. كم يروق لي هذا الأهتر!.
الحق أنه يروق لي أكثر وهو على سجيته، يخطئ فيكتب “مذيف” وهو يقصد “مزيَّف”، يكتب “عرفو” وهو يقصد “اعرفوا” و”حكو” بدل “احكوا”. صحيح أن هذه الأخطاء لا تليق بدارس الاقتصاد في جامعة تشرين، لكن فيها عفوية محببة، وفيها طرافة تضحك وتُدخل السرور إلى النفس. تخيّلوا معي هذا العالم بلا أشخاص مثله، بل تخيلوا لو أن عائلتنا، عائلة الوحش، خالية من أمثاله؛ كم سيكون ذلك مملاً. ثم إنه يروق لي وهو يمسك البارودة، ويطلق النار، بيد واحدة معلناً عودته إلى البلد بعد خروجه لأيام قليلة جداً بسبب ذلك الاشتباك الذي قرأتم عنه. نعم، يروق لي هذا “الفدّان” الذي يتباهى بإطلاق الرصاص وهو يمسك ويصوّب البارودة بيد واحدة. وأيضاً وهو يفعل هذا متباهياً بعودته، وبإفلاته من العقاب رغم مهاجمته دورية للأمن الجنائي، ثم بيتاً لأحد أبناء الوحش، بالصواريخ والرشاشات.
إنه وحش حقيقي بلا تصنّع، وحش حرّ من متطلبات السلطة العليا، تلك السلطة التي تجبر صاحبها على أن يتحسب لصورته أمام الآخرين. لقد قضيت حياتي وأنا أصنع صورتي كما تعرفونها، وكما كلّفت آخرين بصناعتها والترويج لها، وكما تبرّع كثر منكم باختراعها معي. كنت حبيس تلك الصورة، بعكس رفعت مثلاً الذي لم يأبه منذ البداية بأن تكون له سيرة مصفّاة ومنتقاة مثلي.
مع ذلك، لا يمكن تشبيه رفعت بسليمان ابن هلال؛ رفعت كان يفكر كقائد. هو لم يحمل رشاشه وينزل ليقتل به أحد، اكتفى بالقيادة عن بعد. لا يجوز بالتأكيد تشبيه مجزرة تدمر بقتل ضابط بسبب الخلاف على أولوية المرور؛ الأولى من مقتضيات القيادة والدولة، الثانية ممارسة للسطوة يقوم بها قبضاي من العائلة بعيداً عن شؤون الحكم. رفعت كان يلعبها، ويظهر نفسه من لحم ودم بالمقارنة مع صورتي التي تشبه تمثالاً من شمع، وكان ذلك يغيظني وأخشى منه أحياناً.
لحسن الحظ كان هناك جميل أيضاً، تأخرتم طويلاً حتى انتبهتم إلى هذا الشقيق. هناك أيضاً أولاد لأخوتي غير الأشقاء، غير أن القصص التي تُروى عن جميل كانت تستهويني أكثر. أول ما أحببته فيه أنه لم يكن يرغب في مغادرة اللاذقية والمجيء للعيش في الشام، ليتسلم فيها أي منصب، وكان ذلك له لو شاء، وما كنت أمنع عنه منصباً يدرّ عليه أرباحاً ضخمة مثل إدارة مؤسسة التبغ، أو أمنعه عن إنشاء وترؤس لواء خاص في الجيش.
أحياناً يفعل البعض ما هو صواب، من دون أن يكون لهم ذكاء كافٍ.
هكذا حال جميل عندما اختار البقاء في اللاذقية، وقرر أن يبسط سطوته في الساحل زاهداً في العاصمة.
