نظرا للصعوبات الاقتصادية التي رافقت الجائحة وأعقبتها اضطررنا لإيقاف أقسام اللغات الأجنبية على أمل ان تعود لاحقا بعد ان تتغير الظروف

الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بخمس لغات عالمية
الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بأربع لغات عالمية
Rss
Facebook
Twitter
App Store
Mobile



عيون المقالات

المهمة الفاشلة لهوكستين

23/11/2024 - حازم الأمين

العالم والشرق الأوسط بعد فوز ترامب

17/11/2024 - العميد الركن مصطفى الشيخ

إنّه سلام ما بعده سلام!

17/11/2024 - سمير التقي

( ألم يحنِ الوقتُ لنفهم الدرس؟ )

13/11/2024 - عبد الباسط سيدا*

طرابلس "المضطهدة" بين زمنين

13/11/2024 - د.محيي الدين اللاذقاني

اليونيسيف ومافيا آل كابوني دمشق

12/11/2024 - عبد الناصر حوشان


النسوية الدينية من التصوف إلى الأدلجة (القبيسيات نموذجاً)




 

الحفر عميقاً في أخاديد التراث الإسلامي، وتحديداً في المدوّنات الفقهية، يُظهر أن قضية النساء في الإسلام تنتمي إلى المفاهيم القلقة التي لم تتوصل التيارات الإسلامية إلى الحسم في إشكالياتها، والتي أثّرت على وضعية المرأة في الممارسة السياسية والاجتماعية، فواظبت على اعتماد إشارات هذا التراث هدياً ونبراساً لها في ما يخصّ وجودها. وقد أعطت التيارات الصوفية للنساء هوامش للمشاركة في السعيين الروحي والاجتماعي، لكن هذا السعي لم يتحول لنضال مهم للنساء يكتسبن من خلاله الوعي بالطرق التي يمكن للروحانية أن تدعم بها البحث النسوي عن المساواة الاجتماعية، وقد وصل في بعض البلدان حدّ الانتظام المؤسساتي الديني النسوي كحركة القبيسيات المنبثقة من رحم الصوفية المنشرة في سوريا.


استكمالاً لما جرى طرحه في الجزء الأول من الدراسة الحركات النسوية الدينية (جهاد الجندر) فإن هذا الجزء سيركّز على حركة القبيسيات المنتشرة في سوريا.

مسار البحث

  • مدخل
  • النسوية الدينية من الصوفية إلى الأدلجة (القبيسيات)
  • القبيسيات
    • التأسيس والانتشار داخل سوريا
    • من الظلّ إلى الضوء
    • القبيسيات بين الجدل الديني والسياسي
  • المشكلات المستقبلية للنسوية الإسلامية ومأسسة العمل الديني الدعوي
  • خاتمة

مدخل

انتظمت النساء منذ أقدم العصور في جماعات، استهدفن من تشكيلها أغراضاً سياسية في مختلف أرجاء العالم، كجماعات الاحتجاج على الحروب، والتوسط لحلّ النزاعات، وزيادة حركات السلام. وطيلة القرن العشرين بادرت النساء إلى تشكيل جماعات نسوية في كافة دول العالم، لكنها بقيت في المشرق العربي مجرد كائنات ظلالية صامتة، مثقلة بحمل من التقاليد والعادات والمفاهيم الدينية القامعة وبعيدة عن الإرادة الحرة. فنقاط الضعف البنيوية التي سادت عمل منظمات المجتمع المدني وحركات التحرر النسوية، أنتجت فراغاً هائلاً، تم سدّه بنموذج راديكالي جديد يدور في فضاء الحركة المناهضة للأفكار الغربية في قضية تحرر النساء، ليصنع عالماً نسوياً ينطلق من هوامش الممكن في مشاركة النساء الروحية الذي أسست له الطرق الصوفية ليتحول في بعض أوجهه من جماعة صوفية إلى تنظيم نسائي متطرف، لا يغوص عميقاً في السعي الروحي التأملي ولا يدخل في صنع تغييرات لأوضاع النساء وثقافتهن، بل صنعن في العالم الدعوي قصور حرملك أو “مشيخية” نسائية ترفع أسوارها بين الجنسين بحيث يتعذر على الرجل أن يتجول “معرفياً” في عالم الآنسات، اللاتي تعددت أسماؤهن(القبيسّيات، السّحريات، الطّباعيات، بنات البيادر..) نسبة إلى “الآنسة” المؤسسة، ووصل مدّهن من سوريا ولبنان والأردن والكويت ومصر إلى أوروبا وأميركا وأستراليا وغيرها.

