بخروج مصر وجيشها من معادلة الصراع مع إسرائيل وتضاؤل خطر منظمة التحرير الفلسطينية بابتعادها عن الجغرافية المحاورة لفلسطين وذلك بعد أحداث أيلول الأسود في الأردن 1970، واجتياح شارون للبنان 1982 وطرد المنظمة منه، كانت السردية الإسرائيلية بحاجة لعدو خارجي حقيقي وقريب لشدّ عصب اليهود في العالم واستمرار التعاطف والدعم الغربي لهم، ووجدوا ضالتهم تلك في خطاب نظام الأسد الشعاراتي عن العدو الإسرائيلي واسترجاع الحقوق العربية المغتصبة.
لكل تلك الأسباب يرى البعض أنّ إسرائيل كانت حريصة على استمرار نظام الأسد على حدودها الشمالية والدفاع عنه في المحافل الغربية وتُخفّف من سياسات غربية عقابية ضِدّه.
لكن التقديرات الإسرائيلية والغربية عموماً لم تكن صحيحة أو صائبة بالمراهنة على تحالف الأقليات في المنطقة والذي أخذ بالظهور عقب وصول الخميني للسلطة في إيران وبداية تشكيل نواة لتحالف إستراتيجي مع نظام حافظ الأسد العلوي في سوريا، وكان مفهوماً ذلك في البدايات لإضعاف العرب عموماً والعراق خصوصاً ولكنه بالتوازي معه أخذ أبعاداً أخطر على إسرائيل والغرب حيث أظهر التعاون الجدي بين الملالي والأسد في تمكين الحرس الثوري في لبنان بإنشائه لمنظمة حزب الله و بالتالي إدخال نظام الملالي على معادلة الصراع العربي الإسرائيلي عملياً بعد تأميم كل أشكال المقاومة في لبنان لصالح حزب طائفي ديني مسلح يرتبط علناً بنظام ولاية الفقيه (ولا يُخفي ذلك).. وكانت السذاجة الأمريكية بحيث لم تَتمّ معاقبة الحزب على تفجيرات السفارة الأمريكية في بيروت أو قتل المارينز والجنود الفرنسيين، وتلك المجموعة التي قامت بالتفجيرات هي الرعيل المؤسس لحزب الله والذين شكلوا الخطر الأكبر على إسرائيل ودعموا إنشاء الحركات الفلسطينية المعادية (حماس – الجهاد الإسلامي) ولازلنا نعيش الآن تداعيات ذلك البركان الذي انفجر بوجه إسرائيل في 7 أكتوبر من العام الماضي..
بعد هجمات أيلول 2001 والدخول في حقبة التخادم الأمريكي الإيراني ضد الجهاديين السنة (وبعضهم يرى ضد السنة عموماً) كان واضحاً أنّ بعضهم اختار إستراتيجية التعاون بين الأقليات في المنطقة (شيعة ولاية الفقيه – اليهود – بعض موارنة لبنان – العلويين الذين يمثلهم نظام الأسد) وباتت الحدود الشمالية للدولة العبرية بحراسة تلك الأقليات خاصةً أنّ إيهود باراك سحب جيشه من جنوب لبنان كبادرة حسن نية تجاه القوى الجديدة واعطائها نصراً ستستعمله حتماً للحصول على شرعية وشعبية وتستكمل إحكام سيطرتها على دولها ومجتمعاتها…
وبعد احتلال العراق وإسقاط حكم الرئيس صدام وتقديم العراق لإيران على طبق من فضة بات الهلال الشيعي حقيقة واقعة على الأرض يمتد من إيران إلى البحر الأبيض المتوسط وبالتأكيد تبلور المحور الإيراني أكثر في مرحلة الربيع العربي، وفي حقبة الرئيس أوباما ارتكب الأمريكان والإيرانيين والإسرائيليين أخطاء فادحة إذ توهموا أنهم ممكن لمشاريعهم المختلفة التعايش قسرياً ومراعاة مصالح كل طرف للآخر وعدم الاصطدام معه والاكتفاء بحالة التنافس المشروع والتخادم العملي والابتعاد عن الصراع واعتبار الصدام خطاً أحمراً، والرضى بتقاسم النفوذ والتهام كل طرف لحصته من الفريسة العربية (ومن سوء حظ السوريين وثورتهم أنّ جُلّ ذلك التنافس وتالياً الصراع ومؤخراً الصدام كان وسيكون في سوريا).
