مثَّل تصاعد النفوذ الإيراني في منطقة الشرق الأوسط- لاسيما عقب الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003- مصدر قلق كبير لعديدٍ من الدول العربية، على رأسها المملكة العربية السعودية، التي رأت في تنامي النفوذ الإيراني بالعراق من ناحية، وسعيها الدءوب لامتلاك تكنولوجيا نووية – وفق التصريحات الغربية لاسيما الأمريكية - من ناحية أخرى تهديدًا حقيقيًّا لمصالحها القومية. ولهذا حاولت الرياض أن تحقق توازنًا مع طهران من خلال لعب دور إقليمي فاعل يهدف إلى محاصرة النفوذ الإيراني واحتوائه، وهذا ما تركز عليه جيسيكا دروم Jessica Drum ، الباحثة المساعدة بـمعهد مونتيري للدراسات الدولية Monterey Institute of International Studies"، ومركز جيمس مارتن لدراسات منع الانتشار النووي James Martin Center for Nonproliferation Studies"، في دراسة بعنوان "التنافس من أجل النفوذ.. رد الفعل السعودي على البرنامج النووي الإيراني المتقدم" "Vying for Influence: Saudi Arabia’s Reaction to Iran’s Advancing Nuclear Program".
من التحالف إلى العداء
ترصد جيسيكا في بداية دراستها تطور العلاقات السعودية الإيرانية، فتقول : إنَّها مرت بفترات من المد والجذر خلال العقود الماضية، متأرجحة بين التعاون وربما التحالف في فترات تاريخية معينة، وبين العداء الشديد الذي وصل إلى حد قطع العلاقات الدبلوماسية.
ارتبطت البلدان بعلاقات تعاون قبل قيام الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، حيث كان الشاه الإيراني محمد رضا بهلوي، والحكومة السعودية حليفين للولايات المتحدة الأمريكية في عهد الرئيس نيكسون، استنادًا إلى مبدأ نيكسون، الذي أكد على أنَّ السلام لن يتحقق بصورة مُثلى في المنطقة إلا من خلال إقامة شراكة بين حلفاء الولايات المتحدة. ولهذا كانت واشنطن المصدر الرئيس للمساعدات والواردات العسكرية للبلدين، ففي الفترة من 1970-1975، ارتفعت مبيعات السلاح الأمريكية للبلدين من مليار دولار إلى عشرة مليارات دولار أمريكي.
مع قيام الثورة الإسلامية في إيران، قطعت الولايات المتحدة مساعداتها العسكرية لإيران، بينما استمرت في تقديم تلك المساعدات للمملكة. ودخلت العلاقات بين الرياض وطهران مرحلة من التوتر؛ لدعوة الثورة الإيرانية المواطنين السعوديين إلى الإطاحة بالأسرة الحاكمة، لذلك خشيت السعودية، وفق ما تراه الكاتبة من انتفاضة للأقلية الشيعية المتمركزة في المنطقة الشرقية الغنية بالنفط. وقد زادت التوترات بين البلدين للدعم الذي قدمته طهران للثورات في الدول المجاورة، في ظل سياسة تصدير الثورة التي اتبعتها إيران الإسلامية في السنوات الأوائل من حكم الملالي، بالإضافة إلى التوترات والاضطرابات التي قام بها شيعة المملكة. ورغم الجهود الإيرانية المضنية لم تتم الإطاحة بالأسرة الحاكمة، ولا حتى إعادة تنظيم الهيكل السياسي للمملكة، وتمتعت الأقلية الشيعية بقدر ضئيل من الثروة والموارد، رغم محاولات السعودية إرضاءَها.
ووقوف المملكة بجانب العراق في حربه مع إيران وسع الهوة بين البلدين، ووصل التوتر إلى ذروته عندما قطعت المملكة علاقاتها الدبلوماسية مع طهران في عام 1988. وتضيف الكاتبة إلى مصادر التوتر السابقة في العلاقات بين البلدين قضية الحجاج الإيرانيين التي أسهمت في تعكير صفو العلاقة بين البلدين لفترات طويلة. فدائمًا ما كان الحجاج الإيرانيون يثيرون الشغب أثناء مواسم الحج، ما حدا بالسلطة السعودية في بعض الأوقات إلى رفض استقبالهم، وحدوث عديد من المواجهات بين قوات الأمن السعودية والحجاج الإيرانيين، وقد أسفرت إحدى تلك المواجهات عن جرح عشرين حاجًّا إيرانيًّا في عام 1981. واستمر هذا التجاذب لعدة سنوات، حيث كان يسمح بعدد محدود فقط من الحجاج الإيرانيين، علاوة على مراقبة أنشطتهم عن قرب.
