يحكي لنا د.عمر رياض قصة تعرُّفه إلى زكي كرام، ففي عام 2004 كان يعد رسالته للدكتوراه عن مجلة المنار، وعندما عاد إلى الأرشيف الخاص بالشيخ محمد رشيد رضا الذي كان في حوزة أحد أحفاده، وقعت عيناه على بعض الخطابات الموقَّعة بيد شخص غير معروف تحت اسم "الدكتور زكي حشمت بك كرام" في برلين.
وفي الرسائل يحدث كرام الشيخ رشيد رضا عن حوادث وعلاقات مهمة له في برلين، ويطلب منه الشيخ رضا أن يترجم ويلخص له أعمالاً استشراقية ألمانية عن الرسول -صلى الله عليه وسلم، وتخبرنا الرسائل عن طلب تقدَّم به كرام للشيخ رشيد رضا أن يتوسط له عند الملك عبد العزيز آل سعود وابنه الأمير فيصل في بعض الصفقات التجارية.
عاد الباحث د. عمر رياض إلى مكان عمله في كلية الأديان بجامعة لايدن وبدأ رحلة البحث عن هذا الشخص. بحث في دليل الهواتف الخاص بألمانيا على الإنترنت، لعله يجد أحداً من عائلة كرام أو أحفاده، وبالفعل وجد ثلاثة أشخاص يحملون الاسم العائلي نفسه في ألمانيا كلها، تواصل مع أحدهم وسمع صوتاً رخيماً لشخص قد بلغ من الكبر عتياً، وسأله بالألمانية هل هذه عائلة زكي حشمت كرام؟ فأجاب الشخص: "نعم أنا ابنه"، ومن هذا الوقت انهالت المفاجآت التاريخية، وسافر الباحث لزيارة هارون الرشيد، ابن زكي كرام، البالغ من العمر 88 عاماً، الذي يسكن قرب مدينة شتوتجارت حيث يحتفظ بوثائق والده.
عاش زكي حشمت كرام في فترة شهد فيها العالم العربي حركة قومية قوية وقفت في وجه الاستعمار، ولد زكي حشمت في مايو/أيار 1886 في سوريا، وبدأ كرام دراسته العسكرية الأولى كتلميذ عسكري في إحدى المدارس العسكرية بدمشق، ومنها انتقل إلى إسطنبول حيث أكمل دراسته في الأكاديمية العسكرية العثمانية، وفي سن الثامنة عشرة عُين ملازماً في الجيش العثماني، إذ أُرسل إلى البلقان لقيادة كتيبة مكونة من 800 جندي مسلم لمحاربة المليشيات الصربية هناك، وفي أثناء الحرب العالمية الأولى عين قائداً لقوات البدو في العريش في شبه جزيرة سيناء، فأصيب في أواخر عام 1916 بجروح خطيرة في ساقه اليسرى من شظية بالقرب من قناة السويس، وبعد عمليات فاشلة في القدس انتقل للعلاج في برلين بنوفمبر/تشرين الثاني 1917، إذ كان بين الدولة العثمانية وألمانيا تحالف في الحرب العظمى.
زكي كرام في برلين
يخبرنا د.عمر رياض أن كرام كان يقتل وقته وهو يعالج في برلين بكتابة مذكرات خاصة، وقد عثر عليها د. عمر من خلال ابنه، وكان زكي يحكي فيها عن حياته وسط المرضى والأطباء، وانطباعاته عن مدينة برلين، في تلك الأثناء حدثت نقطة تحول جذرية في حياته التي تكلم عنها بشكل موسع في مذكراته، وهو طلب الطلاق الذي تقدمت به زوجته الأولى التركية "جمنية" التي كانت تنتمي إلى عائلة ميسورة الحال في إسطنبول، لكنها طلبت الطلاق من كرام بعد ضغط من عائلتها بسبب إعاقته وبعده الطويل في برلين. كان زكي يكتشف برلين ويزور القنصلية العثمانية ليقبض معاشه الشهري، وانضم إلى جمعية الطلاب العرب في برلين.