ومع استمرار السذاجة الإسرائيلية والأمريكية كان نظام الأسد ينجو من الإطاحة به في محطات هامة منها بعد الاحتلال الأمريكي للعراق حيث كان يُراود الرئيس بوش خيار إسقاط الأسد في ذروة الحملة على الحرب على الإرهاب ومنابعه وداعميه، وأرسل وزير خارجيته كولن باول بمجموعة مطالب إلى بشار الأسد منها عدم دعم المقاومة العراقية بأيّ شكل من الأشكال سواء كان بالعتاد أو الرجال أو التسهيلات اللوجستية وإلّا إنه سيواجه مصير الرئيس صدام، وبضغط من قاسم سليماني لم يلتزم الأسد بالتحذيرات الأمريكية ووضعت إسرائيل فيتو بوجه الرئيس بوش على أيّ عمل عسكري ضد الأسد خوفاً من حالة فوضى شبيه بالعراق.
أيضاً تَكرّرت الحماية الإسرائيلية بعد اغتيال الرئيس الحريري، وبعد اكتشاف إسرائيل لنواة مشروع نووي سوري قامت بتدميره لاحقاً وهو مفاعل الكُبَر، وتم الاكتفاء بعقوبة أمريكية لنظام الأسد بعد اغتيال الحريري وهي تطبيق بند من القرار 1559 القاضي بخروج القوات الأجنبية من لبنان ورضخ الأسد للتهديد الأمريكي ونفذ طُلِبَ منه.
وبعد اندلاع الثورة السورية تَجلّت الحماية الإسرائيلية لنظام الأسد عبر محطتان هامتان، أولاهما أنّ الأسد يُخرِج سوريا لعشرات السنين من معادلة الصراع مع إسرائيل عبر تدمير وتهجير للبيئة المعادية لإسرائيل والحليف الموضوعي للشعب والقضية الفلسطينية وهم الأغلبية السنية الثائرة على حكمه، والشفاعة الاسرائيلية الثانية أتت بعد استخدام الأسد للأسلحة الكيماوية في آب 2013 ضد الثائرين عليه في الغوطة الشرقية والضغط على الرئيس أوباما لنزع الترسانة الكيماوية السورية وإبقاء الأسد في قصره في دمشق لاستكمال تدمير سوريا والسوريين وممكن أن يكون ذلك على مبدأ الشيطان الذي تعرفه أفضل من الشيطان الذي ستتعرف عليه
لكنّ فريقاً في إسرائيل كان مُتوجّساً من كل الإستراتيجية المُتّبعة في المنطقة مع إيران ويعترض بشدة على إصرار أوباما على توقيع الاتفاق النووي، لذلك لجأت اسرائيل باكراً للضربات الوقائية العسكرية للتموضعات النوعية العسكرية الإيرانية في سوريا بما عُرِفَت بإستراتيجية قَصّ العشب، فيما كانت تستعد سراً للحرب على حزب الله بعد حرب 2006 فيما إذا تجاوز على التفاهمات الضمنية الغير مكتوبة بخصوص المصالح الحيوية والضرورات الأمنية الإسرائيلية..
بعد السابع من أكتوبر وانهيار كل التفاهمات والتخادمات وحدوث الصدام الحقيقي وظهور حقيقة المحور الإيراني ( والأسد جزء أصيل منه ) في تدمير دولة إسرائيل (ولو بالنقاط وليس بضربة قاضية ) تَغيّرت كل المعطيات الإستراتيجية الإسرائيلية تجاه الأسد، ولن يفيده وضعية النعامة أو المزهرية والإيحاء بأنه لا علاقة له بالحرب الدائرة الآن وتصدير مشهد يُظهر امتثاله للتهديدات الإسرائيلية التي نُقِلَت له عبر موسكو وأبو ظبي.
وبرزت مؤخراً تصريحات هامة صدرت عن المستوى السياسي الأول في الدولة العبرية منها تصريح جدعون ساعر أحد أعضاء حكومة نتنياهو وزعيم حزب يمين الدولة حيث قال: “على إسرائيل أن تُوضّح لبشار الأسد بأنه إذا استمرت الأراضي السورية لتكون طريقاً لتوريد الأسلحة الإيرانية لحزب الله وسمحت بالعدوان على إسرائيل من أراضيها فإنه يُعرّض نظام حكمه للخطر”..
