الحرب الثالثة، هي حرب الاستبداد أو حرب الثورات المضادة المُفضية ابتداءً من العام 2011 إلى انقلابات واغتيالات واعتقالات طالت عشرات الألوف من البشر، في البحرين ومصر وتونس، وأدّت إلى نزاعات مسلحة طاحنة لم تنتهِ بعد في ليبيا والسودان. تدخّلت في هذه الحرب مباشرة أو من خلال قوى محلّية الإماراتُ والسعودية، بعد أن كانت قطر وتركيا، وأحياناً أمريكا ودول أوروبية، دعمت لفترة عدداً من الثورات أو محاولات التغيير لأسباب تخصّ أجنداتها الإقليمية والدولية.
الحرب الرابعة، المتقاطعة مع الحربين الثانية والثالثة، هي حرب النظام السوري على أكثرية السوريين، وهي حرب تبدّلت فيها أدوارٌ وتغيّرت بعض التحالفات، وأدّت إلى تدمير البلد وقتل وتهجير واعتقال أكثر من نصف سكّانه، واحتلال أراضيه المفتّتة من قبل روسيا وإيران وأمريكا وتركيا، إضافة إلى استمرار احتلال إسرائيل لجولانه.
وتخترق ديناميّتان بعض هذه الحروب بأشكالها ومستوياتها وتحالفات المشاركين فيها على تعدّد مواقعهم واختلاف حساباتهم: دينامية صراع إيراني إسرائيلي يرتبط بملّف طهران النووي؛ ودينامية صراع إيراني سعودي من جهة وإماراتي سعودي قطري تركي من جهة ثانية، يرتبط كلّ منهما بقضايا توسيع النفوذ وإرساء المعادلات السياسية والاقتصادية في المنطقة.
العداوات والتحالفات وتبدّل الأولويات
إذا وضعنا جانباً لبرهة حربَ الإبادة الإسرائيلية الدائرة في فلسطين (ولنا عودة لاحقة إليها)، أمكننا القول إن في الحروب الأخرى تشابكاً فظيعاً في التحالفات والعداوات.
فبعد أن تواجهت إيران والسعودية في سوريا داخل الثورة والصراع بين النظام ومعارضاته وبموازاتهما، تصالحت الأخيرة مع النظام، حليف طهران، وباتت مع الإمارات من الداعمين للتطبيع العربي والدولي معه. في الوقت نفسه، وبعد مواجهة بين روسيا، منقِذة النظام الأسدي من السقوط، وتركيا، تصالحت الدولتان وتشاركتا مع إيران في مسار سياسي وتنسيق ميداني بهدف تجميد الصراع إلى حين انكفاء الأمريكيين عن جغرافيته، وهم حُماة الأكراد في الشمال والشمال الشرقي السوريَين حتى الآن، بعد أن سبق ودعموا بعض المعارضات لفترة ضدّ النظام، ثم ركّزوا على قتال «داعش» التي تمدّدت من العراق المحطّم نحو سوريا.
وفي اليمن، تدخّلت السعودية والإمارات عسكرياً ضد الحوثيين المدعومين إيرانياً، وحدّتا بعد سنوات من القصف المدمّر والقتال من تمدّدهم من الشمال نحو الجنوب، لكنهما فشلتا في إسقاطهم، فظلّوا مسيطرين على العاصمة ومناطق واسعة شمالاً ووسطاً في منطقة استراتيجية على مدخل البحر الأحمر. ثم انفضّ التحالف بين الرياض وأبو ظبي وباتتا على تنافس وتنابذ، بلغ حدود الصدامات المسلّحة بين الموالين لهما في الجنوب والجنوب الشرقي.
أما في شمال إفريقيا، فبعد دعم إماراتيّ لعبد الفتّاح السيسي في مصر وتعاون بين الطرفين في الحرب الليبية لصالح اللواء حفتر في مواجهة حكومة طرابلس المدعومة من تركيا وقطر، افترق الطرفان في حرب السودان بين الجيش والدعم السريع، وبانت القاهرة (وواشنطن) داعمة للبرهان في حين ظهر أن أبو ظبي (وموسكو) تساعد حميدتي.
وإذا عدنا إلى المشرق والنزاعات التي عصفت قبل كل التطوّرات المذكورة آنفاً بالمجتمعين العراقي واللبناني، من دون أن تجد لها حلّاً جدياً داخل المؤسسات السياسية، نقع على صدامات أهلية عراقية، بعضها مذهبي وجهويّ، تنافست فيها إيران المستفيدة من سقوط صدّام حسين مع أمريكا المُسقِطة للأخير والمحتلّة عسكرياً البلاد، قبل أن تتحالفا على نحو شبه مباشر في مواجهة «داعش» التي كادت تطيح بالحُكم الجديد في بغداد، وداخل أروقته موالون لأمريكا ولإيران على حدّ سواء.
