ككل العراقيين، أكملت في مثل هذه الأيام قبل عشرين عاماً، آخر استعداداتي الأسرية لمواجهة الحرب الطاحنة المتوقعة بعد أن بات جلياً أن آمال عدم حصول الحرب لم تكن سوى أحلام غير واقعية. أخذتُ عائلتي لتسكن في منطقة أكثر أمناً بعد أن خزنّا كمية من المواد الغذائية والمياه. دوت صفارات الانذار، انقطعت الكهرباء وبدأت أصوات الانفجارات تهز البيت البديل الذي أخترناه بشدة وتحيل سماء بغداد إلى مهرجان من الألعاب النارية المميتة. ومع تصاعد أصوات الفزع لأطفالي كان همي الرئيس تهدئة روعهم وجعلهم يصدقون كذبي بأن كل شيء سيكون على ما يرام.
لم تمض سوى أسابيع ثلاثة حتى بتنا متيقنين أن العراق قد أحتُلّ وأن فصلاً جديداً في حياتنا قد بدأ. ومع ذلك، بدا الرد الشعبي العراقي الواضح على هذا الواقع مثيراً للحيرة، فمعظم الأخبار التي كنت أستلمها على راديو الترانزستور الصغير الذي كان نافذتي على العالم كانت تشير أن العراقيين فرحين بأسقاط نظام صدام ومبتهجين بعهد جديد من الديموقراطية والحرية والرفاه يجعل العراق الولاية الأميركية الحادية والخمسين.
تلك الاخبار التي تلقيتها جعلتني اتسأل: لماذا لم أكن أذاً فرِحاً كباقي العراقيين الذين تشير لهم أخبار الراديو؟ هل أنا مختلف، أم هناك جانب آخر للرأي العام لم يقُلهُ المذياع لنا؟! كنت بالصدفة أقرأ حينذاك أحد الكتب التي تتحدث عن تأثير الرأي العام وكيفية قياسه. قلت في نفسي، ربما لو استطعت أن أسأل العراقيين عن رأيهم بما حصل أتمكن حينها من حل التناقض الذي تملكني ما بين الأخبار المتدفقة عن فرح العراقيين وغبطتهم بالاحتلال، ورؤيتي المتشائمة لما حصل وما سيحصل لاحقاً. أقنعت أصدقائي وبعض طلابي بالقيام بأول إستطلاع للرأي العام (في بغداد فقط). بعد أقل من ثلاث أسابيع على الاحتلال كانت الاجابة جاهزة عندي، لكنها لم تزدني سوى حيرة على حيرتي، وقلق على قلقي.
أشارت نتائج الاستطلاع إلى أن هناك انقسام واضح في رأي (البغادّة) حيث 49% منهم يعتقدون أن ما حصل كان شيء جيد لهم مقابل 47% كانوا يتفقون معي بأن ما حصل كان شيء سيء. وحين أدركت ان المواقف كانت منقسمة ومتساوية تقريبا، زادت حيرتي، وزاد شغفي بالتعرف على مزيد من رأي العراقيين. كنت آمل من خلال الاستطلاع اللاحق أن أسألهم عن سبب هذا التباين في آرائهم لدرجة أنى هجرت مهنتي كأستاذ جامعي وكرست كل حياتي المتبقية لسبر غور الرأي العام العراقي الذي تغير دراماتيكياً خلال العشرين سنة الماضية بشكل مثير.
تأتي الذكرى العشرين للاحتلال لتحفز العودة إلى سؤال العراقيين بعض من نفس الأسئلة التي سألتها في السنوات الأولى بعد 2003 لرسم صورة أكثر وضوحاً حول كيفية التغيير الذي طرأ على رأى العراقيين. لذا أجرت مجموعتي البحثية (المستقلة للأبحاث) بالتعاون مع شركة الأبحاث البريطانية ORB وهيئة الإذاعة البريطانية BBC في نهاية شباط 2023 استطلاعاً للرأي العام لعينة وطنية شملت 2300 مقابلة جرت وجهاً لوجه باستخدام الحاسوب وبأسلوب المعاينة العشوائية الاحتمالية الطبقية النسبية PPS.
على الرغم من أن المقارنة مع أول استطلاع للرأي ليست دقيقة علمياً لأن ذاك الاستطلاع جرى بمنهجية بدائية وأختص ببغداد فقط، ألا أن من المثير أن نعرف أن نسبة العراقيين الذين يقولون أن "دخول قوات التحالف في 2003" كان جيداً لهم ،لكنها اليوم وبعد 20 سنة ،لم تتجاوز 35% فقط وغالبيتهم من (الكورد). أما نسبة العرب (شيعة وسنة) ممن يقولون إن ما حصل كان جيداً فهي بحدود 29% فقط مقابل أكثر من ثلثي العراقيين ككل يرون اليوم أن ما حصل في 2003 كان شيئاُ سيئاُ بالنسبة لهم.هذه النتيجة مثلت أنقلاباً واضحاً في الرأي العام العراقي.
