المداخلة الأخرى، التي تساهم في تسريع هذا التحول، تكمن في ذلك التوجه الدولي والإقليمي والعربي المتمثل بعدم التسامح مع إيران، بخصوص الملف النووي، وبخصوص الخطر الذي تمثله (وميليشياتها المسلحة) في المنطقة؛ كما تم التعبير عن ذلك في مخرجات قمة جدة، التي جمعت مؤخراً الرئيس الأميركي بقادة تسع من قادة الدول العربية، مع تأكيد أن هذا التوجه كان في حد ذاته أحد انعكاسات الحرب في أوكرانيا.
طبعاً، ثمة مداخلات أخرى ربما أقل فاعلية، أو أقل وضوحاً حتى الآن، من ضمنها محاولات تركيا تشكيل منطقة آمنة على حدودها مع سوريا بعمق 30 كلم، ومحاولة أخرى أقل وضوحاً تتعلق بمحاولة تشكيل منطقة مماثلة في الجنوب، وإن ليس ثمة شيء يقيني بخصوصها حتى الآن، إضافة إلى المنطقة المحددة بشرق الفرات، حيث تسيطر "قوات سوريا الديموقراطية" تحت الرعاية الأميركية الموجودة، أيضاً، في منطقة التنف عند المثلث الأردني - العراقي - السوري، وترتكز إلى فصيل مغاوير الثورة، من دون أن ننسى الوجود الروسي والإيراني في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام، أي أن الجغرافيا السورية باتت تقريباً موزعة بين أربعة مناطق نفوذ، وكلها مهيأة، أو مستنفرة، لإعادة الصياغة في أية لحظة وبأية طريقة.
بيد أن هذا الوضع المضطرب، وغير اليقيني، تعتريه مشكلات عدة، أهمها، أولاً، أن التحولات الدولية والإقليمية لا تعكس نفسها بشكل ميكانيكي على صراعات القوى في سوريا، فـ"الستاتيكو" القائم منذ حوالي عشر سنوات، والمتمثل بالتوافقات الأميركية ـ الروسية (ضمناً الإسرائيلية)، ما زال قائماً حتى الآن.
ثانياً، المعضلة الأساسية في الوضع السوري تكمن في غلبة الفاعلين الخارجيين على الداخليين، أي أن دور الخارج (على تناقضاته) أعلى وأقوى من دور الداخل (كل الأطراف)، ويأتي في ذلك تابعية النظام للأجندة الروسية والإيرانية، وتابعية المعارضة أو ارتهانها لأجندات الأطراف الخارجية الداعمة لها، خصوصاً تركيا.
ثالثاً، لا يوجد طرف سوري قادر على استثمار أية تغيرات لصالحه، لا النظام ولا المعارضة، فالإثنان في غاية الضعف والتشرذم وانعدام الشرعية، مع تأكيد أن النظام في وضعية أقوى.
وفي الواقع، منذ البداية افتقدت الثورة السورية أو الحراك الشعبي السوري أو الانتفاضة السورية لكيان سياسي جامع، كما افتقدت لإطار حاضن دولي أو إقليمي، بمعنى داعم لعملية التغيير السياسي باتجاه المواطنة والديموقراطية، إلى درجة يمكن معها القول إن الوضع كان ليكون أفضل من دون هؤلاء "الأصدقاء"، الذين أضروا بتلك المحاولة وأضروا بالشعب السوري وبقضيته.
رابعاً، ثمة مشكلة أخرى في الوضع السوري تكمن في حال الإحباط بين السوريين إن من التجربة السابقة، أو من ارتهان المعارضة للداعمين الخارجيين، كما من ضعف القدرة على انتزاع الشرعية من النظام، بسبب ضعف اشتغال المعارضين عموماً على صوغ رؤية وطنية جامعة، وخلق كيان سياسي جامع.
هكذا، فإن مجرد إصدار دول (الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا)، في بداية الغزو الروسي لأوكرانيا، لبيان يربط ما يجري فيها بما جرى في سوريا، أو إعلان توجه من الكونغرس الأميركي، بتشديد العقوبات على نظام الأسد، وممانعة الإدارة الأميركية لأي تطبيع مع النظام، على كل ما في هذا وذاك من أهمية، وندم، أو اعتراف، وحصول بعض الانكسارات في "الستاتيكو" الذي كان سائداً سابقاً، ليس إلا مجرد مؤشر بسيط على إمكان حدوث انزياح، أو ملامح حراك جديد بخصوص المسألة السورية، في المدى المنظور.
بيد أن ما تحدثنا عنه يفيد، أيضاً، في أن ثمة مسافة كبيرة بات ينبغي قطعها للوصول إلى ذلك، أي الى تصدع الستاتيكو السائد في سوريا، ضمنها، أولاً، تبين مآل الصراع على أوكرانيا، لأنه بناء على ذلك سيتقرر شكل النظام الدولي، ومكانة روسيا فيه بشكل خاص، وكيفية تموضع الأطراف الدوليين، خصوصاً الأطراف الإقليميين، أي إيران وتركيا.
ثانياً، لكي يتمكن السوريون من القدرة على استثمار أي تطور دولي، مهما كانت عوائده لصالحهم، يفترض بهم حضّ جهودهم، وقواهم، لتصويب أوضاعهم، بالتوجه نحو إنشاء كيان سياسي جامع، كيان يعبر عن التعددية والتنوع عند السوريين، وعنوانه بناء سوريا كدولة مواطنين أحرار ومتساوين في نظام ديموقراطي، السيادة فيه للشعب، بغض النظر عن أية تفاوتات او اجتهادات من حول كل ذلك.
ثالثاً، ذلك يتطلب، أيضاً، أن يكون القرار الدولي قد نضج باتجاه إيجاد حل للصراع الدامي والمدمر الدائر في سوريا منذ 11 عاماً، وعلى أساس تحقيق التغيير السياسي المنشود، في تحقيق الاستقرار واستعادة الأمن وعودة اللاجئين وإعادة إعمار البلد؛ وهذا ما زال رهناً بإرادة الفاعلين الخارجيين، وبشكل خاص الولايات المتحدة الأميركية.
--------
النهار العربي
--------
النهار العربي