وكان يتردد على متجر كتب مقابل المستشفى تعمل فيه جروترود نيوندورف، وهي السيدة التي سيتزوجها في 1920، نستمر في قراءة المعلومات التي يقدمها د. عمر رياض من خلال أوراق وأرشيف زكي كرام، معلومات تتكشف أمامنا مثل الروايات التي تزداد فصولها إثارة كلما تقدمت فيها.
أخذت أتذكر الأرشيف الذي حصل عليه "توم ريس" من ناشرة كتب ليف نوسمباوم الذي أسلم وأطلق على نفسه اسم قربان سعيد وعاش بألمانيا في فترة قريبة من زكي كرام، وقد اعتمد توم ريس على هذا الأرشيف بكتابة سيرة لقربان سعيد بكتابه المهم والممتع "المستشرق: في فض حياة غريبة وخطيرة".
الأرشيف يساعدنا على رؤية زوايا التاريخ الغامضة، كنت أمضي في قراءة هذه الأوراق وأنا أحاول الربط بين تاريخ حياة زكي كرام وبين حياة رشيد رضا الذي اهتممت به وبرحلاته وكتبت عنه قبل ذلك، محاولاً الوصول إلى تواصل بين زكي كرام وشكيب أرسلان، الذي كشف وليم كليفلاند في كتابه المهم عن حياة أرسلان نصوصاً نشرت لأول مرة من الأرشيف الأمني البريطاني والفرنسي الذي تتبع حياة أرسلان وراقبه من كثب، بل إن الأمن السويسري حرص على مراقبة هاتف هذا الناشط الذي يعيش في جنيف.
جمعت كرام صداقة بالأمير شكيب أرسلان خلال إقامة الأخير ببرلين، ويبدو أن شكيب أرسلان كان من الأسباب الرئيسية للدور السياسي والعسكري الذي لعبه كرام منذ هجرته إلى برلين، وألَّف كرام في سنوات إقامته في برلين أعمالاً باللغة العربية والألمانية والتركية، لكن معظمها لم يرَ النور، وقد فشل في نشر هذه الأعمال بسبب عدم قدرته على الحصول على تصريح للنشر والطبع من الحكومة النازية.
التقى الشيخ رشيد رضا، زكي كرام لأول مرة في 13 أكتوبر/تشرين الأول 1921، في برلين أثناء زيارته الوحيدة إلى ألمانيا، بعد حضور أعمال المؤتمر السوري-الفلسطيني أمام عصبة الأمم في جنيف، ونمت علاقة تواصل ومراسلة بين رشيد رضا وزكي كرام، واستمرت هذه المراسلات والنقاشات بين رشيد رضا وزكي كرام، وكان بعضها استفسارات من زكي عن أمور في الدين الإسلامي.
كرام وبيع السلاح للإمام يحيى في اليمن
احتاج الإمام يحيى إلى تسليح قواته في اليمن، إذ كانت تملك بعض البنادق التي تركها الأتراك، واشترى الإمام من شخص يدعى "إسرائيل الصبيري" وهو من يهود اليمن، ووكيل لإحدى الشركات النمساوية كميات من البنادق والرشاشات والمدافع، واشترى أسلحة خفيفة من زكي كرام، وقد حمل سلاح الماوزر/بندقية الجرمل، اسم زكي كرام في اليمن إلى الآن، ونرى في الكتاب اقتباساً طريفاً لأحد الرحَّالة الإنجليز في اليمن برحلته عام 1938 قائلاً: "حينما ترى أحد الألمان في الشرق الأدنى، فإما أنه يسجل أغاني الجرامافون وإما أنه يبيع الأسلحة للمحاربين في تلك البلاد".
بناء على دعوة من الإمام يحيى سافر زكي كرام إلى صنعاء في عامَي 1930-1931، من أجل التحضير لصفقات الأسلحة المستوردة من ألمانيا، والذى رشح زكي كرام للتعامل مع الإمام يحيى هو شكيب أرسلان في رسالة إلى الإمام يحيى ليثق به لأنه مسلم صادق وخبير في مجال العسكرية.