أما السؤال الأكثر أثارة فكان " هل تعتقد، بشكل عام، أن الأمور أفضل لك الآن في ظل النظام السياسي الحالي، أم أنها كانت أفضل خلال نظام صدام حسين؟ فعندما طرحنا هذا السؤال لأول مرة في عام 2005، أجاب 67% معظمهم من (الكورد والشيعة) أن حياتهم في 2005 كانت أفضل مما كانت عليه خلال نظام صدام، وذلك على الرغم من أن الأوضاع الأمنية كانت غير مستقرة آنذاك. أما اليوم فقد حصل تغيير كبير في الرأي العام بخصوص هذا السؤال.
لقد تدنت نسبة من يقولون أن حياتهم الآن أفضل مما كانت عليه في النظام السابق إلى 31% فقط، في حين قفزت نسبة من يقولون أنها كانت أفضل في النظام السابق إلى 36%، وقال ثلث العراقيين (33%) أنها بنفس السوء الذي كانت عليه في النظام السابق. بمعنى أن أقل من ثلث العراقيين فقط يقولون أن حياتهم اليوم أفضل مما كانت عليه خلال النظام السابق.
أن أكثر ما يشد الانتباه في هذه الأرقام الحديثة أنه وبعكس الانطباع الذي قد يكون سائداً فأن التغير الكبير في نسب الرأي العام هذه لم تحصل في منطقة واحدة فقط ولا لدى مجموعة أثنو-طائفية واحدة. فعلى الرغم من أن غالبية من يقولون أن وضعهم كان أفضل في النظام السابق هم من (السنة) وبنسبة 48%، الا أن نسبة (الشيعة) الذين يقولون أن وضعهم كان أفضل في النظام السابق باتت 33% وهي أعلى من نسبة (الشيعة) الذين يقولون إنها أفضل في النظام الحالي. ففي الوقت الذي قال 38% منهم أنها بنفس السوء الذي كانت عليه في النظام السابق،فأن نسبة (الشيعة) الذين قالوا أن حياتهم اليوم أفضل لم تتجاوز 29% فقط! وحتى بين (الكورد) فقد اختلفت النسب كلياً عما كانت عليه في استطلاع عام 2005. فعلى الرغم من أن هناك 63% منهم يقولون أن حياتهم اليوم أفضل، الا أن هناك أكثر من 20% من الكورد ممن يقولون أن وضعهم كان أفضل في ظل النظام السابق، و16% يقولون أنها بذات السوء الذي كانت عليه أبان النظام السابق.
هنا ينبغي التنبيه إلى نقطة مهمة وهي أن هذه النتائج لا تعكس بالضرورة نوستالجيا للنظام السابق بقدر ما تعكس رفض للنظام الحالي وللأوضاع العامة في العراق اليوم. أن الدليل على ذلك هو أن غالبية من قالوا أن أوضاعهم كانت أفضل أبان النظام السابق سواء من (الشيعة) أو (الكورد) هم من الفئات العمرية الأقل من 30 سنة، أي أنهم لم يعيشوا أو لم يكونوا واعين للأوضاع فيما سبق 2003 وبالتالي فأن اجاباتهم لا تعكس واقعاً رأيهم بالنظام السابق بقدر ما تعكس سخطهم من الوضع الحالي.
إن الأرقام الحالية تؤشر إلى حالة إحباط وخيبة أمل واضحين للرأي العام العراقي تجاه نظام وطريقة الحكم في العراق. أن نسبة من يقولون أن الأوضاع في العراق باتت أفضل مما كانت عليه في ظل النظام السابق بحدود 40% فقط مقابل 59% يقولون أن الأوضاع ساءت. وهذه الأرقام تعكس الأزمة الراهنة التي يعيشها النظام السياسي في العراق والتي تحتاج إلى مراجعة كل الإخفاقات التي جعلت كثير من العراقيين يحنون للماضي ليس حباً به، بل نكايةً بالنظام الحالي. لقد قالت إحدى العجائز العراقيات حينما قابلها مذيع تلفزيوني أن "خطايا النظام الحالي هي من بيّضت وجه النظام السابق" وهو أفضل تلخيص لما جرى في العراق – وهي وجهة نظر أظهرها بوضوح استطلاع الرأي العام الأخير.
----------------
معهد واشنطن