الجزء الاول
-------------
تهدف هذه المذكرة إلى فهم كيف استطاع النظام السوري تسخير ميزانية الدولة أداة لإعادة تخصيص الموارد لخدمة مصالح أمراء الحرب والرأسماليين المحسوبين. إذ تلعب هذه الآلية أدوارًا متعددة في الاقتصاد السياسي السوري المعاصر: حيث تعد إحدى السبل التي تتيح للنخبة فرصة الوصول إلى الموارد السياسية مقابل إظهار الولاء للنظام (إضافة إلى تقديم خدمات سياسية أخرى)، وفي الوقت ذاته، ومن جانب آخر، تمثل إحدى الطرق المختلفة التي يعوض النظام عبرها العجز في ميزانيته السياسية، والتي تعرف بالرصيد المتاح للحاكم للإنفاق الاستنسابي على النخبة بهدف الإبقاء على ولائهم، تحلل هذه المذكرة التداخلات بين ميزانية الدولة والميزانية السياسية في سوريا، باعتبارها صفقة سلطوية في أثناء الصراع في سوريا، ويفترض هذا النهج أن سياسة القمع غير كافية للأنظمة الاستبدادية لفرض سيطرتها في بلدانها والحفاظ عليها، بما في ذلك النظام السوري لهذا كله، تحتاج الأنظمة الاستبدادية، بالتوازي مع اتخاذ الإجراءات القسرية، إلى المساومة مع كل من الشعب والنخب. أخيرًا، تستقصي المذكرة الأساليب التي اتخذتها النخب باطراد لتسخير الإنفاق العام لخدمة مصالحها.
شبكة معقدة من الكيانات الأمنية والعسكرية
يشمل التحليل مناطق سيطرة النظام السوري التي تشكل ما يقارب 70% من الأراضي السورية فقد طور النظام السوري، على مدى خمسين عامًا، علاقات مع شبكة معقدة من الكيانات الأمنية والعسكرية لفرض سيطرته على المؤسسات الاجتماعية والحكومية واختراقها، وتعد الفروع الأمنية المختلفة أحد تلك الكيانات، إضافة إلى كل من الفرقة الرابعة والحرس الجمهوري الذين يستخدمون، أو يرغبون في استخدام، العنف والقوة الشاملة والسلطة غير المشروعة لحماية مصالحهم. كما تعمل هذه الكيانات بشكل مستقل وتتبادل المراقبة والترصد، إلا أنها تدار في النهاية من قبل شخص واحد وهو رأس النظام السوري و"رئيس الجمهورية".
إضافة إلى أن هذه الكيانات، وعملياتها التي تشمل وضع موازنة الدولة والموافقة عليها وتنفيذها، لا تخضع للمساءلة أمام النظام القضائي ومجلس الشعب والحكومة التنفيذية، بل إنها في الواقع تسيطر على تلك المؤسسات كلها، وتجدر الإشارة هنا إلى أن النخب الأمنية والعسكرية لا تشارك في الأنشطة التجارية بشكل مباشر، بل تدخل في صفقات غير رسمية أو في شراكات مع رجال أعمال، أو تسعى نحو الاستفادة من الشبكات والمعاملات التجارية عبر صِلاتها العائلية ووساطاتها.
تركز هذه الدراسة على النخب من أباطرة المال والأعمال، وإتاحة وصولها بشكل رسمي إلى ميزانية الدولة. تضم هذه النخب الرأسماليين المقربين من النظام وأمراء الحرب الذين برزوا مؤخرًا أثناء الصراع الدائر في سوريا، لكنهم لن يتمكنوا من ضمان احتكار العقود والمشتريات المدرجة في ميزانية الدولة والتمتع بمزايا الوصول إليها على نحو تفضيلي، إلا في حال مشاركتهم للنخب السياسية في جزء كبير من الريع، لذلك فإن تحليل ديناميات كبار رجال الأعمال يعد أمرًا بالغ الأهمية لفهم الأنماط الأخرى للنخب الموجودة، بما في ذلك النخب السياسية. كما يقدم البحث الحجة على أن تحركات تلك النخب واستغلالها (وسوء استخدامها) للموارد العامة قد تحقق بإشراف وموافقة السلطات السورية بشكل فعلي.
ميزانية الدولة: أداة للمساومة السلطوية
عكست ميزانية سوريا مساومة على مستويين اثنين: بين النظام والجماهير وبين النظام والنخبة أو بين النخب ذاتها. المستوى الأول: هو نوع من العقد الاجتماعي المبرم بين السلطة والمواطنين والذي يتنازل بموجبه المواطنون عن حقوقهم السياسية وحرياتهم مقابل المصالح الاقتصادية والمنافع العامة. أما المستوى الثاني: فهو اللعبة السياسية المستمرة بين النخب، إذ تساوم الفئة الحاكمة النخب على مدى إتاحة وصولهم إلى الموارد التي سيحصلون عليها مقابل دعمهم للحاكم.
تؤكد هذه المذكرة أن لهذين النمطين من المساومات علاقة عكسية في سوريا، بمعنى أنه عند زيادة الميزانية المخصصة للمنافع والخدمات العامة، تتقلص فرص وصول النخب إلى الإنفاق الحكومي والعكس صحيح، وضمن هذا السياق، حاولت السلطة في سوريا ضبط التوازن بين هذين النمطين بحيث تحافظ على استقرارها وسيطرتها على البلاد، وتعتمد قدرة النظام السوري على ضبط هذا التوازن، بشكل كبير، على قدرته المالية، إضافة إلى الاستقرار السياسي، ومدى نجاعة استخدام أساليب الإجبار والإكراه. كما أدى كل من النقص في الموارد والتهديدات الوجودية للسلطة في سوريا إلى خفض الإنفاق على المنافع العامة بهدف خدمة مصالح النخب التي تقدم دعمًا حيويًا للسلطة، وخاصةً في أثناء النزاع المسلح، إذ تواجه هذه المعضلة الجوهرية الأنظمة الانتقالية، خصوصًا، تحت الضغوط الاقتصادية.
تسخير الموازنة لزيادة الإنفاق الأمني
كما انعكست الصفقة المبرمة بين السلطة والجماهير في ميزانية الدولة منذ الانقلاب العسكري لحزب البعث في آذار/مارس 1963، ولو أنها تغيرت، بالتأكيد بمرور الوقت، حيث سيطر حزب البعث في سنوات حكمه الأولى على المؤسسات السورية الحكومية وغير الحكومية، وأسس شعبيته على تبني فكرة القومية العربية، ومقاومة الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية، والأهم من ذلك كله، تطبيق السياسات الاشتراكية، وبذلك شهدت الموازنة وقتها طفرة في دعم قطاعات الصحة، والتعليم، والسلع الأساسية إضافة إلى زيادة هائلة في نسبة التوظيف العام، وبالتوازي مع ذلك، فقد تضخم الإنفاق الأمني واستُخدم لتقييد الحريات الأساسية، مثل حرية التعبير.
كما أبرم حافظ الأسد، الذي حكم سوريا بين عامي 1970 و 2000، هذا النمط من الصفقات والمساومات عبر الاستثمار المكثف في السلع والخدمات العامة، ترافق مع استخدام أقسى أساليب العنف والقمع، ومع ذلك كله واجه النظام السوري في ثمانينيات القرن الماضي عدة تحديات جراء تورطه في الحرب الأهلية في لبنان (1975-1991)، والنزاع المسلح الداخلي مع جماعة الإخوان المسلمين.