الآن، تخيّلوا معي لو غادر كل أبناء عائلة الوحش الساحل إلى الشام، ما الذي سيحدث؟ من الذي سيتحكم بالناس هناك؟ وكيف سيشعرون بقوة العائلة وجبروتها، إذا لم من أحد أمامهم يخشون بطشه؟
في أماكن قصية، يستطيع مساعد في المخابرات ترهيب الناس، أما في الساحل فالأمر مختلف تماماً، ولا أحد يكسّر الرؤوس إن لم يكن من آل الوحش. لا أحد ينتقم لي، كما يجب، من القرداحة واللاذقية وسواهما سوى شخص أهتر من العائلة. هل فاجأتكم بحديثي عن الانتقام؟ أكره في القرداحة وفي جبلة تلك العائلات التي تعيش على أمجاد ماضيها كعائلات عريقة كبيرة، وينظر أفرادها إلى الآخرين باستعلاء، إن لم يكن مباشرة فبإظهار تواضع كاذب. وأتحدث عن الانتقام من اللاذقية التي لا تعرفونها في منتصف الأربعينات حتى بداية الخمسينات، عندما كان ريفي مثلي يشعر فيها بالغربة والدونية. أيامها، مع أول انقلاب في البلد، رحت أفكر في أن أكون ضابطاً لأجبر الآخرين على احترامي.
يروق لي ما فعله جميل ثم أولاده، وما فعله أو يفعله أي “أهتر” من العائلة. السلطة ليست فقط في أن تقهر معارضيك وأعداءك، السلطة هي في أن تقهر أولئك الصامتين على مضض، ومؤيديك أيضاً. أن يخاف هؤلاء جميعاً حتى من ولد صغير أزعر من أولاد العائلة؛ هذا يعني الخوف الأكبر مني.
لندعْ جانباً تلك الكذبة عن أنني لا أعرف ما يفعل هؤلاء، فالجميع يعلم أنني على اطلاع بكل ما يحدث، وأنني كنت أنا من يفلت هذه الضباع، ومَن يلجمها قليلاً، وفي بعض الأحيان فقط. دعكم مثلاً مما أشيع عن إبعادي جميل إلى فرنسا مثل رفعت، فقد كانت عقوبة قصيرة يحتاج وقتاً منها للعلاج، سمحت له بعدها بالعودة واستعادة السيطرة شخصياً على الموانئ. بل إنه جمع المخلصين الجمركيين، ووبخهم لظنهم أنهم تخلصوا من الأتاوات التي كان فرضها عليهم، وتقاضاها منهم مجدداً مع الفوائد.
لنعدْ إلى الطرافة، وتذكّروا معي “الأستاذ” جميل كما كان يُحبّ أن يُنادى، وتذكّروا “الأستاذ” فواز. أليس مضحكاً أن تُضطر إلى مناداة شخص يسطو على بضاعتك في الميناء بالأستاذ، وأن تستمع إلى رده الركيك، بل أن تضحك معه وهو يطلق ما يظن أنها سخرية منك؟ أليس رائعاً أن تنتشر هذه الطرائف بين الناس، وأن يضحكوا من اجتماع السطوة مع قلة الذكاء والفجاجة؟ يروق لي هذا الولد الأهتر، الذي بدأت حديثي به، لأنه يستأنف ما يجب ألا ينقطع. دائماً ينبغي أن يخرج من العائلة واحد على الأقل؛ متسلط، ركيك، شبه أمي ويتفاخر بحصوله على شهادات عليا؛ واحد قد يقتل ذبابة على الحائط بقذيفة آر بي جي. هل من إهانة أكبر من وجود مثل هذا الشخص؟ هذا الذي تهابه وأنت تضحك من تفاهته، فتشعر بنفسك صغيراً جداً. وأين؟ في المكان الذي يتواجد فيه الأكثر مغالاة من موالاتي!
لطالما قلت لنفسي أن القدر أكرمني بأولاد شاع أنهم عقلاء بالمقارنة مع أبناء عمومتهم، رغم عدم ثقتي بهم كلهم. وكنت، كما يحدث للجميع، أُسرّ بالإطراء حين تُستبعد المقارنة كليةً بين اتزاني ورجاحة عقلي وبيت تهور رفعت وركاكة جميل. بل إنها ضربة حظ كبرى أن تُمتدح بالمقارنة مع الأسوأ، وأن يحقق لك مرادك بأفعاله. ربما أتحدث من زمن آخر، زمن غابر بمعاييره، زمن لم يكن فيه الأهتر الصغير صغيراً بالمقارنة مع الأهتر الأكبر.