النسوية الدينية من التصوف إلى الأدلجة (القبيسيات نموذجاً)

منذ انهيار نظام الخلافة الراشدة اختلفت التصوّرات والقيم حول وضع المرأة ودورها الاجتماعي في تجاهات التديّن الإسلامي. وإذا كانت التوجهات الفقهيّة قد أبقت المرأة غائبة عن المشاركة في قراءة النص الديني بذاتها معتمدة على الاحتكار الذكوري للنسق الفقهي وموضوعاً للتفسير والبحث، فإنّه في حقل التديّن الصوفي، كان للمرأة موقعاً متميّزاً عمّا هي عليه لدى أنساق التديّن الأخرى، رغم وجود رؤى متناقضة ومتضاربة بين أشكال المعرفة الصوفية واختلافات واسعة حول صورة المرأة بين هذه الرؤى.

فصورة المرأة في التصوّف الفلسفي تختلف عنها في التصوّف الأخلاقي. في الأول، يُنظَر للمرأة باعتبارها مبدأ الحياة الإنسانية كلها، وبالنسبة لابن عربي، أبرز رموز هذا التيار، فإن العلاقة بالمرأة تمثّل تجديداً للعلاقة مع الألوهية والطبيعة “وكل مكان لا يؤنَّث، لا يُعوَّل عليه” (1).

وبعيداً عن الخوض في اختلاف الرؤى الصوفية والإسلامية ككل تجاه المرأة، سيجري التركيز على التصوّف باعتباره السردية التي تتبناها ما بعد البنيوية والحركة النسوية في حربها ضد السلطة الأبوية بكل أشكالها بهدف تفكيكها، بحيث “يتفككون جميعهم ويذوبون في كيان سديمي واحد بلا معالم ولا قسمات”(2)، وقد وجدت الحركة النسوية في التصوّف و”وحدة الوجود” ما يشكل صياغة أنثوية للوجود وحيازة موقع لها في نسق الولاية والصلاح.  فهذا النمط التديني أعطاها طريقاً للخلاص الأنثوي، وفتح لها المجال لتثبت ذاتها وتتحرر من الدور التقليدي الذي فرض عليها نتيجة ما اتسم به الفقه في العصر الوسيط بإعطائه للمرأة صورة متراجعة عن الصورة والمكانة التي جاء بها الإسلام، فعُدّت المرأة ناقصة عقل ودين. وعمل بعض الفقهاء على إعطاء شرعية دينية لدونية المرأة بالنسبة للرجل، عبر تأويلات مجحفة وضيّقة للنص القرآني، وعلى إثر ذلك اختارت المرأة سبيلاً آخر وهو التواصل المباشر مع الله من خلال التجربة الفردية الخالصة والبعيدة عن حراس التقليد الإسلامي الرسمي والمؤسسات القائمة على الشأن الديني، التي يمثّلها التصوّف (3).

تجربة التصوّف النسوي لم تعد تقتصر على بعدها الروحي والاتصال مع الله فزمن “رابعة العدوية” انتهى، ووجود الشيخات والمريدات شكل أساساً لحركات نسوية تقترب حيناً وتبتعد حيناً عن التصورات والمفاهيم الصوفية الشائعة، وقد أخذت أكثر تجلياتها المؤدلجة مع تنظيم القبيسيات وأخواته.
القبيسيات

ظهر تنظيم القبيسيات من رحم التصوّف والبنية السوسيو- ثقافية للدولة السورية. حيث نظام المشيخة وعلائقها ونشاطاتها متجذّرة تاريخياً في المجتمع السوري الحاضن للعديد من النشاطات الدينية الدعوية، وتعتبر الدروس الدينية والموالد النبوية والاحتفالات الدينية الأخرى من خواص الأسر السورية المحافظة.