علاوة على ذلك، وبعد مساندة سوريا لإيران خلال الحرب العراقية-الإيرانية بين عامي 1980-1988، أوقفت دول الخليج دعمها المالي للنظام السوري، وأجبرته هذه الصراعات كلها على استخدام المزيد من القمع، وزيادة ميزانيته الأمنية؛ كما وجد الأسد المقيد ماليًا، صعوبة بالغة في الحفاظ على دعم السلع الأساسية آنذاك، ومن ثم رفعت السلطة السورية أسعار السلع والخدمات المدعومة، كما زادت الضرائب والرسوم غير المباشرة؛ ما أدى إلى إعادة توزيع الثروة من الطبقات العاملة والمتوسطة إلى الشبكات الاقتصادية النافذة، وقدّر عارف دليلة (1999) أن نسبة الزيادة السنوية في الضريبة غير المباشرة وانخفاض الدعم كانت أقل 1% من ميزانية الدولة في عام 1986، ثم قفزت إلى 26% في عام 1997.
بعد أن انتقلت السلطة إلى بشار الأسد عام 2000، واصلت الموازنة العامة تحولها نحو تقليص الدعم واتباع السياسات الاقتصادية الأكثر توجهًا نحو السوق، ما أدى إلى تفاقم رأسمالية المحسوبين، مع ما صاحبها من زيادة في الفرص المتاحة لوصول النخب إلى موارد الدولة وأصولها، واستشراء الفساد على المستويات الدنيا بلا هوادة. تقلص دور الدولة في قطاعات الصحة، والتعليم، والسلع الأساسية، دون إتاحة مساحة أكبر للسوريين للتعبير عن أفكارهم وآرائهم بحرية وفقدت السلطة في سوريا، أثناء سنوات النزاع، الكثير من قدرتها على استخدام موارد الدولة أداة للمساومة مع المواطنين السوريين. والذي كان إلى حد كبير، نتيجة نقص الموارد المالية التي تسهم في الحفاظ على المنافع العامة، واعتماد النظام بشكل كامل على الإجراءات القسرية بهدف الإبقاء على سلطته.
نهب قانوني بموافقة السلطات السورية
بناءً على ذلك كله، تغير النمط الأول من المساومة السلطوية في سوريا بشكل جذري، إذ تقلص الدعم بشكل كبير وارتفعت الرسوم والضرائب غير المباشرة دون أي تحسن في الحريات السياسية والحقوق العامة.
في الواقع تقلص الدعم من مبلغ يقارب الخمسة مليارات دولار أمريكي في عام 2012 إلى أقل من مئتي مليون دولار في عام 2020 2. كما تفاقم الوضع بسبب النزاع القائم في البلاد ما أدى إلى تحول هذا النمط من المساومات إلى ممارسات استغلالية وقمعية مستحكمة من قبل السلطات السورية. وفي الوقت ذاته، استفادت النخب من الإنفاق العام. حيث تمكنت من التأثير بشكل متزايد في صياغة وتطبيق السياسات المالية؛ كما استخدمت الإنفاق التنموي في موازنات الدولة لخدمة مصالحها.
اتخذ وصول النخب إلى موازنات الدولة في سوريا شكلين اثنين (قد يتداخلان في الممارسة).
أولًا: الوصول إلى ميزانية الدولة عبر علاقات الفساد مع مسؤولي الدولة ورجال الأعمال الذين يقدمون الرشاوى للوصول إلى عقود حكومية عبر عروض لا تلبي المواصفات المطلوبة والشروط المالية. يشمل ذلك مبالغ مالية صغيرة، نسبيًا، وهو غير مشروع بموجب القانون.
ثانياً: الوصول المشروع لنخب رجال الأعمال وأباطرة المال إلى الموارد العامة –أي النهب القانوني لتلك موارد، الذي وافقت عليه السلطات السورية بل وسهلته مقابل ضمان الحصول على دعم النخب.
الجزء الثاني
--------------
منذ بداية الألفية الجديدة، تزايد الشكل الثاني لوصول النخب إلى الموارد بشكل ملحوظ. إذ تم إبرام العديد من العقود الرسمية بين الحكومة والرأسماليين المحسوبين، ما أتاح فرصاً ريعية مربحة لهؤلاء، كاحتكار قطاع الاتصالات المتنقلة على سبيل المثال، وأتاح ريع هذه العقود للنخب فرصة توسيع نشاطاتها التجارية إلى حد كبير لتشمل القطاعات الاقتصادية القانونية والتقليدية، كالإعمار، والسياحة، والتجارة الداخلية، وأوجد ذلك في معظم القطاعات الاقتصادية شبكة واسعة من رجال الأعمال الصغار والمتوسطين الذين يستفيدون من النخب ويعملون تحت إشرافها، واستطاع كبار رجال الأعمال عبر هذه الشبكة، التأثير في ديناميات الأعمال في البلاد، وفقاً لما تريده السلطة التي ترى من منظورها أن هذا كفيل بتقليص احتمالية أي تواطؤ بين رجال الأعمال ضد النظام، علاوة على ذلك كله اعتبر النظام في سوريا هذه النخب احتياطيات مالية قد تلزم عند الحاجة، وبالطبع فإن معظم تلك النخب قد رد بالمثل، أثناء الصراع عبر توفير دعم اقتصادي وعسكري غير محدود، أما بالنسبة للنخب، فيبدو أن تآمرها مع النظام كان مدفوعاً بحقيقة الارتباط الوثيق بين بقائها واستمرارية وجود النظام، بالإضافة إلى الدوافع المالية البحتة بالتأكيد.
ديناميات الموازنة السياسية
خلق اقتصاد الحرب في سوريا مصادر جديدة ومختلفة للميزانية السياسية، التي وزعها النظام وغيره من قوى الأمر الواقع البازغة حديثا، للإبقاء على ولاء النخب، وشملت هذه المصادر السيطرة على المعابر الحدودية، ونقاط التفتيش، واحتكار التجارة الداخلية، وبيع المشتقات النفطية، واستيراد السلع الأساسية.
كما أتاح النظام السوري لأطراف فاعلة خارجية إمكانية الوصول إلى الأموال العامة بهدف ضمان الحصول على دعم هذه الجهات والحفاظ عليه. وقعت كل من إيران وروسيا، أثناء الصراع، اتفاقيات مختلفة مع (الحكومة السورية)، تمنحهما بموجبها نفوذا مهماً في العديد من القطاعات والمرافق العامة الحيوية كالتعدين والموانئ، فعلى سبيل المثال وقعت (الحكومة السورية) في عام 2017 عقدا مع شركة روسية خاصة تسمى "ستروي ترانز غاز" Stroytransgaz))، تمكن الروس من احتكار قطاع الفوسفات في البلاد لمدة خمسين عاما.