وتوجد تصريحات كثيرة بهذا الاتجاه منها تصريح لـ أفيغدور ليبرمان زعيم حزب إسرائيل بيتنا بأن على الجيش الإسرائيلي اعادة احتلال الجزء السوري من جبل الشيخ المشرف على دمشق وما حولها وتهديد نظام حكم الأسد، كما أنّ أخباراً صحفية وتسريبات كثيرة دارت حول إمكانية غزو إسرائيلي للجنوب السوري وتطويق الجنوب اللبناني وفصله عن سوريا من الشرق لتسهيل اقتحامه بعد قطع الإمدادات عنه، وتَرافق ذلك مع اعمال هندسية يقوم بها الجيش الإسرائيلي على جبهة الجولان…
وفهم نظام الأسد بالتأكيد رسالة ضرب سيارة ماهر الأسد بعد نزوله منها في إحدى مقراته بضواحي دمشق، وإنّ إسرائيل لم تَعُد قادرة عن السكوت عن التعاون الكبير بين الفرقة الرابعة وسائر ميليشيا النظام مع ميليشيا الحزب وبقية الميليشيات الموالية لإيران،
ولسنا بحاحة لتصريح من نتنياهو ليخبرنا أنّ شرق أوسط جديد يتم تشكيله الآن بالنار والدم وبدأت ملامحه بالظهور من غزة وامتد إلى لبنان وسيمتد إلى سوريا والعراق وإيران، وهذا الشرق الأوسط الجديد لن يكون فيه أدوات قديمة وأهمها نظام الأسد الذي أصبح من الماضي غير السعيد لسوريا وشعوب المنطقة كلها.
من أسباب عدم صلاحية بشار الأسد للمرحلة القادمة
1- صعوبة تعويمه مستقبلاً بعد كل ارتكاباته بحق السوريين والإقليم، ووفق التقارير الدولية والقوانين الأمريكية فهو مجرم حرب وتاجر مخدرات دولي ومطلوب للقضاء في عدد من الدول الاوربية أهمها فرنسا.
2- عدم قيامه بأيّ دور فعال في تلبية المطالب العربية والإقليمية والدولية المطالبة بفكّ ارتباطه بمحور إيران في المنطقة وسواء كان عاجزاً أو غير راغب فالنتيجة واحدة.
3- النأي بنفسه عن معركة المحور في المنطقة اعلامياً لا تجدي نفعاً فهو يُؤمّن العمق الإستراتيجي لحزب الله وكل ميليشيات المحور، فهو خط الإمداد الأول (والوحيد) للحزب ويُتيح لإيران تثبيت تموضعات نوعية مثل معامل تصنيع السلاح النوعي ومراكز للرادارات والدفاع الجوي وغرف للقيادة والسيطرة، وشاهدنا مؤخراً كيف تم تدمير منشآت مصياف العسكرية بإنزال بري لجيش العدو الإسرائيلي فالضربات الجوية غير كافية لاقتلاع التموضعات الإيرانية المهمة.
4- نظام الأسد يملك حَيّز جغرافي مع إسرائيل عبر الجولان المحتل وغير قادر على منع التحشيدات لميليشيا المحور فيها وبالتالي من غير المجدي هزيمة حزب الله في لبنان وتحييد جبهة الجنوب اللبناني وتجميعه في جبهة أطول وهي جبهة الجنوب السوري.
5- الوجود العسكري والسياسي الروسي في سوريا مرتبط بوجود نظام الأسد التابع له، وبغياب نظام الأسد تسقط أيّ شرعية لذلك النفوذ المعادي للغرب.
6- لا فائدة من الأسد أو لا رغبة إسرائيلية خصوصاً بتوقيع معاهدة سلام معه، وبعد توقيع الدول العربية السنية للسلام مع إسرائيل من المُفضّل للدولة العبرية توقيع معاهدة مستقبلية مع قيادة سورية شرعية تُمثّل أو ترضى عنها الاغلبية العربية السنية السورية، خاصةً أنّ ما أصاب سوريا والسوريين على أيدي الأسد وإيران وروسيا شَكّل وعياً جديداً بالالتفات أولاً لبناء سوريا وبروز أعداء جُدُد غير الأعداء القدامى.
----------
نينار برس