في يوليو/تموز 1930 عقد كرام أول اتفاق مع الحكومة المتوكلية، ويلزم هذا العقد زكي كرام باستيراد عشرة آلاف بندقية ماوزر ألمانية طويلة وألف بندقية قصيرة للحكومة اليمنية، وفي زيارته عام 1936 إلى اليمن طلبت الحكومة اليمنية من كرام توريد عشرة آلاف بندقية وعشرة ملايين خرطوشة من الماوزر مقابل ثلاثة جنيهات فضية لكل بندقية.
في عام 1936 أرسل القاضي عبد الله العمري رسالة إلى كرام يخبره برغبة الإمام يحيى في التعاقد معه مرة أخرى لتوريد عشرة آلاف قصبة ماوزر جديد، لكن هذه الصفقات كانت بعلم السلطات الألمانية التي يتواصل معها كرام، ويشتكي بإحدى رسائله إلى الألمان أن كل شخص يريد عمل صفقات، بل ومنهم من يريد أن يصبح مليونيراً بسرعة كبيرة، ويضرب مثلاً بالابن الصغير للإمام. ويبدو أن السوق اليمنية للسلاح كانت واعدة، إذ دخل تاجر آخر اسمه توماس ونافس زكي كرام، بل إنه نفذ عملية احتيال على الحكومة المتوكلية باليمن، فحصل على دفعة كبيرة من المبلغ كمقدم، ثم تعاقد على شحنة سلاح وغير وجهتها إلى الموالين الشيوعيين الإسبان. وكانت عملية احتيال على اليمن جعلت حكومة الإمام لا تدفع أي مبالغ نقدية مقابل الأسلحة إلا عند وصولها إلى المواني. وفي إحدى الرسائل يطلب كرام من الإمام يحيى أن يدفع له ثمن السلاح عبارة عن شحنة بن يمني لاختبار السوق في أوروبا.
زكي كرام وآل سعود
عمل كرام على الاتصال بمملكة الحجاز وملحقاتها (المملكة العربية السعودية فيما بعد)، لإقناعهم بأهمية السلاح الألماني في تسليح الجيش العربي، تواصل كرام كما يتضح من الكتاب بالأمير (بعد ذلك الملك) فيصل بن عبد العزيز، واتصل كرام أيضاً بفؤاد حمزة ويوسف ياسين، وهما من المستشارين والخبراء بحكومة الملك عبد العزيز، ولعبا دوراً بالعلاقات الخارجية أثناء تأسيس المملكة.
أرسل زكي كرام رسالة إلى فؤاد حمزة عام 1929، يخبره فيها عن تفاصيل البنادق الألمانية وطلب منه حمزة عشر بنادق لاختبارها، وخلال زيارة الأمير فيصل بن عبد العزيز إلى برلين في مايو/أيار 1932 كان كرام من مستقبليه الرسميين بالمطار وأحد مرافقيه، وفي أغسطس/آب 1934 بعث كرام للملك عبد العزيز شخصياً بندقية إنجليزية كهدية، بل إنه عرض فكرة بيع صوف الأغنام السعودي بالسوق الألمانية وأرسلت إليه الحكومة السعودية كيلوَين من الصوف في طرد لعرضها على الشركات الراغبة في ذلك، وتعثرت صفقات السلاح بين الطرفين على عكس تجربته الناجحة مع اليمن، وتواصلت معه الحكومة السعودية ليحصل لها على عروض أسعار الماكينات وبعض المنتجات الصناعية، لكن يبدو أن الحكومة كانت تتواصل مع أكثر من شخص للحصول على أسعار مختلفة، وانزعج زكي كرام من إسناد الأمر إلى غيره وطلب من رشيد رضا التوسط لدى الحكومة السعودية لتعتمده وكيلاً لها.