مثلت إتاحة وصول النخب إلى ميزانية الدولة سبيلًا للنظام السوري لتمويل ميزانيته السياسية، إذ احتكرت هذه النخب، بما في ذلك المحاسيب التقليديين وأمراء الحرب الذين برزوا مؤخرا (وجنوا ثرواتهم في البداية من الأنشطة المرتبطة بالنزاع كالتهريب، والاتجار بالأسلحة، وفرض الضرائب، وإنشاء نقاط التفتيش، ومن ثم قاموا باستغلال هذه الثروات في قطاعات اقتصادية أخرى)، احتكرت السلع الأساسية في مناطق سيطرة الحكومة، واستطاعت تسخير شركاتها الوهمية خارج سوريا لتجاوز تأثير العقوبات عند استيراد بعض من هذه السلع إلى سوريا. كما تهيمن المدفوعات إلى هذه الشركات على الإنفاق العام، بفضل هوامشها الربحية المفرطة، وفي المقابل تظهر النخب ولاءها المطلق للنظام السوري، فعلى سبيل المثال أسست ودعمت مجموعات مسلحة موالية للنظام في مختلف المناطق السورية، وأقصت رجال الأعمال الذين لم يبدوا دعمهم الكافي للسلطة في سوريا.
من الجدير بالذكر هنا، أن الحيز المتاح للنخب من قبل النظام تذبذب بمرور الوقت، حيث تمتعت النخب التجارية بمساحة أكبر للعمل (بما في ذلك تأسيس ميليشياتها الخاصة) عندما كان النظام واقعا تحت التهديد، مع حل ميليشياتها ووقف عملياتها بالقوة في الفترات الأكثر أمنا، أو عندما تشكل عملياتها تهديدا لسلطة النظام.
تُجسد أنشطة أيمن جابر، رجل الأعمال المقرب من النظام منذ ما قبل الحرب، مثالًا نموذجيا في هذا السياق، فمع أنه تمتع بقوة كبيرة وتأثير نافذ في مناطق الساحل السوري، وتمكن حتى من اجتذاب بعض الدعم من الروس، فإن النظام استطاع حل ميليشياته في يوم واحد.
وعلى الرغم من التدهور الحاد في الموارد العامة، إلا أن هذا الجزء من الموازنة السياسية أصبح أكثر أهمية نسبيا. فقد بلغت ميزانية الدولة عام 2011 نحو 16.7 مليار دولار أمريكي، ثم انخفضت إلى أقل من 8.5 مليار دولار في عام 2015، ووصلت إلى أدنى مستوياتها في الموازنة الحكومية المقترحة لعام 2021 حيث لم تتجاوز 2.7 مليار دولار.
يشكل الإنفاق العام الحالي زهاء 82% من الميزانية المقررة لعام 2021 مقارنة بنسبة 54% في عام 2011، ويشمل إنفاق عام 2021 نحو 17% مخصصة لأجور ورواتب العاملين في القطاع العام؛ ومن المتوقع أن تغطي الحصة الأكبر من المبلغ المتبقي والتي تقدر بمبلغ 1.5 مليار دولار4، إمدادات النفط والقمح من المصادر الداخلية والخارجية5، كما وقعت الحكومة العديد من العقود لتوفير هذه السلع مع نخبة رجال الأعمال الذين يحققون بدورهم أرباحا هائلة بموجب هذه العقود وبموافقة السلطة في سوريا، بمعنى آخر، حتى مع تقليص ميزانية الدولة، بقيت مستويات الإنفاق السياسي مرتفعة نسبيا.
تجسد إمدادات النفط ومشتقاته مجرد مثال واحد على تحول الإنفاق الحكومي إلى مصدر لتمويل الميزانية السياسية في مناطق سيطرة النظام، حيث تؤمن السلطة في سوريا احتياجاتها اليومية من النفط والمحروقات من مصادر عدة، وتعد الواردات من الأسواق الدولية، خصوصا من روسيا وإيران، أولى المصادر، بينما يأتي المصدر الثاني من النفط المنتج في شمال شرق سوريا حيث تبيع "الإدارة الذاتية" النفط للنظام مقابل المياه والكهرباء.
أما آخر المصادر فهو النفط الخام المستخرج من مناطق سيطرة النظام، فيما يتعلق بالمصدرين الأولين، اعتمدت السلطة في سوريا على شبكات اقتصادية مؤثرة لتأمين الكمية المطلوبة، حيث تستغل شركاتها الوهمية خارج البلاد لتأمين احتياجات الدولة من الأسواق الخارجية، وتجدر الإشارة هنا إلى أن الشركات الوهمية ليست بالأمر الجديد على الاقتصاد السياسي السوري، لكنها انتشرت بكثرة أثناء النزاع، وذلك لمساعدة النظام على تفادي عقوبات ما بعد عام 2011، في المقام الأول. كما نسقت هذه الشبكات الاقتصادية، وتفاوضت، مع رجال الأعمال والأشخاص البارزين في شمال شرق سوريا لنقل النفط إلى مناطق سيطرة النظام.
أبرمت (الحكومة السورية) مع عدة شركات خاصة ورجال أعمال عقودا رسمية تتضمن هوامش ربحية عالية للنخب، فعلى سبيل المثال، صرح وزير التجارة الداخلية، في ديسمبر/كانون الأول 2020، أن الحكومة تدفع في المعدل المتوسط مبلغا قدره 1000 ليرة سورية لكل لتر من الوقود7. ما يعني زيادة قدرها 0.22 دولارا أمريكيا لكل لتر بالمقارنة مع أسعار بيع المحروقات في لبنان8، الذي يعد واحدا من قنوات نقل النفط الرئيسية إلى سوريا، وبما أن استهلاك الوقود في سوريا بلغ 5.5 مليون لتر في اليوم9، فقد قدرت تلك الزيادة بمبلغ 400 مليون دولار أمريكي تقريبا في السنة، ما يعادل نحو 15% من الميزانية المقررة لعام 2021، ومن المتوقع أن تغذي هذه الزيادة الميزانية السياسية في نهاية المطاف. ومن الجدير بالذكر هنا، أن التكلفة الإضافية قد تشمل عمولات ضخمة للبنوك والسماسرة وذلك بسبب اللجوء إلى قنوات مالية غير أمريكية. ومع ذلك، تدفع هذه العمولات بشكل غير قانوني وبالتنسيق مع أمراء الحرب المختارين من قبل النظام السوري لإجراء مثل هذه الصفقات.
يُعد حسام قاطرجي اليوم واحدا من أمراء الحرب المستفيدين من ميزانيات الدولة عبر عقود النفط القانونية المبرمة مع (الحكومة السورية). وهو عضو في مجلس الشعب في دمشق، ويملك مع شقيقيه مجموعة قاطرجي، المشاركة في عمليات نقل النفط السوري من شمال شرق البلاد إلى مصافي النفط في مناطق سيطرة النظام ويسيطر شقيقه براء على شركة لبنانية مسؤولة عن استيراد النفط والوقود، خاصة من إيران علاوة على ذلك كله، وافق رأس النظام السوري بشار الأسد، في وقت مبكر من هذه السنة على إنشاء مصفاتي نفط تملكهما إحدى شركات قاطرجي، "أرفادا بتروليوم". يجدر بنا الإشارة هنا إلى أنه لا توجد في مناطق سيطرة النظام سوى مصفاتين للنفط تابعتين للقطاع العام.
