حملتُ حب الحسين وذهبت به إلى مدينة حمص، هناك، حيث السنّة، أتباع عمر، سارقو الخلافة من سيدي علي، والمتأهبون دائماً لثارات مفاجئة من أتباع الحسين، ثارات تفرضها مزاجية الأحداث والجغرافيا العربية. نساء يتحدثن من خلف الأبواب بصوت منخفض، أول ما لفت انتباهي في تلك المدينة، تذكرتُ ضلع فاطمة وكيف كُسر وهي تقف خلف الباب. قلت في نفسي: لربما تكون هذه العادة التي يمارسونها هي بمثابة عقوبة لهن، قمن باعتمادها ندماً على كسر ضلع فاطمة، تماماً كما فعلنا نحن عندما اعتمدنا وسيلة اللطم والبكاء وإعداد حلل الهريسة والصيام عن شرب الماء في عاشوراء، كاعتذار طويل الأمد، بعدما خذل أجداد أجداد أجدادنا سيدي الحسين في معركته تلك.
سمعتُ إحداهن تقول لأمها التي ذرفت الدموع فيما كانت تشاهد القصف الإسرائيلي على الجنوب، والذي استهدف عشرات المدنيين. سمعتها تقول لها: لماذا تبكين عليهم؟ إنهم شيعة.. فنزلت كلماتها كالصاعقة على مسمعي: إلى هذا الحد تكرهين الشيعة؟ وكان ردها عنيفاً وجارحاً عندما أجابتني: سمعتُ إحداهن تقول الكلام نفسه لامرأة كانت تبكي على مقتل الجنود العراقيين في حربهم مع إيران: لماذا تبكين عليهم؟ إنهم سنّة.. أنا الآن أثأر من كلماتها تلك، أليس هذا عدلاً؟
كان ذلك هو الدرس الأول الذي تعلمته، الثأر يولد لنا ثأراً آخر في مكان آخر من دون أن ننتبه، وفي زمان آخر لا نتوقع مجيئه، وفي ظروف تستوفي شروط الرد بالمثل، حتى لو كان هذا الرد قاسياً إلى درجة الاستهانة بموت إنسان... الثأر مرّ، مرٌّ جداً، خلاصة توصلت إليها بعد حديث طويل مع تلك الفتاة ومع نفسي، هل سيحزن الحسين منا إن أوقفنا حملة الثارات لأجله والتي امتدت مئات السنين؟
كان عليّ أن اتعرف على جَدّ الحسين، النبي محمد، كي أجد الإجابة على سؤال مخيف كهذا. انتبهت إلى أن حضور شخصية الإمامَين الحسين وعلي، في الجنوب، طغى حتى على حضور شخصية النبي محمد. اشتريت كتاباً عن سيرة النبي، لأفاجأ بالكثير من الإجابات على سؤالي ذاك.
"يا لثارات الحسين" كان عليّ استبدالها بعبارة أدق وأكثر موضوعية: "لا لثارات الحسين". كان العبور إلى الطرف المعادي طائفياً، والذي هو الطرف السنّي، أحد أهم الطرق للتعرف على شخصية الحسين..