الحق أنه يروق لي أكثر وهو على سجيته، يخطئ فيكتب “مذيف” وهو يقصد “مزيَّف”، يكتب “عرفو” وهو يقصد “اعرفوا” و”حكو” بدل “احكوا”. صحيح أن هذه الأخطاء لا تليق بدارس الاقتصاد في جامعة تشرين، لكن فيها عفوية محببة، وفيها طرافة تضحك وتُدخل السرور إلى النفس. تخيّلوا معي هذا العالم بلا أشخاص مثله، بل تخيلوا لو أن عائلتنا، عائلة الوحش، خالية من أمثاله؛ كم سيكون ذلك مملاً. ثم إنه يروق لي وهو يمسك البارودة، ويطلق النار، بيد واحدة معلناً عودته إلى البلد بعد خروجه لأيام قليلة جداً بسبب ذلك الاشتباك الذي قرأتم عنه. نعم، يروق لي هذا “الفدّان” الذي يتباهى بإطلاق الرصاص وهو يمسك ويصوّب البارودة بيد واحدة. وأيضاً وهو يفعل هذا متباهياً بعودته، وبإفلاته من العقاب رغم مهاجمته دورية للأمن الجنائي، ثم بيتاً لأحد أبناء الوحش، بالصواريخ والرشاشات.
إنه وحش حقيقي بلا تصنّع، وحش حرّ من متطلبات السلطة العليا، تلك السلطة التي تجبر صاحبها على أن يتحسب لصورته أمام الآخرين. لقد قضيت حياتي وأنا أصنع صورتي كما تعرفونها، وكما كلّفت آخرين بصناعتها والترويج لها، وكما تبرّع كثر منكم باختراعها معي. كنت حبيس تلك الصورة، بعكس رفعت مثلاً الذي لم يأبه منذ البداية بأن تكون له سيرة مصفّاة ومنتقاة مثلي.
مع ذلك، لا يمكن تشبيه رفعت بسليمان ابن هلال؛ رفعت كان يفكر كقائد. هو لم يحمل رشاشه وينزل ليقتل به أحد، اكتفى بالقيادة عن بعد. لا يجوز بالتأكيد تشبيه مجزرة تدمر بقتل ضابط بسبب الخلاف على أولوية المرور؛ الأولى من مقتضيات القيادة والدولة، الثانية ممارسة للسطوة يقوم بها قبضاي من العائلة بعيداً عن شؤون الحكم. رفعت كان يلعبها، ويظهر نفسه من لحم ودم بالمقارنة مع صورتي التي تشبه تمثالاً من شمع، وكان ذلك يغيظني وأخشى منه أحياناً.
لحسن الحظ كان هناك جميل أيضاً، تأخرتم طويلاً حتى انتبهتم إلى هذا الشقيق. هناك أيضاً أولاد لأخوتي غير الأشقاء، غير أن القصص التي تُروى عن جميل كانت تستهويني أكثر. أول ما أحببته فيه أنه لم يكن يرغب في مغادرة اللاذقية والمجيء للعيش في الشام، ليتسلم فيها أي منصب، وكان ذلك له لو شاء، وما كنت أمنع عنه منصباً يدرّ عليه أرباحاً ضخمة مثل إدارة مؤسسة التبغ، أو أمنعه عن إنشاء وترؤس لواء خاص في الجيش.
أحياناً يفعل البعض ما هو صواب، من دون أن يكون لهم ذكاء كافٍ.
هكذا حال جميل عندما اختار البقاء في اللاذقية، وقرر أن يبسط سطوته في الساحل زاهداً في العاصمة.