تنظيم القبيسيات امتد إلى خارج سوريا عن طريق “الآنسات” اللاتي انتشرن واستطعن تأسيس جمعيات خاصة بهن، فبرزت”السَحَريات” في لبنان نسبة إلى سحر حلبي، وفي الأردن “الطباعيات” نسبة إلى فادية الطباع، وفي الكويت أسست أميرة جبريل، أخت أحمد جبريل، الأَمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين- القيادة العامة، جمعية “بيادر السّلام” وتعدّ أشهر جمعية خيرية نسائية لتحفيظ القرآن والسنّة وتدريس العلوم الشّرعية وإقامة الأسواق الخيرية، وهذه التّسميات على اختلافها تصدر من خارج الجّماعة، لأن أعضائها لا يسمونها بأي تسمية.

تميّزت الجّماعة بأنها جماعة نخبوية، وأغلب منتسباتها على درجة عالية من الثقافة والعلم، وهذا شرط تشترطه “الآنسة القبيسي” لكل مريدة، وتعتمد في التّثقيف مجموعة من الكتب مثل “عقيدة التّوحيد من الكتاب والسنّة” للآنسة سعاد ميبر، و”الجامع في السيرة النبوية” للدكتورة سميرة الزايد، إضافة لكتب فقه العبادات التي تدرّس حسب اختلاف المنطقة والولاء، ففي دمشق ولبنان يُدرس الفقه الشافعي (فقه العبادات على المذهب الشافعي تأليف الحاجّة درية العيطة)، وفي حلب الفقه الحنفي (فقه العبادات على المذهب الحنفي تأليف الحاجة نجاح الحلبي) وفي السعودية الفقه الحنبلي ( فقه العبادات على المذهب الحنبلي تأليف الحاجّة سعاد زرزور)، وفي الكويت الفقه المالكي (فقه العبادات على المذهب المالكي تأليف الحاجّة كوكب عبيد)(4)

  • التأسيس والانتشار داخل سوريا

منذ ستينيات القرن الماضي تم تداول اسم “القبيسيات” لدى بعض الأُسر السورية عن طريق مؤسِّسة الجماعة وشيختها الكبيرة  “منيرة القبيسي” خريجة كلية الشّريعة، التي تتلمذت على يد الشيخ “أحمد كفتارو” مفتي سوريا عام 1964 ذي الميول الصوفية النقشبندية، والشيخ “محمد سعيد البوطي” عميد كلية الشّريعة سنة 1977، الذي عُرف كمفكر وصاحب دراسات أكثر مما هو متصوّف أو صاحب طريقة.

تمتاز الطريقة الكفتارية بحضور قوي بين الطبقات الشعبية والوسطى في دمشق، بالإضافة إلى الطبقة البرجوازية الجديدة التي تشكلت مع الامتيازات الاقتصادية المكتسبة عن طريق العلاقات الشخصية مع جهاز الدولة في نموذج الإسلام الرسمي، وكان جزءاً من مسار الطريقة النقشبندية الكفتارية. فالتآلف البراغماتي السياسي الذي ساد سوريا بعد حكم حزب البعث أسس لحلف مقدس بين طبقة البرجوازية السنية والإسلام المعتدل والسلطة(5)

في هذا السياق انتعشت حركة “القبيسيات” معتمدة على النشأة المترفة والعلاقات الجيدة مع العائلات الدمشقية المخملية، وتقرّبت لزيادة نفوذها من الجماعات الإسلامية الدعوية في سوريا، مثل معهد الفتح للآنسة سعاد ميبر، وجماعة زيد الدينية الدعوية للشيخ عبد الكريم الرفاعي، وجماعة بدر الدين الحسني، الذي ساهم في تأسيس  الجمعية الغرّاء عام 1924 برئاسة محمد هاشم الخطيب الحسيني.