وفي المقابل، حرص الأشقاء قاطرجي دوماً على إظهار ولائهم للسلطة في سوريا، فأسسوا على سبيل المثال، ميليشياتهم الخاصة في محافظة دير الزور تحت ذريعة حماية استثماراتهم في المنطقة؛ إلا أن هذه الميليشيا تدار تحت إشراف أجهزة أمن النظام. كما عملوا على توثيق صلاتهم وعلاقاتهم المالية بزعماء العشائر لتسهيل أعمالهم المتعلقة بالنفط، ولإبقاء أولئك الزعماء تحت نفوذ النظام. وأخيرا، يعد الأشقاء قاطرجي أحد أهم المستوردين الرئيسيين للنفط الإيراني إلى سوريا ما يشير إلى قدرة إيران على فرض درجة من السيطرة على الموارد السورية العامة، بالإضافة إلى تلك المفروضة من السلطة السورية، بما في ذلك جزء من الإنفاق العام، وتسخيره لأغراض سياسية.
تمثل إمدادات القمح نموذجا آخر يظهر كيفية تسخير النظام السوري للموارد العامة وإعادة توزيعها لصالح أمراء الحرب ومحاسبيه من رجال الأعمال. إذ انخفض إنتاج سوريا للقمح انخفاضا حادا من أكثر من 4 ملايين طن في عام 2010 إلى أقل من 2.2 مليون طن في عام 2019، دفع هذا الانخفاض في محصول القمح، إضافة إلى وجود جزء كبير من إنتاج القمح خارج مناطق سيطرة النظام، (الحكومة السورية) إلى الاعتماد على رجال الأعمال المقربين منها لتأمين الكمية المطلوبة من القمح. في عام 2019، صرح مدير المؤسسة العامة السورية للحبوب -المسؤولة عن شراء وتخزين وتسويق القمح- أن الحكومة وقعت ثلاثة عقود مع القطاع الخاص لاستيراد 600 ألف طن من القمح بسعر وسطي يبلغ 275 دولارا للطن، وبالتالي فإن (الحكومة السورية) تشتري القمح بزيادة تبلغ 75 دولارا إضافيا للطن الواحد، مقارنة بالسعر الدولي، إضافة إلى تكاليف الشحن التي تبلغ 200 دولار أمريكي للطن، ما أدى إلى حصد هامش ربحي هائل بلغ 45 مليون دولار حول من الإنفاق العام بهدف تمويل نخبة رجال الأعمال، ومن المرجح أن جزءا من هذا الإنفاق قد أعيد تدويره مرة أخرى ليصل إلى الميزانية السياسية للنظام.
ومن بين هذه النخب، يعد سامر الفوز حوتا من حيتان المال الذين جنوا ثروتهم أثناء الصراع عبر استغلال ديناميات اقتصاد الحرب في سوريا. إذ أنشأ مجموعة واسعة من الأعمال داخل البلاد، شملت الأدوية والإسمنت والسياحة والنقل والمشروعات الإعلامية، بالإضافة إلى تجارة القمح وتزويد (الحكومة السورية) به. ويقوم جزء من أعماله في سوريا على عقود رسمية مع الحكومة، التي تصرف له من ميزانيات الدولة مقابل توصيل السلع الأساسية كالقمح.
وفي المقابل، يتيح سامر الفوز للنظام إمكانية الوصول إلى الأسواق الدولية عبر فروع شركته الخارجية، التي تتخذ من موسكو مقرا لها. ويعكس ذلك أيضا عمق الصلات مع روسيا، التي تعد روسيا أحد أهم حلفاء النظام السوري. وبما أن سامر الفوز أحد الخاضعين للعقوبات الأمريكية والأوروبية، يمكننا تصور حجم الشبكات غير القانونية العابرة للحدود التي يحافظ عن طريقها على أعماله التجارية خارج سوريا. بالإضافة إلى ذلك كله، موّل سامر الفوز ميليشيا قوات الدرع الأمني العسكري تحت إشراف إدارة المخابرات الجوية - إحدى المؤسسات الأمنية الرئيسية للسلطات السورية.
يظهر هذان المثالان المذكوران أعلاه كيف مول النظام جزءا من ميزانيته السياسية عبر استغلال الإنفاق الحكومي. ما أدى إلى إعادة تخصيص الموارد العامة، المتقلصة أصلًا، وتحويلها من أغلبية السوريين إلى جيوب حفنة من رجال الأعمال الموالين، فقد اعتمد حجم الميزانية السياسية التي وزعتها السلطة السورية على هؤلاء الموالين على الخدمات المقدمة منهم، والعلاقات التي تربطهم بالقوى الخارجية. إلا أن الاستيلاء الذي تم مؤخرا على أعمال وممتلكات رامي مخلوف، الذي كان أهم المحاسيب الرأسماليين في سوريا، يشير في دلالته إلى أن النظام لا يزال قادرا على تحجيم أو استبدال أي واحدة من النخب الموالية له. وبالرغم من قلة الأدلة، يبدو من المرجح أن مجموعة من العوامل وقفت خلف خسارة مخلوف لنفوذه. ومن بينها، رغبة النظام في الوصول المباشر إلى شبكات مخلوف المالية، وعدم استعداد النظام للتغاضي عن قوة مخلوف ونفوذه المتناميين في مناطق الساحل، وأخيرا الرغبة في إرسال إشارة إلى اللاعبين الداخليين والرعاة الخارجيين بأن النظام لا يزال مهيمنا على الساحة السياسية السورية. لهذا كله، يجدر بنا التأكيد على حقيقة أن السلطة في سوريا قادرة على تغيير، أو استبدال، أو مهاجمة الأفراد ضمن نخب رجال الأعمال، لكن مع بقائها في الوقت نفسه في حاجة ماسة للنخب التجارية ككل. بكلمات أخرى، حتى مع بقاء النظام معتمدا على نخب رجال الأعمال، فإنه يظل اللاعب الأبرز في السوق السياسية.
خاتمة
بدأ النظام السوري، في العقد الأول من القرن الحالي، تحويل الموارد العامة من الإنفاق الحكومي على السلع والخدمات الأساسية إلى الموازنة السياسية. وسرعت السلطات السورية هذا التحول خلال سنوات النزاع في البلاد. كما أتاحت للنخب من رجال الأعمال فرصة الوصول القانوني إلى موازنات الدولة بشكل متزايد عبر المشتريات والعقود الحكومية. ما أدى إلى تفاقم استنزاف الموارد العامة المتناقصة أصلًا، وزاد من نفوذ المحاسيب وأمراء الحرب. بالمقابل، توقع النظام أن تلعب هذه النخب دورا حيويا في الحفاظ على سلطته عبر دعم أنشطته العسكرية وفتح قنوات مالية جديدة مع الأسواق الخارجية. كما قللت التكلفة المتصاعدة للإبقاء على دعم هؤلاء النخب من قوة النظام التفاوضية وقدرته على المساومة مع رعاته الخارجيين (إيران وروسيا)، بالرغم من استمراره، داخليا، في السيطرة على وسائل الإجبار والإكراه وعلى مؤسسات الدولة. ومع ذلك كله، تمثلت النتيجة الرئيسة لهذا الترتيب في توجه نحو زيادة استخدام النظام لأساليب الإكراه والإجبار، وكلما استغلت السلطات السورية الموارد وأعادت تخصيصها لمصلحة الميزانية السياسية، تناقصت قدرتها على إبرام العقد الاجتماعي مع مواطنيها. ونتيجة لذلك كله، انتقل النظام السوري في تعامله مع غالبية الشعب السوري من سياسة "العصا والجزرة" إلى مقاربة تعتمد بالكامل تقريبا على "العصي". الأمر الذي جعل السوريين شعبا يفتقر إلى أدنى حقوقه السياسية ومنافعه الاقتصادية.
