ولا تزال إلى اليوم قصص حركة الحاسيديم هي المفضلة لدي. فهي تشبع سماع صوت جدي لأمّي يقول بأسلوبه الحنون المفعم بالحيوية إنّه كان من المفترض نقله إلى عالمٍ مستقلٍ، عالمٍ مشرقٍ خيّر لا مصير للأشرار فيه سوى الهزيمة والعقاب، في حين ينسى ضحاياهم ما أصابهم من محنٍ وينشدون حقهم من السعادة. باختصار، كانت المعجزات جزءًا من الحياة اليومية في ذلك العالم.
ومن بين جميع قصص الحاسيديم التي أحببتُها، كان هناك حكاية مفضلة رواها جدّ الكاتب فرانز كافكا ، الحاخام الشهير الغامض ناحمان من براسلاف. لقد جعلتني أحلم. وعندما تحدث كافكا ، ذلك الروائي العظيم من براغ، عن رغبته في رؤية حكاياته تتحول إلى صلوات، كان يفكر على الأرجح بالحاخام ناحمان. إلا أنّه فعلَ العكس، فقد حوّل صلواته إلى حكايات. فهل كان الحاخام ناحمان هو معلم كافكا ؟ ربما، ولكن المؤكد أنّه معلمي أنا.
ما زلت أشعر بالألفة نحو شخصياته من المتسولين والمجانين الذين يتجولون في غاباتٍ يسكنها الأمراء هائمين في عشق الأميرات المنفيات. حيث يصغي المرء هناك إلى تردد الأغاني الرائعة التي تسمو بالروح إلى أصولها السماوية، وإلى الضحكات الفظّة التي تفضح الوجود المقيت للشياطين الواقفين على أهبة الاستعداد لتمزيق قلب الإنسان كما لو أنهم يسعون لتوطيد حكمهم الأبدي.
وأعترف لو أنني لم أنجذب إلى تلك العوالم الغريبة والجميلة لما كنت كتبت بعض كتبي وبالطبع لما كتبت تلك النصوص التي تعكس حبي لتقاليد الحاسيديم.
ولكن ماذا عن كتبي الأخرى، الروايات؟ أو قصصي القصيرة والمقالات والمسرحيات؟
وللمفارقة، جاء كتابي الأول “الليل” وليد اليقين أكثر من كونه وليد الشك. وعرفت أنه كان يتوجب عليّ أن أدلو بشهادتي لصالح ماضيَّ، لكنني لم أعرف كيف أفعل ذلك. وهنا، عجز كلٌّ من حكماء التلمود والحاخام نحمان وأقرانه عن تقديم حتى اليسير من الدعم. وفي الواقع ورغم جميع قراءاتي وبذل الوقت في دراسة كلاسيكيات الأدب الفرنسي والألماني والأميركي، شعرت بأنني عاجزٌ وربما غير جديرٍ بالوفاء بمهمتي كناجٍ من المذبحة أو كرسول. كنت أمتلك الأشياء التي تقال ولكنني أفتقر إلى الكلمات التي تقال بها.
فأصبحت اللغة عقبة لإدراكي الفعليّ بأنني أفتقر إلى الوسائل. ومع كل صفحةٍ كنت أقول في داخلي: “ليس هذا هو المطلوب”. وكنت أعيد صياغتها مرة أخرى مع أفعالٍ وصور أخرى. لأعود وأجد أن ذلك لم يكن هو المطلوب. ولكن ما الذي كنت أبحث عنه بالضبط؟ لا بد أنّه صعب المنال ومختبئ وراء الحجب كي لا يجرؤ أحدٌ على سرقته أو اغتصابه والتقليل من شأنه. لقد بدت جميع الكلمات ضعيفةً وشاحبة.
أيّ الكلمات يمكن استخدامها لرواية تفاصيل رحلة طويلة مع عربات مغلقة تنقل بشرًا كقطعان ماشية نحو المجهول؟ أو لرواية حكاية اكتشاف كونٍ مخادعٍ بارد جاء إليه البعضُ ليَقتل وجاء البعض الآخر ليُقتل؟ وأي الكلمات تكتب عن التشتت عبر ليالٍ طويلة من اجتياح النيران، والارتباك الوحشي الذي تعاني منه العائلات، أيُّ كلماتٍ يمكن أن تصف كل ذلك؟ عن اختفاء طفلةٍ يهودية صغيرة، غمر وجهها فيضٌ من الحكمة والجمال حين ابتسمت، فقتلت مع والدتها في ليلة وصولهم نفسها؟ أمام هذه الصور، تتحطم كل الكلمات وتهوي رمادًا هامدًا.
ورغم ذلك، كان لا بدّ من الاستمرار. والحديث دون كلمات، أو بتعبير أدقّ، دون كلماتٍ مناسبة. ومحاولة الوثوق بالصمت الذي يحيط بها وعليها، مع العلم أنّ “ذلك لم يكن هو المطلوب أيضًا”.
هل لهذا السبب رُفض النصُّ من قبل كبرى دور النشر في فرنسا والولايات المتحدة؟ وهو مكتوب باللغة اليديشية (إحدى اللهجات الألمانية)، لغتي الأم، وتُرجم أولاً إلى الفرنسية ومن ثم إلى الإنجليزية. وفي نيويورك، بررت محررة شهيرة رفضها النّصَ عبر خطاب وجهته إلى وكيل أعمالي تقول فيه: “على أيّ حال، هذا الكاتب لن يكتب كتابًا آخر أبدًا”.