لاقت جماعة القبيسيات رواجاً كبيراً بسبب إدارتها للمدارس الدينية، حيث ظهرت في تلك الفترة بعض المدارس التي تسيطر عليها فكرياً حركات دينية متنوعة لاستقطاب الفتيات في فعاليات اجتماعية خارج الإطار المدرسي، كمعهد “السيدة رقيّة” الشيعي الذي يُعتبر مرجعية لعدد من المدارس والمعاهد التي تقوم بالتبشير وجمع الأنصار.

حققت المدارس الإسلامية للأطفال برعاية “الآنسات” القبيسيات نجاحاً كبيراً وجذبت إليها الكثير من الفتيات، بسبب ما تقدمه من تربية مدروسة ومتقنة ضمن إطار الاسلوب النظري الإلقائي، البعيد نسبياً عن العلوم التطبيقية أو النشاطات الاجتماعية التربوية أو التكنولوجيا الحديثة. ولاقت مدارس الآنسات مثل “دار النعيم”، و”دار المجد”، التي يتم فيها تخصيص دروس إضافية لتعليم الدين، رواجاً كبيراً في الأوساط الدمشقية لما اشتهرت به من اهتمام بالدين وتحفيظ القرآن لكافة الأعمار إضافة للعلم “الدنيوي” بشكل بسيط،  وللنشاطات المتنوعة الأخرى كالمخيمات الصيفية وغيرها، ولأن ريعها يعود لأعمال خيرية حسبما أشاعت نساؤها، وهو ما زاد انتشارهن وبحسب تقدير 2006 بلغت مدارسهن في دمشق وأحيائها 80 مدرسة، تديرها أكثر من 75 ألف مربية(6) إضافة إلى إقامة منظمات خيرية لمساعدة الفقراء والمساهمة في تزويج شباب المسلمين.

  • من الظلّ إلى الضوء

بقي تنظيم القبيسيات خارج الضوء طوال عقود، إلى أن بدأت التيارات السلفية (في الكويت والأردن) وجماعة الأحباش(في لبنان) الهجوم عليه، ثم تحول جزءاً من واقع المجتمع السوري بعد ازدياد انتشارهن وتأثيرهن ونفوذهن الاقتصادي، وبدأت الصحافة تتناول الجماعة بطريقة لا تخلو من الإرباك والدخول في حيّز الشائعات أكثر من الدراسة المتعمقة، نتيجة قلّة المصادر الموثقة حول هذا التنظيم الذي تمّ ترخيصه وسمح له بالعمل العلني عام 2006، شرط أن تنقل حلقات التدريس والاجتماعات السرّية من بيوت الآنسات إلى المساجد العامة لوضعها تحت إشراف النظام، ليزداد تمدداً وتمكّناً كأقوى تيار نسوي خصوصاً في دمشق مكان إقامة “الآنسة الأم”، وفي حمص كمدينة ثانية في الانتشار، حيث بلغ عدد أتباعها أكثر من 175 ألف امرأة. وتشير التقديرات إلى أن “حلقات” الجماعة تضم نحو 25 ألف امرأة وفتاة في دمشق وضواحيها، وباتت الجماعة تسيطر على أكثر من 40 مسجداً في دمشق وريفها، وهذا يجعلها كبرى الجماعات الإسلامية في سوريا (7).