-----------
أورينت نت
-------------
تهدف هذه المذكرة إلى فهم كيف استطاع النظام السوري تسخير ميزانية الدولة أداة لإعادة تخصيص الموارد لخدمة مصالح أمراء الحرب والرأسماليين المحسوبين. إذ تلعب هذه الآلية أدوارًا متعددة في الاقتصاد السياسي السوري المعاصر: حيث تعد إحدى السبل التي تتيح للنخبة فرصة الوصول إلى الموارد السياسية مقابل إظهار الولاء للنظام (إضافة إلى تقديم خدمات سياسية أخرى)، وفي الوقت ذاته، ومن جانب آخر، تمثل إحدى الطرق المختلفة التي يعوض النظام عبرها العجز في ميزانيته السياسية، والتي تعرف بالرصيد المتاح للحاكم للإنفاق الاستنسابي على النخبة بهدف الإبقاء على ولائهم، تحلل هذه المذكرة التداخلات بين ميزانية الدولة والميزانية السياسية في سوريا، باعتبارها صفقة سلطوية في أثناء الصراع في سوريا، ويفترض هذا النهج أن سياسة القمع غير كافية للأنظمة الاستبدادية لفرض سيطرتها في بلدانها والحفاظ عليها، بما في ذلك النظام السوري لهذا كله، تحتاج الأنظمة الاستبدادية، بالتوازي مع اتخاذ الإجراءات القسرية، إلى المساومة مع كل من الشعب والنخب. أخيرًا، تستقصي المذكرة الأساليب التي اتخذتها النخب باطراد لتسخير الإنفاق العام لخدمة مصالحها.
شبكة معقدة من الكيانات الأمنية والعسكرية
يشمل التحليل مناطق سيطرة النظام السوري التي تشكل ما يقارب 70% من الأراضي السورية فقد طور النظام السوري، على مدى خمسين عامًا، علاقات مع شبكة معقدة من الكيانات الأمنية والعسكرية لفرض سيطرته على المؤسسات الاجتماعية والحكومية واختراقها، وتعد الفروع الأمنية المختلفة أحد تلك الكيانات، إضافة إلى كل من الفرقة الرابعة والحرس الجمهوري الذين يستخدمون، أو يرغبون في استخدام، العنف والقوة الشاملة والسلطة غير المشروعة لحماية مصالحهم. كما تعمل هذه الكيانات بشكل مستقل وتتبادل المراقبة والترصد، إلا أنها تدار في النهاية من قبل شخص واحد وهو رأس النظام السوري و"رئيس الجمهورية".
إضافة إلى أن هذه الكيانات، وعملياتها التي تشمل وضع موازنة الدولة والموافقة عليها وتنفيذها، لا تخضع للمساءلة أمام النظام القضائي ومجلس الشعب والحكومة التنفيذية، بل إنها في الواقع تسيطر على تلك المؤسسات كلها، وتجدر الإشارة هنا إلى أن النخب الأمنية والعسكرية لا تشارك في الأنشطة التجارية بشكل مباشر، بل تدخل في صفقات غير رسمية أو في شراكات مع رجال أعمال، أو تسعى نحو الاستفادة من الشبكات والمعاملات التجارية عبر صِلاتها العائلية ووساطاتها.
تركز هذه الدراسة على النخب من أباطرة المال والأعمال، وإتاحة وصولها بشكل رسمي إلى ميزانية الدولة. تضم هذه النخب الرأسماليين المقربين من النظام وأمراء الحرب الذين برزوا مؤخرًا أثناء الصراع الدائر في سوريا، لكنهم لن يتمكنوا من ضمان احتكار العقود والمشتريات المدرجة في ميزانية الدولة والتمتع بمزايا الوصول إليها على نحو تفضيلي، إلا في حال مشاركتهم للنخب السياسية في جزء كبير من الريع، لذلك فإن تحليل ديناميات كبار رجال الأعمال يعد أمرًا بالغ الأهمية لفهم الأنماط الأخرى للنخب الموجودة، بما في ذلك النخب السياسية. كما يقدم البحث الحجة على أن تحركات تلك النخب واستغلالها (وسوء استخدامها) للموارد العامة قد تحقق بإشراف وموافقة السلطات السورية بشكل فعلي.
ميزانية الدولة: أداة للمساومة السلطوية
عكست ميزانية سوريا مساومة على مستويين اثنين: بين النظام والجماهير وبين النظام والنخبة أو بين النخب ذاتها. المستوى الأول: هو نوع من العقد الاجتماعي المبرم بين السلطة والمواطنين والذي يتنازل بموجبه المواطنون عن حقوقهم السياسية وحرياتهم مقابل المصالح الاقتصادية والمنافع العامة. أما المستوى الثاني: فهو اللعبة السياسية المستمرة بين النخب، إذ تساوم الفئة الحاكمة النخب على مدى إتاحة وصولهم إلى الموارد التي سيحصلون عليها مقابل دعمهم للحاكم.
تؤكد هذه المذكرة أن لهذين النمطين من المساومات علاقة عكسية في سوريا، بمعنى أنه عند زيادة الميزانية المخصصة للمنافع والخدمات العامة، تتقلص فرص وصول النخب إلى الإنفاق الحكومي والعكس صحيح، وضمن هذا السياق، حاولت السلطة في سوريا ضبط التوازن بين هذين النمطين بحيث تحافظ على استقرارها وسيطرتها على البلاد، وتعتمد قدرة النظام السوري على ضبط هذا التوازن، بشكل كبير، على قدرته المالية، إضافة إلى الاستقرار السياسي، ومدى نجاعة استخدام أساليب الإجبار والإكراه. كما أدى كل من النقص في الموارد والتهديدات الوجودية للسلطة في سوريا إلى خفض الإنفاق على المنافع العامة بهدف خدمة مصالح النخب التي تقدم دعمًا حيويًا للسلطة، وخاصةً في أثناء النزاع المسلح، إذ تواجه هذه المعضلة الجوهرية الأنظمة الانتقالية، خصوصًا، تحت الضغوط الاقتصادية.
تسخير الموازنة لزيادة الإنفاق الأمني
كما انعكست الصفقة المبرمة بين السلطة والجماهير في ميزانية الدولة منذ الانقلاب العسكري لحزب البعث في آذار/مارس 1963، ولو أنها تغيرت، بالتأكيد بمرور الوقت، حيث سيطر حزب البعث في سنوات حكمه الأولى على المؤسسات السورية الحكومية وغير الحكومية، وأسس شعبيته على تبني فكرة القومية العربية، ومقاومة الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية، والأهم من ذلك كله، تطبيق السياسات الاشتراكية، وبذلك شهدت الموازنة وقتها طفرة في دعم قطاعات الصحة، والتعليم، والسلع الأساسية إضافة إلى زيادة هائلة في نسبة التوظيف العام، وبالتوازي مع ذلك، فقد تضخم الإنفاق الأمني واستُخدم لتقييد الحريات الأساسية، مثل حرية التعبير.
كما أبرم حافظ الأسد، الذي حكم سوريا بين عامي 1970 و 2000، هذا النمط من الصفقات والمساومات عبر الاستثمار المكثف في السلع والخدمات العامة، ترافق مع استخدام أقسى أساليب العنف والقمع، ومع ذلك كله واجه النظام السوري في ثمانينيات القرن الماضي عدة تحديات جراء تورطه في الحرب الأهلية في لبنان (1975-1991)، والنزاع المسلح الداخلي مع جماعة الإخوان المسلمين.