جاءت الثورة السورية في مدينة حمص العام 2011، لتعرفني على الحسين تعريفاً عملياً، بالمقاييس كافة. في تلك المدينة المسالمة، التي يطلقون عليها "أمّ الفقير"، لم أتعرف على الحسين في المساجد أو المقامات الدينية أو الحسينيات الموجودة في قرى ريفية تابعة لها. بل
سمعتُ إحداهن تقول لأمها التي ذرفت الدموع فيما كانت تشاهد القصف الإسرائيلي على الجنوب، والذي استهدف عشرات المدنيين. سمعتها تقول لها: لماذا تبكين عليهم؟ إنهم شيعة.. فنزلت كلماتها كالصاعقة على مسمعي: إلى هذا الحد تكرهين الشيعة؟ وكان ردها عنيفاً وجارحاً عندما أجابتني: سمعتُ إحداهن تقول الكلام نفسه لامرأة كانت تبكي على مقتل الجنود العراقيين في حربهم مع إيران: لماذا تبكين عليهم؟ إنهم سنّة.. أنا الآن أثأر من كلماتها تلك، أليس هذا عدلاً؟
كان ذلك هو الدرس الأول الذي تعلمته، الثأر يولد لنا ثأراً آخر في مكان آخر من دون أن ننتبه، وفي زمان آخر لا نتوقع مجيئه، وفي ظروف تستوفي شروط الرد بالمثل، حتى لو كان هذا الرد قاسياً إلى درجة الاستهانة بموت إنسان... الثأر مرّ، مرٌّ جداً، خلاصة توصلت إليها بعد حديث طويل مع تلك الفتاة ومع نفسي، هل سيحزن الحسين منا إن أوقفنا حملة الثارات لأجله والتي امتدت مئات السنين؟
كان عليّ أن اتعرف على جَدّ الحسين، النبي محمد، كي أجد الإجابة على سؤال مخيف كهذا. انتبهت إلى أن حضور شخصية الإمامَين الحسين وعلي، في الجنوب، طغى حتى على حضور شخصية النبي محمد. اشتريت كتاباً عن سيرة النبي، لأفاجأ بالكثير من الإجابات على سؤالي ذاك.
"يا لثارات الحسين" كان عليّ استبدالها بعبارة أدق وأكثر موضوعية: "لا لثارات الحسين". كان العبور إلى الطرف المعادي طائفياً، والذي هو الطرف السنّي، أحد أهم الطرق للتعرف على شخصية الحسين..
جاءت الثورة السورية في مدينة حمص العام 2011، لتعرفني على الحسين تعريفاً عملياً، بالمقاييس كافة. في تلك المدينة المسالمة، التي يطلقون عليها "أمّ الفقير"، لم أتعرف على الحسين في المساجد أو المقامات الدينية أو الحسينيات الموجودة في قرى ريفية تابعة لها. بل
تعرفت عليه تدريجياً، عبر الإحتكاك بأناسٍ يُفترض أنهم أعداء الحسين. صعدت شخصيته درجة درجة، هذه المرة تعرفت عليه بعيداً عن ولائم الهريسة ومجالس العزاء حيث يشجعنا "القرّاء" على البكاء، وكلما بكينا أكثر، ازدادت شهرتهم ودولاراتهم.
تعرفتُ عليه عندما سقط متظاهر سلمي جريحاً، وهو يهرب من قوات الأمن بالقرب من منزلنا، ولم يجرؤ أحد على الاقتراب منه واسعافه، وحدها دبابة الوطن قامت بالمهمة، أخذته ولم تُعِده...
يهاجمك الحزن بكل قوته، عندما تكتشف بأن الخذلان هو أيضاً مُرّ، كالثأر تماماً. تسأل نفسك: هل الحسين معنا أم معهم؟ معنا نحن الذين نتعرض لكل ما تعرض له. أم معهم هم الذين يؤدون "واجب الجهاد" ضدنا تحت رايته؟
يتوالى سقوط الجرحى والقتلى ومن ثم الأحياء في تلك المدينة، فتصرّ على البقاء فيها لتتعرف على الحسين أكثر من أي وقت مضى. تجرّب العطش مثله، لكنك تجرّبه مع أبناء السنّة هذه المرة، تجرّب الجوع، تجرب استيعاب شائعات يفبركونها عن تلك المدينة التي صدّرت الضحك للعالم عبر نهفات أبنائها الطيبين جداً، شائعات يفبركها جيش الوطن، بأوامر مَن هم خارج حدود الوطن، لضمان بقائه.
تطرح على نفسك سؤالاً آخر، أهمّ: ماذا لو لم أكن هنا؟ لو كنت هناك مع فريق أتباع الحسين، هل كنت سأصدق أن مدينة بهذه الطيبة يمكن أن تتعرض لكل هذا الظلم بحجة الدفاع عن مقامات الحسين التي لا وجود لها فيها؟ مَن كان ليقنعني، أنا المؤدلجة على مفاهيم معينة، أن ثمة مدينة اسمها حمص لا تشكل أي خطر على وجودي كشيعية، وأن كل ما هنالك أنها جرّبت أن تقلد الحسين عليه السلام، في الدفاع عن حق أبنائها الذين يمارسون الضحك كما لو أنهم يمارسون فرض عبادة؟
كل الأسئلة الجوهرية التي كانت تدور في رأسي حول شخصية الإمام الحسين، كانت حمص تجيبني عنها قبل أن أطرحها. تقدم لي نموذجا حياً عمّا تعرض له الحسين من ظلم وخذلان وجوع وعطش، هو وآل بيته، لتضعني في مواجهة أمام كل تلك الحقائق المشبوهة التي آمنتُ بها سابقاً.