ويرجع سبب انتشارهن لعدة أسباب منها

  1. أسباب أنتجتها التركيبة السياسية في سوريا خصوصاً بعد أحداث حماه وتوجّه النظام نحو علاقات استيعابية بدلاً من التدابير العلمانية العدوانية، حيث تمّ كبت وإحكام القبضة الحديدية على المعارضة الإسلامية وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين في مقابل رعاية البعض الآخر على نحو مُترّوٍ، التي نالت قسطاً من الامتيازات الاجتماعية مقابل استخدامهم كداعمين للمشاريع السياسية والاجتماعية لتكوين قاعدة اجتماعية، ومنها الطريق الكفتارية وجماعة القبيسيات كامتداد نسوي.
  2. أسباب أنتجها الانزياح الواضح في الوسط السني من تبنّي مشروع سياسي واجتماعي صريح يهدف لانتزاع السلطة إلى تكثيف مظاهر التديّن والتقوى الفردية في المشهد العام، مثل زيارة المساجد وارتداء الحجاب كممارسات فردية، وحراك اجتماعي له صلات قوية بالتصوّف، بهدف الوصول إلى مجتمع إسلامي يأتي نتيجة تراكم التربية الأخلاقية للفرد، ما جعل القبيسيات يلقين دعماً واهتماماً كبيراً في الوسط السني نتيجة طريقة دعوتهم المعتمدة على المثقفات والميسورات، وابتعادهن عن التيارات السياسية والاهتمام بالدعوة الدينية والتركيز على الجانب الروحي في الإسلام دون إهمال الجانب العلمي.
  3. حالة الضياع لدى المراهقات فتنوب “الآنسة” عن الصديقة والأم في حلّ مشاكلها وسدّ الفراغ الروحي “العرابة”. وتكون الطاعة الأكبر للآنسة الأم “القبيسي” أعلى مرتبة دينية في هرم الجماعة التنظيمي، وهي من تعطي العلم الشرعي، ما يمنحها صفة التقديس المبالغ فيه إلى حدّ التأليه، فهي الوسيط لدى المريدات، والطريق للوصول إلى الله (8). وتعمل “الحَجَّات” كمرجعية نهائية تدير الجماعة وحلقاتها، وتنظّم أمور الآنسات المسؤولات عن توجيه المريدات، بدءاً من ارتداء المريدة “الإيشارب” المنديل الأبيض، ثم “الإيشارب” الأزرق الغامق للآنسات، إلى السّماح بالزّواج أو منعه. “على الطالبات إخبار آنساتهن بكل ما يجري معهنَّ.. لأننا هنا في مستشفى إيماني والمريض في المستشفى يجب أن يُطلع طبيبه على كل شيء ليتداركه” قاعدة قبيسية (9).
  4. اعتماد التنظيم على النخبوية الثقافية والاجتماعية أكسبه حجة اجتماعية للانتشار والتأهيل للدعوة انطلاقاً من نساء الطبقة المخملية للوصول إلى نساء الطبقات المختلفة. فنساء هذا التنظيم حافظات لكتاب الله، وتواكبن الحضارة الدنيوية بكل أبعادها من قيادة سيارة إلى إتقان التعامل مع التقنيات العصرية، ما يجعل منهن قدوة للكثيرات في الوسط الإسلامي حتى من غير المريدات.
القبيسيات بين الجدل الديني والسياسي

اختلفت التحليلات والتصورات حول هذا الوجه النسائي الدعوي، وذلك لما يلفّ هذه الجماعة من السرية والانعزال “التقية”، ماجعلها تتعرض من قبل بعض السلفيين والمعتدلين إضافة للعلمانيين لانتقادات وشكوك حول عقيدتها وأفكارها، وصلت حدّ الاتهام بممارستهن لسلوكيات وتصورات خاصة للإسلام بحرص وسرية وانعزال، وممارسة السحر وتحضير الجنّ، وأكثر الاتهامات رواجاً اعتبارهن طائفة صوفية متطرّفة وذلك لشهرتهن بكثرة الأذكار والموالد والإنشاد والضرب بالدفّ.

وفي خضم هذا الجدل ذهب بعض المفكرين على غرار د. محمد شحرور إلى حدّ القول بأن القبيسيات “شبكة تخترق صانعي القرار في سوريا وتسعى إلى إقامة دولة إسلامية على غرار “دولة طالبان”(10)  

لكن د. محمد حبش أستاذ الدراسات الإسلامية في جامعة أبو ظبي حالياً، يؤكد على أن القبيسيات هنّ “صورة دقيقة للمجتمع السوري المحافظ، الدمشقي خاصة، وأن مبادئهن وأفكارهن ليست إلا خطاب المشايخ التقليديين المستمر في اتجاه الخضوع للسلطان منذ خمسين عاماً ولا زال”(11)