علاوة على ذلك، وبعد مساندة سوريا لإيران خلال الحرب العراقية-الإيرانية بين عامي 1980-1988، أوقفت دول الخليج دعمها المالي للنظام السوري، وأجبرته هذه الصراعات كلها على استخدام المزيد من القمع، وزيادة ميزانيته الأمنية؛ كما وجد الأسد المقيد ماليًا، صعوبة بالغة في الحفاظ على دعم السلع الأساسية آنذاك، ومن ثم رفعت السلطة السورية أسعار السلع والخدمات المدعومة، كما زادت الضرائب والرسوم غير المباشرة؛ ما أدى إلى إعادة توزيع الثروة من الطبقات العاملة والمتوسطة إلى الشبكات الاقتصادية النافذة، وقدّر عارف دليلة (1999) أن نسبة الزيادة السنوية في الضريبة غير المباشرة وانخفاض الدعم كانت أقل 1% من ميزانية الدولة في عام 1986، ثم قفزت إلى 26% في عام 1997.
بعد أن انتقلت السلطة إلى بشار الأسد عام 2000، واصلت الموازنة العامة تحولها نحو تقليص الدعم واتباع السياسات الاقتصادية الأكثر توجهًا نحو السوق، ما أدى إلى تفاقم رأسمالية المحسوبين، مع ما صاحبها من زيادة في الفرص المتاحة لوصول النخب إلى موارد الدولة وأصولها، واستشراء الفساد على المستويات الدنيا بلا هوادة. تقلص دور الدولة في قطاعات الصحة، والتعليم، والسلع الأساسية، دون إتاحة مساحة أكبر للسوريين للتعبير عن أفكارهم وآرائهم بحرية وفقدت السلطة في سوريا، أثناء سنوات النزاع، الكثير من قدرتها على استخدام موارد الدولة أداة للمساومة مع المواطنين السوريين. والذي كان إلى حد كبير، نتيجة نقص الموارد المالية التي تسهم في الحفاظ على المنافع العامة، واعتماد النظام بشكل كامل على الإجراءات القسرية بهدف الإبقاء على سلطته.
نهب قانوني بموافقة السلطات السورية
بناءً على ذلك كله، تغير النمط الأول من المساومة السلطوية في سوريا بشكل جذري، إذ تقلص الدعم بشكل كبير وارتفعت الرسوم والضرائب غير المباشرة دون أي تحسن في الحريات السياسية والحقوق العامة.
في الواقع تقلص الدعم من مبلغ يقارب الخمسة مليارات دولار أمريكي في عام 2012 إلى أقل من مئتي مليون دولار في عام 2020 2. كما تفاقم الوضع بسبب النزاع القائم في البلاد ما أدى إلى تحول هذا النمط من المساومات إلى ممارسات استغلالية وقمعية مستحكمة من قبل السلطات السورية. وفي الوقت ذاته، استفادت النخب من الإنفاق العام. حيث تمكنت من التأثير بشكل متزايد في صياغة وتطبيق السياسات المالية؛ كما استخدمت الإنفاق التنموي في موازنات الدولة لخدمة مصالحها.
اتخذ وصول النخب إلى موازنات الدولة في سوريا شكلين اثنين (قد يتداخلان في الممارسة).
أولًا: الوصول إلى ميزانية الدولة عبر علاقات الفساد مع مسؤولي الدولة ورجال الأعمال الذين يقدمون الرشاوى للوصول إلى عقود حكومية عبر عروض لا تلبي المواصفات المطلوبة والشروط المالية. يشمل ذلك مبالغ مالية صغيرة، نسبيًا، وهو غير مشروع بموجب القانون.
ثانياً: الوصول المشروع لنخب رجال الأعمال وأباطرة المال إلى الموارد العامة –أي النهب القانوني لتلك موارد، الذي وافقت عليه السلطات السورية بل وسهلته مقابل ضمان الحصول على دعم النخب.
الجزء الثاني
--------------
منذ بداية الألفية الجديدة، تزايد الشكل الثاني لوصول النخب إلى الموارد بشكل ملحوظ. إذ تم إبرام العديد من العقود الرسمية بين الحكومة والرأسماليين المحسوبين، ما أتاح فرصاً ريعية مربحة لهؤلاء، كاحتكار قطاع الاتصالات المتنقلة على سبيل المثال، وأتاح ريع هذه العقود للنخب فرصة توسيع نشاطاتها التجارية إلى حد كبير لتشمل القطاعات الاقتصادية القانونية والتقليدية، كالإعمار، والسياحة، والتجارة الداخلية، وأوجد ذلك في معظم القطاعات الاقتصادية شبكة واسعة من رجال الأعمال الصغار والمتوسطين الذين يستفيدون من النخب ويعملون تحت إشرافها، واستطاع كبار رجال الأعمال عبر هذه الشبكة، التأثير في ديناميات الأعمال في البلاد، وفقاً لما تريده السلطة التي ترى من منظورها أن هذا كفيل بتقليص احتمالية أي تواطؤ بين رجال الأعمال ضد النظام، علاوة على ذلك كله اعتبر النظام في سوريا هذه النخب احتياطيات مالية قد تلزم عند الحاجة، وبالطبع فإن معظم تلك النخب قد رد بالمثل، أثناء الصراع عبر توفير دعم اقتصادي وعسكري غير محدود، أما بالنسبة للنخب، فيبدو أن تآمرها مع النظام كان مدفوعاً بحقيقة الارتباط الوثيق بين بقائها واستمرارية وجود النظام، بالإضافة إلى الدوافع المالية البحتة بالتأكيد.
ديناميات الموازنة السياسية
خلق اقتصاد الحرب في سوريا مصادر جديدة ومختلفة للميزانية السياسية، التي وزعها النظام وغيره من قوى الأمر الواقع البازغة حديثا، للإبقاء على ولاء النخب، وشملت هذه المصادر السيطرة على المعابر الحدودية، ونقاط التفتيش، واحتكار التجارة الداخلية، وبيع المشتقات النفطية، واستيراد السلع الأساسية.
كما أتاح النظام السوري لأطراف فاعلة خارجية إمكانية الوصول إلى الأموال العامة بهدف ضمان الحصول على دعم هذه الجهات والحفاظ عليه. وقعت كل من إيران وروسيا، أثناء الصراع، اتفاقيات مختلفة مع (الحكومة السورية)، تمنحهما بموجبها نفوذا مهماً في العديد من القطاعات والمرافق العامة الحيوية كالتعدين والموانئ، فعلى سبيل المثال وقعت (الحكومة السورية) في عام 2017 عقدا مع شركة روسية خاصة تسمى "ستروي ترانز غاز" Stroytransgaz))، تمكن الروس من احتكار قطاع الفوسفات في البلاد لمدة خمسين عاما.