وفي لبنان، حيث حزب الله حليف إيران الأقوى، الممتلك قواماً سياسياً وعسكرياً واقتصادياً داخل الدولة وخارجها، والمستند إلى قاعدة شعبية طائفية وسّعها قتاله لاحتلالٍ إسرائيلي بدأ قبل تأسيسه واستمرّ لـ22 عاماً، دعمت أمريكا والسعودية خصوم الحزب المسيحيين والسنّة والدروز بعد اغتيال رفيق الحريري، قبل انكفائهما التدريجي نتيجة التطورات السورية ابتداء من العام 2012 ثم اليمنية بعد العام 2015. مالت عندها الكفة لصالح الحزب الشيعي، وبقي نظام الطوائف المتهالك يوفّر رغم ذلك لخصومه إياهم بعض النفوذ والمصالح. ولم تغيّر في الأمر لا ثورة شعبية ولا انهيار مالي وانفجار مرفأ ولا اندلاع حرب قبل أشهر في جنوب البلد الصغير.
استثنائية حرب الإبادة في فلسطين المحتلة
بهذا، يمكن القول إن المنطقة بأسرها عرفت في العقدين الأخيرين فائضاً من الصراعات والعنف، بما يجعل القول بمعسكرات واضحة المعالم متعذراً، وبما يدفع إلى اعتبار أن العداوات والتحالفات لم تكن ولم تبق ثابتة، وأن ما صحّ في مكان في زمن محدّد لم يصحّ بالضرورة في زمن آخر أو في مكان آخر.
وحدها الحرب في فلسطين وعليها شذّت في خصائصها وفي ثبات معالمها وعداواتها عن ذلك، وهي أصلاً في جوهرها وفي فلسفتها كما في نتائجها ومجرياتها الميدانية مختلفة عن كل ما يرافقها ويحيط بها من صراعات وحروب. فهي حرب محو «دولةٍ عنصرية حديثةٍ» لشعبٍ إحلالاً لمستوطنين مكانه بذرائع قومية ووعود دينية. وإفلات قادتها من كل عقاب ودعمهم واعتبارهم دولياً (غربياً على وجه التحديد) فوق المحاسبة رغم انتهاكاتهم للمواثيق والقوانين الأممية على مدى عقود، شجّع انتهاكات أُخرى في المنطقة والعالم، وكرّس سطوةً لمبدأ القوة (على حساب مبادئ القانون والحق)، وساهم حتى في تكوين ثقافة الضحايا الفلسطينيين، مع ما لذلك من مفاعيل وآثار سياسية.
وهو، أي هذا الإفلات الدائم من العقاب، وفّر أيضاً مع الوقت شروط تحوّل الحرب الإسرائيلية إلى حرب «جينوسايدية» على ما نشهد منذ 7 تشرين الأول 2023. من هنا أهمّية العمل الحقوقي والتوثيقي والجامعي اليوم، وأهميّة المعركة في المحاكم الدولية وفي المحافل الإعلامية، في الغرب تحديداً، لهدم حصانة القتَلة وتفكيك خطابهم والتأثير قدر المستطاع على الرأي العام ليضغط بدوره على النخب السياسية ومراكز صنع القرار الداعمة لتل أبيب.
ولا يغيّر في الأمر وأولويته اشتراط وجود قابلية فلسطينية للاستفادة منه إن حصل (تماماً كما لا يغيّر انتفاء هذه القابلية سورياً من ضرورة مواصلة العمل سعياً لمحاكمة نظام الأسد ومجرمي المقتلة السورية).
يُحيلنا هذا من جديد إلى مسألة التحالفات والعداوات. وهي مليئة كما أشرنا بالمفارقات في كامل المنطقة، ويمكن أن تضع فلسطين في موقع يبدو فيه دعم إيران لحماس مدعاة استنكار لضحايا إيران في سوريا أو العراق مثلاً. تماماً كما يبدو طلب العون من أمريكا في سوريا وسواها مدعاة نفور وغضب لدى ضحايا الأسلحة والأموال الأمريكية المشاركة في الحرب الإسرائيلية في غزة. على أن هذا لا يغيّر في مشروعية كفاح الشعبين الفلسطيني والسوري ولا يعني في أي حال تنابذهما. بل هو يعني أن التبسيط «الممانع»، ومثله التبسيط المضاد له، يتهافتان أمام تعقيد الميدان وذرائع المتعرّضين للمجازر أو للإبادة وأولوياتهم.
يبقى القول بناء على ما ذُكر، إن تركيب المشهد الفلسطيني والسوري والعربي أو الإقليمي عامة وتعقيداته المتعاظمة، وتداخل العوامل الخارجية والداخلية وتشابكها وتطوّر مساراتها تتطلّب اليوم قراءات سياسية جديدة واعتماداً أكثر على المعطى الحقوقي، لبلورة المواقف أو لاعتماد المعايير تجاه صراعات قديمة ومستجدة، لا يبدو في معظم المواضع أنها ستنتهي قريباً
------------…
القدس العربي