شهدت العلاقات بين البلدين تحسنًا ملحوظًا خلال فترة رئاسة كل من أكبر هاشمي رافسنجاني (1989-1997)، ومحمد خاتمي (1997-2005)، إلا أنَّ فوز أحمدي نجاد، ذي الخلفية المحافظة، بالانتخابات الرئاسية الإيرانية في عام 2005، أدى إلى إعادة الوضع إلى ما كان عليه. ومنذ ذلك الحين اتسمت العلاقات بين البلدين- كعادتها- بالشد والجذب، فعلى الرغم من التوتر الذي ساد بين البلدين نتيجة استمرار طهران في أنشطتها النووية، فقد كانت هناك عدة بوادر إيجابية من قبيل اللقاء المشترك الذي جمع العاهل السعودي عبد الله بن عبد العزيز بالرئيس الإيراني أحمدي نجاد في 4 مارس 2007. لكنها زالت لإحجام الطرفين في اللقاء عن الاتفاق على أي خطط ملموسة للتصدي لتصاعد الأزمات السياسية والطائفية في الشرق الأوسط ، بل تضمنت تحذيرًا من قِبل العاهل السعودي للرئيس الإيراني أحمدي نجاد من التدخل في الشئون العربية، أو الاستخفاف بالتهديدات العسكرية الأمريكية. وحاليًا تشهد العلاقات بين البلدين توترًا ملحوظًا، تدعمه الشكوك والاختلافات بين الطرفين حول قضايا المنطقة، أبرزها البرنامج النووي الإيراني والوضع في لبنان.
صحوة إقليمية سعودية
تنتقل الكاتبة إلى دراسة الدور الإقليمي السعودي في المنطقة الهادف – بصورة أساسية – إلى محاصرة النفوذ الإيراني المتنامي في المنطقة أو على الأقل موازنته، معتمدة في ذلك على عاملين أساسيين. العامل الأول يتمثل في ارتفاع أسعار النفط، التي تجاوزت حاجز المائة دولار خلال الأشهر الماضية. فالسعودية تعتبر أكثر ثراءً من إيران، وهو أمر من المتوقع ألا يتغير، خاصة إذا استمرت أسعار النفط في الارتفاع، وبينما تتزايد ثروة المملكة العربية السعودية من النفط، ومن ثَمَّ نفوذها الإقليمي، يعاني الاقتصاد الإيراني بشدة من أزمات حادة. والعامل الثاني للدور السعودي في المنطقة يتمثل في المكانة الرمزية للمملكة والشرعية التي تمتلكها بوصفها حارسًا لأقدس بقعتين لدى المسلمين (مكة والمدينة).
ولمحاصرة واحتواء النفوذ الإيراني المتنامي بالمنطقة اضطرت المملكة للعب دور أكثر فاعلية في حل صراعات المنطقة والذي انعكس في تصريحات الملك عبد الله بن عبد العزيز التي جاء فيها "لا نريد من أحد أن يدير قضايانا ويستغلها في تعزيز مكانته في الصراعات الدولية". ويتجلي هذا الدور في عدة أمور، أبرزها التحرك الذي تقوم به الرياض ليس فقط لتحقيق السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، بل ومن أجل تشكيل حكومة فلسطينية تحظى بالشرعية الدولية. فشهدت مكة، في فبراير 2007، محاولة سعودية لإنهاء الخلافات بين حركتي فتح وحماس، وتكوين حكومة وحدة وطنية فلسطينية، والتي مثلت تحولاً في تعامل المملكة مع القضية، والذي اقتصر في السابق على مجرد تقديم الدعم المالي، محجمة عن القيام بأي دور قيادي في حل الصراع بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي.
ومثلت استضافة المملكة العربية السعودية للقمة العربية مؤشرًا آخر على تصاعد دورها الإقليمي، فهي المرة الأولى التي تستضيف فيها المملكة مثل هذا الحدث، كما أنَّ السعوديين أعادوا تقديم مبادرتهم للسلام، التي قدمت في عام 2002، للقمة العربية ببيروت، ونجحوا في الحصول على موافقة كل الدول العربية عليها.