مثلت إتاحة وصول النخب إلى ميزانية الدولة سبيلًا للنظام السوري لتمويل ميزانيته السياسية، إذ احتكرت هذه النخب، بما في ذلك المحاسيب التقليديين وأمراء الحرب الذين برزوا مؤخرا (وجنوا ثرواتهم في البداية من الأنشطة المرتبطة بالنزاع كالتهريب، والاتجار بالأسلحة، وفرض الضرائب، وإنشاء نقاط التفتيش، ومن ثم قاموا باستغلال هذه الثروات في قطاعات اقتصادية أخرى)، احتكرت السلع الأساسية في مناطق سيطرة الحكومة، واستطاعت تسخير شركاتها الوهمية خارج سوريا لتجاوز تأثير العقوبات عند استيراد بعض من هذه السلع إلى سوريا. كما تهيمن المدفوعات إلى هذه الشركات على الإنفاق العام، بفضل هوامشها الربحية المفرطة، وفي المقابل تظهر النخب ولاءها المطلق للنظام السوري، فعلى سبيل المثال أسست ودعمت مجموعات مسلحة موالية للنظام في مختلف المناطق السورية، وأقصت رجال الأعمال الذين لم يبدوا دعمهم الكافي للسلطة في سوريا.
من الجدير بالذكر هنا، أن الحيز المتاح للنخب من قبل النظام تذبذب بمرور الوقت، حيث تمتعت النخب التجارية بمساحة أكبر للعمل (بما في ذلك تأسيس ميليشياتها الخاصة) عندما كان النظام واقعا تحت التهديد، مع حل ميليشياتها ووقف عملياتها بالقوة في الفترات الأكثر أمنا، أو عندما تشكل عملياتها تهديدا لسلطة النظام.
تُجسد أنشطة أيمن جابر، رجل الأعمال المقرب من النظام منذ ما قبل الحرب، مثالًا نموذجيا في هذا السياق، فمع أنه تمتع بقوة كبيرة وتأثير نافذ في مناطق الساحل السوري، وتمكن حتى من اجتذاب بعض الدعم من الروس، فإن النظام استطاع حل ميليشياته في يوم واحد.
وعلى الرغم من التدهور الحاد في الموارد العامة، إلا أن هذا الجزء من الموازنة السياسية أصبح أكثر أهمية نسبيا. فقد بلغت ميزانية الدولة عام 2011 نحو 16.7 مليار دولار أمريكي، ثم انخفضت إلى أقل من 8.5 مليار دولار في عام 2015، ووصلت إلى أدنى مستوياتها في الموازنة الحكومية المقترحة لعام 2021 حيث لم تتجاوز 2.7 مليار دولار.
يشكل الإنفاق العام الحالي زهاء 82% من الميزانية المقررة لعام 2021 مقارنة بنسبة 54% في عام 2011، ويشمل إنفاق عام 2021 نحو 17% مخصصة لأجور ورواتب العاملين في القطاع العام؛ ومن المتوقع أن تغطي الحصة الأكبر من المبلغ المتبقي والتي تقدر بمبلغ 1.5 مليار دولار4، إمدادات النفط والقمح من المصادر الداخلية والخارجية5، كما وقعت الحكومة العديد من العقود لتوفير هذه السلع مع نخبة رجال الأعمال الذين يحققون بدورهم أرباحا هائلة بموجب هذه العقود وبموافقة السلطة في سوريا، بمعنى آخر، حتى مع تقليص ميزانية الدولة، بقيت مستويات الإنفاق السياسي مرتفعة نسبيا.
تجسد إمدادات النفط ومشتقاته مجرد مثال واحد على تحول الإنفاق الحكومي إلى مصدر لتمويل الميزانية السياسية في مناطق سيطرة النظام، حيث تؤمن السلطة في سوريا احتياجاتها اليومية من النفط والمحروقات من مصادر عدة، وتعد الواردات من الأسواق الدولية، خصوصا من روسيا وإيران، أولى المصادر، بينما يأتي المصدر الثاني من النفط المنتج في شمال شرق سوريا حيث تبيع "الإدارة الذاتية" النفط للنظام مقابل المياه والكهرباء.
أما آخر المصادر فهو النفط الخام المستخرج من مناطق سيطرة النظام، فيما يتعلق بالمصدرين الأولين، اعتمدت السلطة في سوريا على شبكات اقتصادية مؤثرة لتأمين الكمية المطلوبة، حيث تستغل شركاتها الوهمية خارج البلاد لتأمين احتياجات الدولة من الأسواق الخارجية، وتجدر الإشارة هنا إلى أن الشركات الوهمية ليست بالأمر الجديد على الاقتصاد السياسي السوري، لكنها انتشرت بكثرة أثناء النزاع، وذلك لمساعدة النظام على تفادي عقوبات ما بعد عام 2011، في المقام الأول. كما نسقت هذه الشبكات الاقتصادية، وتفاوضت، مع رجال الأعمال والأشخاص البارزين في شمال شرق سوريا لنقل النفط إلى مناطق سيطرة النظام.
أبرمت (الحكومة السورية) مع عدة شركات خاصة ورجال أعمال عقودا رسمية تتضمن هوامش ربحية عالية للنخب، فعلى سبيل المثال، صرح وزير التجارة الداخلية، في ديسمبر/كانون الأول 2020، أن الحكومة تدفع في المعدل المتوسط مبلغا قدره 1000 ليرة سورية لكل لتر من الوقود7. ما يعني زيادة قدرها 0.22 دولارا أمريكيا لكل لتر بالمقارنة مع أسعار بيع المحروقات في لبنان8، الذي يعد واحدا من قنوات نقل النفط الرئيسية إلى سوريا، وبما أن استهلاك الوقود في سوريا بلغ 5.5 مليون لتر في اليوم9، فقد قدرت تلك الزيادة بمبلغ 400 مليون دولار أمريكي تقريبا في السنة، ما يعادل نحو 15% من الميزانية المقررة لعام 2021، ومن المتوقع أن تغذي هذه الزيادة الميزانية السياسية في نهاية المطاف. ومن الجدير بالذكر هنا، أن التكلفة الإضافية قد تشمل عمولات ضخمة للبنوك والسماسرة وذلك بسبب اللجوء إلى قنوات مالية غير أمريكية. ومع ذلك، تدفع هذه العمولات بشكل غير قانوني وبالتنسيق مع أمراء الحرب المختارين من قبل النظام السوري لإجراء مثل هذه الصفقات.
يُعد حسام قاطرجي اليوم واحدا من أمراء الحرب المستفيدين من ميزانيات الدولة عبر عقود النفط القانونية المبرمة مع (الحكومة السورية). وهو عضو في مجلس الشعب في دمشق، ويملك مع شقيقيه مجموعة قاطرجي، المشاركة في عمليات نقل النفط السوري من شمال شرق البلاد إلى مصافي النفط في مناطق سيطرة النظام ويسيطر شقيقه براء على شركة لبنانية مسؤولة عن استيراد النفط والوقود، خاصة من إيران علاوة على ذلك كله، وافق رأس النظام السوري بشار الأسد، في وقت مبكر من هذه السنة على إنشاء مصفاتي نفط تملكهما إحدى شركات قاطرجي، "أرفادا بتروليوم". يجدر بنا الإشارة هنا إلى أنه لا توجد في مناطق سيطرة النظام سوى مصفاتين للنفط تابعتين للقطاع العام.