كانت محقةً في نقطة واحدة: لم أكتب كتابا آخر عن تجاربي في زمن الحرب. وقد عمل كتابي ” الليل” على إسكات الأصوات التي تصرخ في داخلي طلبًا لسماعها. وأعتقد أن الناس لن تصغي في كل الأحوال.
وأقول هنا في جوابي للصديق الذي أراد أن يعرف لماذا أميل إلى تجنب موضوع معسكر أوشفيتز في معرض أعمالي: “ويلٌ لكاتبٍ طغى عليه موضوعه”. لقد فضلتُ، بدلًا من ذلك، الكتابة عن الإنجيل والتلمود والحاسيديم، إضافة إلى روايات عن القدس والعصور الوسطى، وعن التصوّف والشيوعية ومرض الزهايمر، وكل ذلك حتى لا أجد نفسي بين الموتى. كانت هناك لحظات أسفتُ فيها على المرات التي جعلت من الصمت الرابط الوحيد مع العوالم العنيفة المكتومة لكوابيسي، وفاءً للعهود التي قطعتها على نفسي.
وقد حظي كتابي الصغير الأول باستقبالٍ جيد بأعجوبة. فهل كان ذلك بسبب الكتابة نفسها، أم أنني كنت محميًّا بالحدث الذي وصفه الكتاب؟ كما بدا أنّ النقاد معجبون بي. وربما اتفقوا مع محررة صحيفة نيويورك المشككة والتي ظنت أنني لن أكتب كتابًا آخر فقالوا: لماذا “نقتله” طالما أنه نصف ميت بالفعل؟
اعتبرتُ نفسي محظوظًا. وكنت كذلك بالفعل. وحظيَ كتابي الثاني بنجاح كبير أيضًا. ومع ذلك، ظلَّ صوتٌ في داخلي يحذرني، هامسًا في أذني مقولةَ والدةِ نابوليون الحكيمةَ: “لو أنه يدوم فقط”. حسنًا، لم يَدم بالفعل.
لقد حصد كتابي التالي أول تقييم سلبي لأعمالي. لم الإنكار؟ كنتُ بائسًا. ورغبت بالتوجه إلى مراكز بيع الصحف والمجلات، من مركزٍ لآخر، وشراء كل نسخ الصحف اليومية التي تضمنت التقييم غير اللطيف لروايتي. وتعلّمتُ لاحقًا أنّ التعامل مع القدحِ أفضل من التعامل مع المدح.
والآن، ومع مرور السنين، أدرك أن مصير الكتب لا يختلف عن مصير البشر: بعضه يجلبُ الفرح، والبعض الآخر يجلبُ الكرب. ولكن على المرء أن يقاوم الرغبة في رمي القلم والورق. ففي النهاية، يكتب الكتّابُ الحقيقيون حتى بوجود فرصة ضئيلة لنشر ما كتبوه. إنهم يكتبون لأنهم عاجزون عن القيام بخلاف ذلك، مثل رسول كافكا الذي يحمل في جعبته حقائق رهيبة ومؤلمة لا يرغب أحد في تلقيها، لكنّه مجبرٌ على الاستمرار.
وإن كان عليه أن يتوقف لاختيار طريق آخر، فسوف تصبح حياته مبتذلة وعقيمة.
يكتب الكتّاب لأنهم لا يستطيعون السماح للشخصيات التي تستوطن أعماقهم بخنقهم. فهذه الشخصيات ترغب بالخروج واستنشاق الهواء النقي، وتبادل نخب الصداقة. ولو أنها بقيت حبيسةً في الداخل لعمدت إلى كسر الجدران قسرًا. وهم من يجبرون الكاتب على سرد قصصهم.
إلا أنّ الكتابة تصبح أصعب أكثر فأكثر. ويبقى هاجس كلّ كاتبٍ ألا يكررّ نفسه، وألا ينزلق في بئر العاطفة والتقليد، وألا ينشر ما في داخله بلغة هزيلة مهلهلة، وأن يحترم الكلمات المثقلة بماضيها الخاص.
وتعتمد كلّ كلمةٍ، سواء كانت تفصلُ أم تربطُ، على الكاتب نفسه فيما إذا كان جرحًا أم بلسمًا، لعنةً أم وعدًا. كما أنّ من السهل والمريح اللعب مع الكلمات والفوز، وكل ما يتطلبه الأمر هو اللعب مع ممارسة القليل من خداع الذات. إلا أن ممارسة الألعاب أمرٌ غير واردٍ ضمن خيارات أبناء جيلي. فنحن نحتاج أن ندلو بشهاداتنا، كما نحتاج إلى الأمل، ومع الحاخام نحمان من براسلاف، ومع بعض الحظ أيضًا، ستعمل شهاداتنا على حماية جوهر صلواتنا مع الزمن.
وفي نهاية المطاف، كان الفتى اليهودي من بلدتي اليهودية الصغيرة مخطئًا، فالكتابة أبعد ما تكون عن السهولة.