كرام ومحاولاته لعقد الصفقات مع دول أخرى
في مارس/آذار 1928 اتصل كرام بالديوان الملكي العراقي في بغداد يستفسر عما إذا كانت لدى الحكومة العراقية رغبة في إبرام صفقات للتسلُّح عن طريقه في برلين، وبعد فترة اتصلت به وزارة الدفاع العراقية تطلب منه إرسال كتالوجات سلاح، لكنها اعتذرت له سريعاً بأن الجيش العراقي ليست لديه حاجة إلى جلب أي من هذه المعدات.
نرى في الكتاب محاولات زكي كرام التواصل مع الأمراء العرب، مثل تواصله مع أمير الكويت أحمد جابر الصباح لعقد صفقات تسليح مع بعض الشركات الألمانية، طلب الأمير نوع الماوزر عيار 92/7، وأرسل كرام ثلاث بندقيات، لكن الأمير لم تعجبه وأرسل ثمنها عبر حوالة بريدية، وطلب زكي كرام جواز سفر كويتياً يمكِّنه من السفر في البلاد العربية، وقد اعتذر له الأمير عن هذا الطلب.
يوضح د. عمر رضا وجود وثيقة في أرشيف كرام العائلي تحت توقيع القنصل الأفغاني في برلين، تفوض كرام بالنيابة عن الحكومة الأفغانية بإنهاء صفقة شراء 5000 بندقية من نوع لي أنفيد مع ألف خرطوشة، ويحق لكرام التفاوض باسم الحكومة الأفغانية في الاتفاقات.
بعد ذلك عمل زكي كرام مذيعاً في إذاعة برلين ونشأت علاقة صداقة بينه وبين يونس بحري، وطبقاً لرواية يونس بحري عن زكي كرام، فهو يراه عميلاً للحلفاء البريطانيين ويخرج المعلومات عبر سفارة فيينا وحكى قصة طويلة بمذكراته عن تشكك الألمان في ولائه، ويقول إنه ظل تحت المراقبة طيلة الحرب، لكن العجيب عدم اعتقال الألمان له إذا كانوا متأكدين من عمالته للبريطانيين، وبسبب هذا الشك فُصل من إذاعة برلين، ونكتشف من وصف يونس بحري لزكي كرام أنه شديد البخل وأنه ما إن يسمع باسم زعيم عربي حتى يكتب له رسائل ويتواصل معه ليعقد له الصفقات وينفذ عمليات سمسرة، ونرى في أحد الهوامش في الكتاب معلومة طريفة عن تسجيل صوتي لزكي كرام عبارة عن إعلان لشركة زيمنس الألمانية يحث فيها الشرقيين على شراء منتجاتها للجمع بين روحانية الشرق ومادية الغرب.
كانت نهاية حياة كرام درامية مثل محطات حياته، فاعتقلته القوات الأمريكية التي دخلت برلين بعد نجاح قوات الحلفاء بهزيمة ألمانيا، ويوضح الكاتب أن سبب اعتقال كرام غير واضح لكن يبدو أن عمله بتجارة الأسلحة وكمترجم بإذاعة برلين وعلاقته بوزارة الشؤون الخارجية في الحكومة الألمانية جعلته مطلوباً، وفي المستشفى أرسل رسائل إلى أصدقائه مثل محب الدين الخطيب والإمام يحيى باليمن.
كانت قراءة هذه الأوراق مثيرة للحس التاريخي وشعرت بالجهد الذي بذله د. عمر رضا في تفسير ملابسات كل وثيقة وتوضيح سياقها التاريخي، والعودة إلى المصادر لفهم الأحداث تكشف عن بعض التحالفات من المفكرين العرب بذلك الوقت مثل: (رشيد رضا، وشكيب أرسلان، وأمين الحسيني) الذين كانت نشاطاتهم تتعدى الجانب الفكري وإصدار المجلات ونشر المقالات، بل تعدت إلى تكوين شبكة علاقات سياسية ومصالح بين الدول والحكام، ولا شك أننا نشعر بأهمية قراءة أحداث وجدالات تاريخ المنطقة عبر حياة شخص ولد في سوريا وبدأ كجندي عثماني ثم انتهت حياته كموظف في ألمانيا النازية مع اتهامات بالعمالة لبريطانيا.
------------
تي ار تي