وفي المقابل، حرص الأشقاء قاطرجي دوماً على إظهار ولائهم للسلطة في سوريا، فأسسوا على سبيل المثال، ميليشياتهم الخاصة في محافظة دير الزور تحت ذريعة حماية استثماراتهم في المنطقة؛ إلا أن هذه الميليشيا تدار تحت إشراف أجهزة أمن النظام. كما عملوا على توثيق صلاتهم وعلاقاتهم المالية بزعماء العشائر لتسهيل أعمالهم المتعلقة بالنفط، ولإبقاء أولئك الزعماء تحت نفوذ النظام. وأخيرا، يعد الأشقاء قاطرجي أحد أهم المستوردين الرئيسيين للنفط الإيراني إلى سوريا ما يشير إلى قدرة إيران على فرض درجة من السيطرة على الموارد السورية العامة، بالإضافة إلى تلك المفروضة من السلطة السورية، بما في ذلك جزء من الإنفاق العام، وتسخيره لأغراض سياسية.
تمثل إمدادات القمح نموذجا آخر يظهر كيفية تسخير النظام السوري للموارد العامة وإعادة توزيعها لصالح أمراء الحرب ومحاسبيه من رجال الأعمال. إذ انخفض إنتاج سوريا للقمح انخفاضا حادا من أكثر من 4 ملايين طن في عام 2010 إلى أقل من 2.2 مليون طن في عام 2019، دفع هذا الانخفاض في محصول القمح، إضافة إلى وجود جزء كبير من إنتاج القمح خارج مناطق سيطرة النظام، (الحكومة السورية) إلى الاعتماد على رجال الأعمال المقربين منها لتأمين الكمية المطلوبة من القمح. في عام 2019، صرح مدير المؤسسة العامة السورية للحبوب -المسؤولة عن شراء وتخزين وتسويق القمح- أن الحكومة وقعت ثلاثة عقود مع القطاع الخاص لاستيراد 600 ألف طن من القمح بسعر وسطي يبلغ 275 دولارا للطن، وبالتالي فإن (الحكومة السورية) تشتري القمح بزيادة تبلغ 75 دولارا إضافيا للطن الواحد، مقارنة بالسعر الدولي، إضافة إلى تكاليف الشحن التي تبلغ 200 دولار أمريكي للطن، ما أدى إلى حصد هامش ربحي هائل بلغ 45 مليون دولار حول من الإنفاق العام بهدف تمويل نخبة رجال الأعمال، ومن المرجح أن جزءا من هذا الإنفاق قد أعيد تدويره مرة أخرى ليصل إلى الميزانية السياسية للنظام.
ومن بين هذه النخب، يعد سامر الفوز حوتا من حيتان المال الذين جنوا ثروتهم أثناء الصراع عبر استغلال ديناميات اقتصاد الحرب في سوريا. إذ أنشأ مجموعة واسعة من الأعمال داخل البلاد، شملت الأدوية والإسمنت والسياحة والنقل والمشروعات الإعلامية، بالإضافة إلى تجارة القمح وتزويد (الحكومة السورية) به. ويقوم جزء من أعماله في سوريا على عقود رسمية مع الحكومة، التي تصرف له من ميزانيات الدولة مقابل توصيل السلع الأساسية كالقمح.
وفي المقابل، يتيح سامر الفوز للنظام إمكانية الوصول إلى الأسواق الدولية عبر فروع شركته الخارجية، التي تتخذ من موسكو مقرا لها. ويعكس ذلك أيضا عمق الصلات مع روسيا، التي تعد روسيا أحد أهم حلفاء النظام السوري. وبما أن سامر الفوز أحد الخاضعين للعقوبات الأمريكية والأوروبية، يمكننا تصور حجم الشبكات غير القانونية العابرة للحدود التي يحافظ عن طريقها على أعماله التجارية خارج سوريا. بالإضافة إلى ذلك كله، موّل سامر الفوز ميليشيا قوات الدرع الأمني العسكري تحت إشراف إدارة المخابرات الجوية - إحدى المؤسسات الأمنية الرئيسية للسلطات السورية.
يظهر هذان المثالان المذكوران أعلاه كيف مول النظام جزءا من ميزانيته السياسية عبر استغلال الإنفاق الحكومي. ما أدى إلى إعادة تخصيص الموارد العامة، المتقلصة أصلًا، وتحويلها من أغلبية السوريين إلى جيوب حفنة من رجال الأعمال الموالين، فقد اعتمد حجم الميزانية السياسية التي وزعتها السلطة السورية على هؤلاء الموالين على الخدمات المقدمة منهم، والعلاقات التي تربطهم بالقوى الخارجية. إلا أن الاستيلاء الذي تم مؤخرا على أعمال وممتلكات رامي مخلوف، الذي كان أهم المحاسيب الرأسماليين في سوريا، يشير في دلالته إلى أن النظام لا يزال قادرا على تحجيم أو استبدال أي واحدة من النخب الموالية له. وبالرغم من قلة الأدلة، يبدو من المرجح أن مجموعة من العوامل وقفت خلف خسارة مخلوف لنفوذه. ومن بينها، رغبة النظام في الوصول المباشر إلى شبكات مخلوف المالية، وعدم استعداد النظام للتغاضي عن قوة مخلوف ونفوذه المتناميين في مناطق الساحل، وأخيرا الرغبة في إرسال إشارة إلى اللاعبين الداخليين والرعاة الخارجيين بأن النظام لا يزال مهيمنا على الساحة السياسية السورية. لهذا كله، يجدر بنا التأكيد على حقيقة أن السلطة في سوريا قادرة على تغيير، أو استبدال، أو مهاجمة الأفراد ضمن نخب رجال الأعمال، لكن مع بقائها في الوقت نفسه في حاجة ماسة للنخب التجارية ككل. بكلمات أخرى، حتى مع بقاء النظام معتمدا على نخب رجال الأعمال، فإنه يظل اللاعب الأبرز في السوق السياسية.
خاتمة
بدأ النظام السوري، في العقد الأول من القرن الحالي، تحويل الموارد العامة من الإنفاق الحكومي على السلع والخدمات الأساسية إلى الموازنة السياسية. وسرعت السلطات السورية هذا التحول خلال سنوات النزاع في البلاد. كما أتاحت للنخب من رجال الأعمال فرصة الوصول القانوني إلى موازنات الدولة بشكل متزايد عبر المشتريات والعقود الحكومية. ما أدى إلى تفاقم استنزاف الموارد العامة المتناقصة أصلًا، وزاد من نفوذ المحاسيب وأمراء الحرب. بالمقابل، توقع النظام أن تلعب هذه النخب دورا حيويا في الحفاظ على سلطته عبر دعم أنشطته العسكرية وفتح قنوات مالية جديدة مع الأسواق الخارجية. كما قللت التكلفة المتصاعدة للإبقاء على دعم هؤلاء النخب من قوة النظام التفاوضية وقدرته على المساومة مع رعاته الخارجيين (إيران وروسيا)، بالرغم من استمراره، داخليا، في السيطرة على وسائل الإجبار والإكراه وعلى مؤسسات الدولة. ومع ذلك كله، تمثلت النتيجة الرئيسة لهذا الترتيب في توجه نحو زيادة استخدام النظام لأساليب الإكراه والإجبار، وكلما استغلت السلطات السورية الموارد وأعادت تخصيصها لمصلحة الميزانية السياسية، تناقصت قدرتها على إبرام العقد الاجتماعي مع مواطنيها. ونتيجة لذلك كله، انتقل النظام السوري في تعامله مع غالبية الشعب السوري من سياسة "العصا والجزرة" إلى مقاربة تعتمد بالكامل تقريبا على "العصي". الأمر الذي جعل السوريين شعبا يفتقر إلى أدنى حقوقه السياسية ومنافعه الاقتصادية.
-----------
أورينت نت