نعم، وحدها حمص عرّفتني على شخصية الحسين الحقيقية، لا منابر الحسينيات في قريتنا، ولا التباكي المصطنع. عرّفتني عليه عندما ثارت بطريقتها السلمية، عندما حوصرت وتوضأت مع أبنائها بماء الثلج، بعدما قُطعت عنها المياه لأيام، ثم المواد الغذائية، لتمسي أمام خيارَين: الموت البطيء أو التهجير قسراً... تعرّفتُ على الحسين عندما أصبحت حمص هي كربلاء هذا العصر.
--------
المدن
تعرفتُ عليه عندما سقط متظاهر سلمي جريحاً، وهو يهرب من قوات الأمن بالقرب من منزلنا، ولم يجرؤ أحد على الاقتراب منه واسعافه، وحدها دبابة الوطن قامت بالمهمة، أخذته ولم تُعِده...
يهاجمك الحزن بكل قوته، عندما تكتشف بأن الخذلان هو أيضاً مُرّ، كالثأر تماماً. تسأل نفسك: هل الحسين معنا أم معهم؟ معنا نحن الذين نتعرض لكل ما تعرض له. أم معهم هم الذين يؤدون "واجب الجهاد" ضدنا تحت رايته؟
يتوالى سقوط الجرحى والقتلى ومن ثم الأحياء في تلك المدينة، فتصرّ على البقاء فيها لتتعرف على الحسين أكثر من أي وقت مضى. تجرّب العطش مثله، لكنك تجرّبه مع أبناء السنّة هذه المرة، تجرّب الجوع، تجرب استيعاب شائعات يفبركونها عن تلك المدينة التي صدّرت الضحك للعالم عبر نهفات أبنائها الطيبين جداً، شائعات يفبركها جيش الوطن، بأوامر مَن هم خارج حدود الوطن، لضمان بقائه.
تطرح على نفسك سؤالاً آخر، أهمّ: ماذا لو لم أكن هنا؟ لو كنت هناك مع فريق أتباع الحسين، هل كنت سأصدق أن مدينة بهذه الطيبة يمكن أن تتعرض لكل هذا الظلم بحجة الدفاع عن مقامات الحسين التي لا وجود لها فيها؟ مَن كان ليقنعني، أنا المؤدلجة على مفاهيم معينة، أن ثمة مدينة اسمها حمص لا تشكل أي خطر على وجودي كشيعية، وأن كل ما هنالك أنها جرّبت أن تقلد الحسين عليه السلام، في الدفاع عن حق أبنائها الذين يمارسون الضحك كما لو أنهم يمارسون فرض عبادة؟
كل الأسئلة الجوهرية التي كانت تدور في رأسي حول شخصية الإمام الحسين، كانت حمص تجيبني عنها قبل أن أطرحها. تقدم لي نموذجا حياً عمّا تعرض له الحسين من ظلم وخذلان وجوع وعطش، هو وآل بيته، لتضعني في مواجهة أمام كل تلك الحقائق المشبوهة التي آمنتُ بها سابقاً.
نعم، وحدها حمص عرّفتني على شخصية الحسين الحقيقية، لا منابر الحسينيات في قريتنا، ولا التباكي المصطنع. عرّفتني عليه عندما ثارت بطريقتها السلمية، عندما حوصرت وتوضأت مع أبنائها بماء الثلج، بعدما قُطعت عنها المياه لأيام، ثم المواد الغذائية، لتمسي أمام خيارَين: الموت البطيء أو التهجير قسراً... تعرّفتُ على الحسين عندما أصبحت حمص هي كربلاء هذا العصر.
--------
المدن