وقد أُخذ عليهن حالة الترهّب والعزوف عن الزواج وأن كثيرات منهن مطلّقات، وهذه ليست مصادفة، مع عدم وجود رهبانية في الإسلام، إلا أنه يمكن ردّها إلى تحريم التفكير بالرجل والزواج والجنس، وطريقة اللباس والاستغناء عن الأنوثة، ما يعتبر تطرّف جديد يسير عكس الفطرة الطبيعية البشرية. التي يمكن أن تجد تفسيرها في بواطن الصوفية القديمة وغاية الصوفي في اختراق حواجز الزمن والتاريخ للوصول إلى منطقة الخلود واللازمن، والتي تختلف عن تجربة النساء مع ذواتهن ومع المجتمع والتاريخ التي تأخذ دوائر ومسارات مغايرة، فإن النساء في رحلاتهن الروحية قد يبغين الالتحام مع ذاتهن وعقد تصالح مع الكون، وأن يندمجن مع المجتمع عن طريق تحقيق قدر كبير من الأتباع والمريدات(12).

“الدعوة إلى الله ليست حكراً على الرجل فالمرأة أيضاً تستطيع أن تجد معراجاً لروحها التوّاقة للمغفرة وهي ،كما الرجل، تستطيع أن تسهم في تحرير أرواح شقيقاتها من ربقة الذنوب والولوج إلى بوابة المغفرة” (13).

واجهت القبيسيات الكثير من النقد السياسي نتيجة الولاء المطلق للنظام، فما عُرف عن أصحاب الطُرق الصوفية بديهية الاستنكاف عن أي مظهر من مظاهر السلطة، لصالح نظرة زهديّة شاملة لا ترى السياسة وعلائقها الدنيوية إلا شكلاً من أشكال الخروج عن الدائرة الأنطولوجية للفرد الصوفيّ السالك طريق “الحق”، إلا أن هذه القاعدة لا تنطبق على سوريا فحدود التأثير والتأثر مباشرة بالأحوال السياسية لجهة الانخراط الهامشي أو المساهمة في تجيير بيئة معينة نفسياً ومادياً لمصلحة السلطة قد طالت معظم التيارات التي جرى استيعابها داخل شبكة الإسلام الرسمي ومنظومة الرعاية السلطوية(14)

وبدا واضحاً انتقال القبيسيات للعمل السياسي أثناء الحراك السوري، حيث وقفن بمعظمهن إلى جانب النظام، وشاركت “القبيسيات” في حملة ترويج للرئيس في العام 2014، وجرى احتفال كبير ضمّ أكثر من 4000 إمرأة، دعت فيها “الآنسات” الكبار للوقوف معه (15) ورغم رفض الآنسة “القبيسي” ترشّح إحدى القبيسيات في 2007 لمجلس الشعب كي لا يُتهم التنظيم بممارسة العمل السياسي، إلا أن انتقالهن الحالي للعمل السياسي بات واضحاً، ويصبّ في صالح النظام، وقد وصلت إحدى المريدات “فرح حمشو” قريبة رجل الأعمال الشهير محمد حمشو إلى مجلس الشعب (16)

وكانت أولى مطالبها منع الاختلاط بين الذكور والإناث في المدارس، متجاهلة أن سوريا عرفت النوعين من المدارس أي أن الخيار الشعبي موجود، ولا داعي لفرض منع الاختلاط في المدارس طالما يعمّ كافة مناحي الحياة الاجتماعية، ويساهم في الانفتاح الفكري والتوازن لدى الجنسين.