الآن، تخيّلوا معي لو غادر كل أبناء عائلة الوحش الساحل إلى الشام، ما الذي سيحدث؟ من الذي سيتحكم بالناس هناك؟ وكيف سيشعرون بقوة العائلة وجبروتها، إذا لم من أحد أمامهم يخشون بطشه؟
في أماكن قصية، يستطيع مساعد في المخابرات ترهيب الناس، أما في الساحل فالأمر مختلف تماماً، ولا أحد يكسّر الرؤوس إن لم يكن من آل الوحش. لا أحد ينتقم لي، كما يجب، من القرداحة واللاذقية وسواهما سوى شخص أهتر من العائلة. هل فاجأتكم بحديثي عن الانتقام؟ أكره في القرداحة وفي جبلة تلك العائلات التي تعيش على أمجاد ماضيها كعائلات عريقة كبيرة، وينظر أفرادها إلى الآخرين باستعلاء، إن لم يكن مباشرة فبإظهار تواضع كاذب. وأتحدث عن الانتقام من اللاذقية التي لا تعرفونها في منتصف الأربعينات حتى بداية الخمسينات، عندما كان ريفي مثلي يشعر فيها بالغربة والدونية. أيامها، مع أول انقلاب في البلد، رحت أفكر في أن أكون ضابطاً لأجبر الآخرين على احترامي.
يروق لي ما فعله جميل ثم أولاده، وما فعله أو يفعله أي “أهتر” من العائلة. السلطة ليست فقط في أن تقهر معارضيك وأعداءك، السلطة هي في أن تقهر أولئك الصامتين على مضض، ومؤيديك أيضاً. أن يخاف هؤلاء جميعاً حتى من ولد صغير أزعر من أولاد العائلة؛ هذا يعني الخوف الأكبر مني.
لندعْ جانباً تلك الكذبة عن أنني لا أعرف ما يفعل هؤلاء، فالجميع يعلم أنني على اطلاع بكل ما يحدث، وأنني كنت أنا من يفلت هذه الضباع، ومَن يلجمها قليلاً، وفي بعض الأحيان فقط. دعكم مثلاً مما أشيع عن إبعادي جميل إلى فرنسا مثل رفعت، فقد كانت عقوبة قصيرة يحتاج وقتاً منها للعلاج، سمحت له بعدها بالعودة واستعادة السيطرة شخصياً على الموانئ. بل إنه جمع المخلصين الجمركيين، ووبخهم لظنهم أنهم تخلصوا من الأتاوات التي كان فرضها عليهم، وتقاضاها منهم مجدداً مع الفوائد.
لنعدْ إلى الطرافة، وتذكّروا معي “الأستاذ” جميل كما كان يُحبّ أن يُنادى، وتذكّروا “الأستاذ” فواز. أليس مضحكاً أن تُضطر إلى مناداة شخص يسطو على بضاعتك في الميناء بالأستاذ، وأن تستمع إلى رده الركيك، بل أن تضحك معه وهو يطلق ما يظن أنها سخرية منك؟ أليس رائعاً أن تنتشر هذه الطرائف بين الناس، وأن يضحكوا من اجتماع السطوة مع قلة الذكاء والفجاجة؟ يروق لي هذا الولد الأهتر، الذي بدأت حديثي به، لأنه يستأنف ما يجب ألا ينقطع. دائماً ينبغي أن يخرج من العائلة واحد على الأقل؛ متسلط، ركيك، شبه أمي ويتفاخر بحصوله على شهادات عليا؛ واحد قد يقتل ذبابة على الحائط بقذيفة آر بي جي. هل من إهانة أكبر من وجود مثل هذا الشخص؟ هذا الذي تهابه وأنت تضحك من تفاهته، فتشعر بنفسك صغيراً جداً. وأين؟ في المكان الذي يتواجد فيه الأكثر مغالاة من موالاتي!
لطالما قلت لنفسي أن القدر أكرمني بأولاد شاع أنهم عقلاء بالمقارنة مع أبناء عمومتهم، رغم عدم ثقتي بهم كلهم. وكنت، كما يحدث للجميع، أُسرّ بالإطراء حين تُستبعد المقارنة كليةً بين اتزاني ورجاحة عقلي وبيت تهور رفعت وركاكة جميل. بل إنها ضربة حظ كبرى أن تُمتدح بالمقارنة مع الأسوأ، وأن يحقق لك مرادك بأفعاله. ربما أتحدث من زمن آخر، زمن غابر بمعاييره، زمن لم يكن فيه الأهتر الصغير صغيراً بالمقارنة مع الأهتر الأكبر.