يحمل هذا النجاح عدة دلالات هامة، يأتي في مقدمتها ظهور القدرة السعودية على تقديم مقترح يحظى بموافقة كافة الدول العربية بخصوص صراع معقد مثل الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، خاصة وأن من ضمن بنود المبادرة السعودية السلام مع إسرائيل، والعودة إلى حدود عام 1967، وتطبيع كامل للعلاقات بين إسرائيل وجيرانها، بالإضافة إلى حق عودة اللاجئين الفلسطينيين، والتخلي عن هضبة الجولان، وهما نقطتان تتحفظ عليهما إسرائيل.
ويُعد حرص الرياض على لعب دور أكثر فاعلية في العراق مؤشرًا أخر على تنامي النفوذ السعودي. فقد فرضت الأزمة العراقية على المملكة اختيار أحد خيارين إما أن تلعب دورًا فاعلاً في تشكيل "العراق الجديد"، أو أن تقف مكتوفة الأيدي تاركة إيران تلعب الدور المركزي في هذا "العراق الجديد".
معضلات الدور الإقليمي السعودي
هناك معضلة كبيرة تواجه الدور السعودي في العراق تتمثل في الاختيار بين الاكتفاء بمشاهدة تعرض سُنَّة العراق لهجوم الميليشيات الشيعية العراقية المدعومة من إيران، أو دعم الميليشيات السُّنِّية التي تغذي العنف في العراق، والذي يُعد سببًا لإغضاب أقليتها الشيعية.
ولا تقتصر المعضلة التي يواجهها الدور السعودي على العراق بل يمتد إلى الملف النووي الإيراني، حيث تجد السعودية نفسها في موقف صعب، فرغم دعمها العلني للاستخدامات السلمية للطاقة النووية، فإن مخاوفها من البرنامج النووي الإيراني لا تقل عن المخاوف الغربية. حيث تخشى السعودية من امتلاك إيران لتكنولوجيا نووية معقدة، قد تستخدم ضدها في يوم من الأيام، ولذلك دعا وزير الخارجية السعودي إيران إلى الموافقة على المبادرة المتعلقة بإخلاء منطقة الخليج من أسلحة الدمار الشامل.
ورغم هذا الإحساس بالتهديد، فإن المملكة ترفض أي تعامل عسكري – أمريكي أو إسرائيلي – حيال البرنامج النووي الإيراني، انطلاقا من رؤيتها أنه تهديدٌ لا يقل عن سابقه، وأن نتائجه ستكون كارثية ليس عليها فحسب بل على الشرق الأوسط بأسره.
جغرافيا ستتأثر تجارة النفط السعودي بشدة في حالة وقوع مثل هذا العدوان، ما سيلقي بظلال سلبية على الاقتصاد السعودي، أضف إلى ذلك أن السعودية قد تجد نفسها مضطرة، في حالة اندلاع الصراع، أن تكون في صف أحد الجانبين، وهو ما سيعود بالخسارة على المملكة أيًّا كان الجانب الذي ستدعمه، فضلاً عن المخاوف الناجمة عن احتمال تسرب مواد نووية أو مشعة من أحد المفاعلات الإيرانية، فمفاعل "بوشهر" يعتبر الأقرب إلى عدد من عواصم دول مجلس التعاون الخليجي منه إلى طهران.
وتواجه السعودية معضلة أخرى في علاقتها مع الولايات المتحدة فمن جهة يدفعها تراجع شعبية الولايات المتحدة في المنطقة بسبب غزو العراق، من بين أسباب أخرى، إلى إعادة النظر والتدقيق في العلاقة "الخاصة" التي تجمعها مع الولايات المتحدة للحيلولة دون استخدام إيران لهذه العلاقات لوضع السعودية في موقف دفاعي، كما حدث في السابق. وهو أمر عبرت عنه تصريحات الملك عبد الله بن عبد العزيز، والتي أدان فيها الاحتلال الأمريكي غير الشرعي للعراق، ورغم أن ذلك أغضب الولايات المتحدة، لكنه أظهر للشعوب والدول العربية أن المملكة ليست مرتهنة بالولايات المتحدة، وأن بوسعها التعاطي بإيجابية مع التماسك العربي. وفي الوقت الذي تريد فيه السعودية إعادة النظر في علاقاتها مع واشنطن لخدمة دورها الإقليمي لا تريد من جهة أخرى أن تفقد صداقتها مع واشنطن، حليفها الاستراتيجي.