بوتين الجماعات المُشكِّكة في الاتحاد الأوروبي والجماعات المناهضة لأميركا في القارة الأوروبية، كما تدخَّل في انتخابات بدول أخرى، وعمل في العموم على توسيع الشقاق داخل المجتمعات الغربية. ويتمثَّل أحد أكبر أهداف بوتين في دفع الولايات المتحدة إلى الانسحاب من أوروبا، وتجدر الإشارة هُنا إلى ازدراء الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب لحلف الناتو، وتجاهله بعضا من كبار حلفاء الولايات المتحدة في أوروبا، بالإضافة إلى حديثه علنا عن انسحاب الولايات المتحدة من التحالف. أما إدارة الرئيس جو بايدن فتسعى بدأب إلى إصلاح التحالف، وقد عزَّزت بالفعل أزمة بوتين حول أوكرانيا من وحدة التحالف. بيد أن هناك ما يكفي من الشكوك في شتى أنحاء أوروبا حول استمرار التزام الولايات المتحدة بعد عام 2024، وقد حقَّقت روسيا بعض النجاح في تعزيز هذه الشكوك، لا سيما من خلال وسائل التواصل الاجتماعي.
قد يُمهِّد إضعاف التحالف الأطلسي الطريق أمام بوتين ليُدرِك هدفه النهائي: الإطاحة بالنظام الدولي الذي تلا الحرب الباردة، وهو النظام الليبرالي المستند إلى القواعد وتُشجِّعه أوروبا واليابان والولايات المتحدة، وذلك لصالح نظام دولي آخر أكثر قبولا بالنسبة لروسيا، إذ تسعى موسكو إلى ما يشبه تحالف القوى في القرن التاسع عشر. ولربما يتحوَّل نظام كهذا أيضا إلى تجسيد جديد للنظام الناتج عن "مؤتمر يالطا" (الاتفاقية الموقَّعة عام 1945 بين الاتحاد السوفيتي وبريطانيا والولايات المتحدة)، بحيث تُقسِّم روسيا والولايات المتحدة والصين الآن العالم إلى مناطق نفوذ ذات أقطاب ثلاثة. وبالفعل، عزَّز التقارب المتزايد بين موسكو وبكين دعوة روسيا إلى إقامة نظام "ما بعد الغرب".
أقرَّ النظام العالمي في القرنين التاسع عشر والعشرين قواعد معينة للعبة، إذ احترمت كلٌّ من الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي خلال الحرب الباردة مناطق نفوذ بعضهما بعضا إلى حدٍّ كبير. وقد نُزِع فتيل أخطر أزمتين في تلك الحقبة -أزمة الإنذار الأخير لبرلين الذي أطلقه القائد السوفيتي خروشوف عام 1958، وأزمة الصواريخ الكوبية عام 1962- قبل أن تندلع مواجهة عسكرية. وإن كان للحاضر أي دلالة، فإنه يدل على أن نظام "ما بعد الغرب" بالنسبة إلى بوتين سيكون عالما "هوبزيا" (بالنسبة إلى المفكر الإنجليزي توماس هوبز الذي يُستخدم اسمه لوصف وضع به تصارع فوضوي حاد دون قواعد واضحة) ومضطربا لا يلتزم بأدنى قواعد. وفي خضم سعيه إلى نظامه الجديد ذاك، سيكون نهج بوتين عمليا هو الاستمرار في إثارة الاضطرابات بالغرب، ودفعه إلى تخمين نِيَّاته الحقيقية، ومن ثم مفاجأته بتحرُّكات موسكو.
عودة روسيا
بالنظر إلى أزمة أوكرانيا الحالية، يبدو أن بوتين ما زال يتصرَّف وفقا لقناعته بأن الغرب تجاهل طيلة ثلاثة عقود ما يراه الكرملين مصالح روسيا المشروعة. ومن ثمَّ فهو عازم على إعادة ترسيخ حق روسيا في وضع حدود للخيارات السيادية لجيرانها وحلفائها السابقين من "حلف وارسو"، وإجبار الغرب على قبول هذه الحدود، وليكن ذلك بالدبلوماسية أو بقوة السلاح.
لا يعني هذا أن الغرب قليل الحيلة، فسيكون على الولايات المتحدة الاستمرار في المسار الدبلوماسي مع روسيا والسعي إلى تسوية مؤقتة مقبولة للجانبين، دون المساس بسيادة حلفائها وشركائها. وفي الوقت نفسه، عليها الحفاظ على التنسيق مع الأوروبيين للاستجابة لتحرُّكات روسيا غير المقبولة ومعاقبتها. ولكن من الواضح أنه حتى إذا توقَّفت الحرب التي بدأت للتو، فما من عودة إلى الوضع القائم قبل حشد روسيا لقواتها في مارس/آذار 2021. وقد تكون النتيجة النهائية لهذه الأزمة إعادة تنظيم الأمن الأوروبي الأطلسي للمرة الثالثة منذ نهاية أربعينيات القرن الماضي.
لقد أتى التنظيم الأول بواسطة ترسيخ "نظام يالطا" على صورة كتلتين متنافستين في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، وأتى التنظيم الثاني بين عامَيْ 1989-1991، مع انهيار الكتلة الشيوعية ثم الاتحاد السوفيتي ذاته، وما أعقب ذلك من رغبة الغرب في جعل أوروبا "موحَّدة وحرة". وفي نهاية المطاف، تدور الأزمة الحالية حول إعادة روسيا رسم خريطة عالم ما بعد الحرب الباردة، وسعيها إلى إعادة بسط نفوذها على نصف أوروبا، بالاستناد إلى حجة أنها تضمن أمنها. وبصرف النظر عن مآلات الأزمة الحالية، من المؤكَّد أنه ما دام بوتين باقيا في السلطة، فإن عقيدته سوف تبقى، وسوف تُلقي بظلالها على العالم لفترة طويلة.
——————————————————————————–
Foreign Affairs موقع ميدان.