في زيارتي الأولى لم أجد أي لائحات تدلّ على القصر، وعندما وصلت إليه كان مغلقاً. سعيت في ذلك اليوم لرؤية القصر، فلم أستطع رؤيته إلا من أعلى الجدار الخارجيّ في الجهة الشّماليّة، وحينها أدركت عيناي الإيوان الرائع بارتفاعه الشّاهق، ومنذ تلك اللحظة بدأت قصة العشق مع هذا الصّرح المعماريّ.
طرقت باب المبنى المجاور لدار جان بولاد الذي كان سابقاً جزءاً من الدار، أبلغني حارس هذا المبنى المرمّم، بأنّ لدار جان بولاد حارساً يتردد عليه بين الحين والآخر وأعطاني رقم هاتف الحارس، وكان يُدعى أبو رامي. اتصلت به ووعدني بمجيئه في اليوم التالي ليُدخِلني إلى الدّار. في صباح اليوم التالي التقيت مع أبو رامي، كان رجلاً لطيفاً وبسيطاً وللدار مكانة كبيرة في قلبه. اتّضحت لي هذه المكانة عندما أخبرني بأنّ الدار قد عُرِض للبيع بمبلغٍ وقدره مليار ليرة سوريّة، وعبّر عن حزنه الشديد بعدم استطاعته مستقبلاَ في المجيء إلى هذا المكان وشُرب فنجان قهوته أمام الفسقيّة، التي اعتاد على تحضيرها على الببّور. كان يأتي لهذا المكان للتغنّي بجمال هذا البناء ولسقاية المزروعات.
سمح لي بالدخول إلى الدّار من بابه البسيط مروراً بدهليز إلى أن وصلت إلى الفسحة السماويّة، كان الإيوان على الجهة اليسرى، لذلك كان يجب عليّ الالتفات لرؤيته. شعوري في تلك اللحظة لا أستطيع وصفه، فقد دهشني الإيوان بعظمته وجمال لونه الأزرق.
سمح لي أبو رامي بالدخول إلى كل غرفة وخلال جولتي حلمت بأن أملك هذا الدّار يوماً وأجلس في ظلّ إيوانه الأزرق. قمت بتنظيف إحدى لوائح القاشاني وتصويرها لإظهار الزخرفة الزرقاء التي تملأ المبنى.
يقع دار جان بولاد بالقرب من باب النّصر، الذي يعتبر أحد أبواب حلب السبعة القديمة. بُنِيَ في القرن السّادس عشر وكانت مساحته حوالي 5000 م2. كانت تعود ملكية القصر لبني الإصبع قبل أن يقوم جان بولاد الذي كان مقرّباً من السّلطان سليمان القانوني بشرائه، ومعنى اسم جان بولاد هو روح الفولاذ. امتلك هذا الدّار أيضاً مفتي مدينة حلب الشّيخ حسن أفندي الكواكبي. أمّا خلال الاحتلال الفرنسيّ، فكان الدّار مكاناً لتجمّع أفراد الكتلة الوطنيّة، لأنّ صاحب الدّار آنذاك المُدعى أبونا حسن بك كان عضواً في الكتلة الوطنيّة. وُهِبَ 15% من الدّار للأوقاف واستُخدِمَت باسم مدرسة الغافقيّة وبعد ذلك هُجِرَ المبنى.
كان مدخل القصر صغيراً وبسيطاً، مشابهاً لباقي مداخل البيوت الحلبيّة القديمة. يؤدي الممرّإلى باحة كبيرة وإلى إيوان أزرق ضخم، يبلغ ارتفاعه 30 متراً. هذا الإيوان يعتبر الأكبر ليس في حلب فقط بل في سوريا أيضاً، ولا يوجد له مثيل في الحجم إلّا في أصفهان. جدرانه مكسيّة بالقاشاني الأزرق. كانت الغرفة الغربيّة من الإيوان غرفة المفكّر عبد الرحمن الكواكبي.
فُصلت بعض العناصر المعماريّة عن القصر واستخدمت لأغراض مختلفة: خانات، مصبنة، وبيوت. بعض العناصر المعماريّة السّكنيّة الواضحة لم تكن من عمارة الفترة العثمانيّة إطلاقاً، ويمكن إعادتها إلى نهاية الفترة المملوكيّة.
تبدّل النسيج العمرانيّ للحيّ بشكل كبير، إذ أُعيد تنظيمه في فترة حكم الأتراك العثمانيين، وبشكل خاصّ في فترة التجديد أو على الأقلّ فترة التبدّل الاجتماعيّ والاقتصاديّ والفراغيّ الهامّ.
وكان مؤسفاً وضع القصر في عام 2011، فقد كان مُهملاً وغير مُعتنى به من قبل مالكيه. فكان بالإمكان ترميمه واستخدامه لأهداف مختلفة، ونظراً لأهميّة وندرة هذا القصر في العالم العربيّ، من أهمّ هذه الاستخدامات هو استقبال الزوّار كمعلم أثريّ وسياحيّ.
عند عودتي إلى سوريا يوماً ما، ستكون زيارة القصر من أولى مخططاتي لما يحمله في قلبي من ذكريات جميلة.
تيفاني فطيمي باحثة آثارية سورية-هنغارية. تخرجت بأعلى تقدير من قسم الآثار في جامعة حلب. عملت مع عدد من أبرز الخبراء في عدة مواقع أثرية في سورية وأوروبا وتكمل الآن دراسة الماجستير في آثار الشرق الأدنى في جامعة هايدلبرغ في ألمانيا.
المراجع التي تم اعتمادها في كتابة المقالة:
أوابد سويقة علي جان كلود دافيد، ترجمة: محمود حريتاني 2010، و تقصّي خطى الدّولة العثمانيّة في حلب لمياء الجاسر وآخرون 2010، و معالم حلب الاثريّة عبد الله حجّار 2010.
-----------
مشروع حلب