ويستمر هذا الحوار إلى ما لا نهاية.
هذه هي حكاية اللاحكاية التي تتجسد في مثل شعبي لبناني اسمه حكية إبريق الزيت.
الجديد هو أنني اكتشفت أن هناك معادلاً لهذه الحكاية في فلسطين، فحين كان صديقي ب، المقيم في الجليل، يحدثني عن الوضع الفلسطيني، صمت فجأة وقال «ماذا أستطيع أن أقول، زيت برُب ورُب بزيت، فهمت عليّ».
قلت إنني فهمت لكنني لم أفهم سوى أن صديقي أراد أن يقول إنهم يعيشون شيئاً شبيهاً بحاضرنا اللبناني الذي تلخصه «حكاية إبريق الزيت».
سبق لي وأن سمعت هذا المثل من طالبة فلسطينية في الجامعة الأمريكية في بيروت، وعندما حاولت أن أستفسر منها عن ماهية العلاقة بين الزيت والرُب، أجابت «هكذا نقول عندما ينتهي القول».
هناك في فلسطين يخلطون الزيت بالرُب، وهنا في لبنان يكررون حكاية إبريق الزيت، ومفادهما أن لا وجود لحكاية سوى تكرار الكلام.
لا أدري ماذا يقصدون في فلسطين بكلمة رُب، لكن صديقي سأل أمه بناء على إلحاحي، فأوضحت له أن الرُب يقصد به دبس الخرنوب أو الخرّوب.
أما في لبنان فكلمة رُب لا علاقة لها بالخرنوب، بل هي مختصة بالبندورة والرمان.
اجتهد شيخ الأدب الشعبي اللبناني سلام الراسي في كتابه «حيص بيص» وقدم لنا حكاية عن أصل «إبريق الزيت» فروى عن كاهن كنيسة مار الياس في إحدى القرى اللبنانية، وألّف أصلاً لمَثل شعبي صار أكثر أهمية من أصله، هذا إذا افترضنا أن الأصل يقع قبل المثل، متجاهلين أن الأصول يجري تركيبها في الغالب حسب الظرف والحاجة.
يروي الراسي عن كاهن أراد جمع التبرعات من أبناء رعيته من أجل تجديد كنيسة مار الياس في القرية. وبدلاً من أن يعظ كالمعتاد، روى الكاهن حكاية مار الياس مع المرأة التي وعدها النبي بأن كوار الدقيق في بيتها لن يفرغ وإبريق زيتها لن ينفد. فقامت المرأة وخبزت للنبي وأكلت معه ومع ابنها.
جلب الناس الزيت إلى الكنيسة، على أمل أن تتكرر الأعجوبة في منازلهم، لكن ثمن الزيت لم يكن كافياً لتجديد بناء الكنيسة، فصار الكاهن يكرر الحكاية في كل قداس. وذهبت الحكاية مثلاً.
غير أن سلام الراسي وضع خاتمة سعيدة لحكايته، إذ مع تكرار عطاءات الزيت ينجح الكاهن في تجديد مبنى الكنيسة.
أريد أن أشكك في صدقية هذه الحكاية، لأن لا وجود لنهاية في المَثل كما يرويه الناس، فحين يقول أحدهم بأنه سيروي لك حكاية إبريق الزيت فهذا يعني أنه لا يملك حكاية، وسيكرر نيته بصرف النظر عن ردة فعلك، ويضعك في متوالية لا نهاية لها، إلى أن يصاب الراوي والمستمع بالسأم، ويدخلا معاً في دهاليز الصمت.
اللاجدوى، هذه هي الكلمة المفتاحية لفهم «إبريق الزيت» اللبناني، والغريب أن الحكاية اختفت من حياتنا اليومية، كما أن السياسيين اللبنانيين الذين لا يملّون من تكرار المكرر ويتعاركون على الفتات، ولا يستخدمون هذه الحكاية في تصريحاتهم المتلفزة التي تعمي العيون وتصم الآذان.
أنا لست عالم أنثروبولوجيا كي أقدم تحليلاً منطقياً للمسألة، وأتمنى أن نصل إلى القدرة على قراءة حربنا الأهلية وانحطاطنا الاجتماعي في طقوس حياتنا اليومية، بدل أن نركز كل جهودنا على قراءة الحرب اللبنانية بصفتها مأساة لا تخلو من الكوميديا السوداء.
«حكاية إبريق الزيت»، أي حكاية عدم وجود حكاية صارت جزءاً من حياتنا، فلقد سئمنا من كل شيء، والسأم يُزهق الروح ويطفئ الرغبة في الكلام، لذلك ربما نستخدم في العامية كلمة «زهَق»، كي نعني سأم.
«الزَهَق» يحتل حياتنا، فمع أن التغيرات تتوالى انحداراً نحو هاوية لا قرار لها. ومع فضائح مافيات لبنان، وآخرها مافيا سرقة الطحين، بحيث صار الرغيف شهوة لا تتحقق إلا بشق الأنفاس، ومع كل هذا «التعتير»، فإن الناس لم تعد تجد كلاماً للتعبير عن غضبها.
وعندما نسأل أو نُسأل، يكون الجواب هزة في الكتفين، أو غمغمة، أو شتائم فقدت قيمتها الرمزية، ودلالاتها.
ومع ذلك فالعالم من حولنا وفي منطقتنا يتغير. فبعد خروج العرب من الخريطة، اتخذ المشرق العربي شكلاً جديداً. إسرائيل تعربد في فلسطين، وتركيا تعيد نسج علاقاتها بإسرائيل تمهيداً لاحتلال أجزاء من شمال سورية، وإيران تتابع محاولاتها لكسر الحصار عبر سياسة حافة الحرب، والأمير السعودي يستعد لغسل منشاره أمام الرئيس الأمريكي.
أما نحن في لبنان، فعلى الرغم من أننا في مواجهة صعبة حول ترسيم الحدود البحرية مع الكيان الصهيوني، فإن السياسية اللبنانية تستخدم كل شيء في صراع المافيات على فتات السلطة. حتى ترسيم الحدود صار جزءاً من لعبة صراع عصابات مجمع اللصوص.
كل شيء في خدمة متاهة الحكومة الجديدة التي لن تتشكل.
نكتشف وسط هذه العتمة أننا لا نملك سوى حكاية إبريق الزيت.
لكن هذه الحكاية مهددة بالاندثار، والمسألة لا تتعلق فقط بغلاء سعر زيت الزيتون، فلقد اعتدنا على تقنين كل شيء، لكن ماذا نفعل إذا اكتشفنا أنهم كسروا الإبريق، ولم يعد جمع فتاته ممكناً.
لقد انكسر الإبريق أيها السيدات والسادة، ومع انكساره تضيع آخر احتمالات الكلام.
القدس العربي