كما تسلّمت الداعية “سلمى عياش” منصب معاون وزير الأوقاف في سوريا، وذلك في ربيع عام 2014(17) ومع ازدياد الضجيج حول القبيسيات وتمددهم في مفاصل المجتمع ووزارة الأوقاف السورية تحت مسمى“معلمات القرآن الكريم”، أنكر النظام وجود هذا التيار النسوي، الذي أشاد سابقاً بوقوفه معه ومساندته له، وقد أصدرت وزارة الأوقاف بياناً بتاريخ 21 أيار/مايو 2018  “أنه لا وجود لتنظيم اسمه القبيسيات، وإنما توجد حالياً معلمات القرآن الكريم، مهمتهن تحفيظ القرآن وتفسيره، ويعملن فقط في المساجد وبتراخيص ممنوحة من الوزارة “(18)، ولكن هذا النكران لا يلغي تمكّن التنظيم من اختراق المجتمع عبر الموازنة بين الأيديولوجية وسياسة الولاء للسلطة، وإن انتظامهن في صفوف المؤسسة الدينية جعل ظهور “القبيسيات” على القنوات الإعلامية السورية أمراً اعتيادياً، على عكس ما كنّ يبدينه قبل بداية الثورة، من أن “صوت المرأة عورة” ولا يجب على أحد أن يسمعه، وأنها لا يجب أن تشارك في السياسة، إضافة إلى أنه سيسمح لهن بالمشاركة في صنع القرار على صعيد تحديد المناهج الدينية في المساجد والنشاط فيها على حد قول أسماء كفتارو، حفيدة مفتي الجمهورية السابق أحمد كفتارو(19).

وتجدر الإشارة إلى أن المتغيرات التي حدثت في سوريا خلال السنوات السابقة، أدت إلى انكماش نشاطهن الدعوي، فازدياد العنف من قبل النظام أدى إلى انفصال الكثير من النساء عن الجماعة والالتحاق بالثورة، كما أن ردود الفعل المناهضة من قبل “موالي النظام” لوجود القبيسيات واعتبارهن حركة شبيهة بحركة الإخوان المسلمين وأنهن داعمات للتزمت الإسلامي(20) أدى إلى انتقال عمل “القبيسيات” من التوعية ضمن المساجد إلى إقامة ندوات عن “محاربة التطرف والإرهاب”، و”دور المرأة السورية في الحفاظ على أبنائها من الانضمام إلى صفوف  الإرهابيين والانصياع لأفكارهم”(21)
المشكلات المستقبلية للنسوية الإسلامية ومأسسة العمل الديني الدعوي/القبيسيات

  1. ملاءمة التنظيمات النسوية الإسلامية للتيارات الإسلامية وسهولة توظيف النساء من داخل الدين، يؤدي إلى استغلال هذه النسوية للمساهمة في خلق ولاءات وتجمّعات جديدة عبر السّيطرة على المرأة وتطويعها ضمن مجال ديني محدد تقوده أفكار مؤسسات التنظيمات الإسلامية.
  2. قدرة التنظيمات الدعوية النسوية على التحكم بالمريدات، يكسبهن إمكانية السيطرة على الأسرة والمجتمع وتحويله إلى مجتمع متديّن بطريقة يشوبها الانغلاق الفكري. وبدل أن يكون رادعاً للإسلام السياسي فإنه سيشكل دعماً له في مثابرته على إعادة تشكيل إجماع شعبي متأسلم يمكن ضمّه أو جعله بيئة حاضنة لممارساته.
  3. عدم الانفصال بين التنظيمات النسوية الإسلامية والتصور الفقهي للمرأة، يعمل على تأكيد الثوابت الأساسية الجامدة في اعتبار المرأة عورة، وما يترتب عن ذلك اجتماعياً وأخلاقياً وثقافياً، وفي اختصار وظيفة المرأة بالإنجاب وتربية الأطفال وغير ذلك، إضافة إلى وجوب احترام ولاية الرجل على المرأة وما يستتبع ذلك من نتائج سياسية من حيث مشاركة المرأة في السياسة والشأن العام.
  4. استخدام الجماعة للدين الإسلامي لتحقيق مكاسب اقتصادية عبر تنمية وتطوير مشاريعها وأعمالها النفعية. واستخدام المدارس الدينية للتحكّم بأفكار جيل جديد من الفتيات اللاتي يصبحن مريدات وأتباع خاضعات، ومن الفتيان الذين تقدم لهم الجماعة عن طريق نفوذها وعلاقاتها الواسعة مساعدات متعددة كالحصول على منح دراسية، أو عمل عن طريق جمعياتهن، وهذا يؤدي إلى خضوع الشباب لهنّ اقتصادياً وسلطوياً.
  5. تعزيز الثقافة التقليدية التي لا تعترف بالشخصية الفردية، فالمجتمع التقليدي ينتج أفراداً خاضعين حرفياً لإرادة الجماعة، أو لإرادة الشيخ الذي يشكل سلطة عليا، وهذا ما تفعله القبيسيات في ترويض المريدات عبر ربط المقدس بالإنساني، بدل تحويل السلطة من المقدس إلى الإنساني، واستغلال سلطة الدين للوصول إلى غايتهن. إضافة إلى التوجه نحو خلق ثقافتين لا ثقافة واحدة تجمع المتديّنات الإسلاميات بدل التأكيد على وحدة اندماج المجتمع والثقافة لا انفصالهما على أسس عنصرية أو نوعية.
خاتمة

إذا كانت النسوية الإسلامية تهدف عند بعض الداعيات لوجودها إلى تحرير العلم والثقافة والتراث الفقهي من سلطة الذكورة، وتضع يدها على الجروح في التراث الإسلامي الذي أصبح غطاء لكل التناقضات، باحثة عن الأسس والركائز التي تدعم مفهوم العدل والمساواة الإنسانية بين البشر لرفع الغبن عن النساء، فهذا لم يكن حال القبيسيات اللاتي ابتعدن عن الخطوط العريضة للنسوية الإسلامية في مفهومها النقدي ومضمونها الإصلاحي، ليبتدعن طائفة نسوية لها معارفها الدينية الخاصة وأحكامها التي اكتسبت قدسيّتها داخل جماعة لم تؤسَّس لتكون طريقاً للخلاص الأنثوي وتفتح المجال أمام مريداتها لإثبات ذاتهن والتحرر من الدور التقليدي الذي فرضه الفقه عليهن، بل جاءت بما هو أكثر في اخضاعهن وتدجينهن على طاعة الآنسة الأم.


المراجع

  1. النساء والتصوف: خصوصيّة التجربة وإشكاليّات التأريخ – منى علاّم / السفير- تاريخ 14 آذار/ مارس 2018 assafirarabi.com/ar/20448/2018/03/14/النساء-والتصوف-خصوصيّة-التجربة-وإشكا
  2. PDF قضية المرأة بين التحرير والتمركز حول الأنثى، الكاتب: د. عبد الوهاب المسيري, دار النشر: نهضة مصر – 1999، صفحة 36.
  3. PDF بركة النساء: الدين بصيغة المؤنث، الكاتب: رحال بوبريك، أفريقيا الشرق، صفحة 13.
  4. جماعة القبيسيات…. النشأة والتكوين/ جسور تاريخ 21/12/ 2017 jusoor.co/details/جماعة-القبيسيات….-النشأة-والتكوين/346/ar
  5. علاقة حرجة التصوف والدولة في سوريا- بقلم: باولو بينتو، ترجمة: حمزة ياسين/ معهد العالم للدراسات- تاريخ 02 تشرين الثاني/نوفمبر 2016 http://alaalam.org/ar/translations-ar/item/424-615021116
  6. قبيسيات سوريا- بقلم: راما الجرمقاني/الراصد – تاريخ 14 شباط/ فبراير 2008 http://www.alrased.net/main/articles.aspx?selected_article_no=4783
  7. القبيسيات المعلن الدعوي والمضمر السياسي- بقلم: هوازن خداج/ العرب اللندنية- تاريخ 16 أيلول/ سبتمبر 2016 https://alarab.co.uk/القبيسيات-المعلن-الدعوي-والمضمر-السياسي
  8. القبيسيات في السياق المجتمعي السوري (الجزء الأول)- سوسن زكرزك/ صالون سوريا- تاريخ 18 حزيران/ يونيو 2018 https://salonsyria.com/القبيسيات-في-السياق-المجتمعي-السوري
  9. القبيسيات.. تنظيم ديني “نسوي” لا يدخله الرجال – لينا الرفاعي/ ميدان الجزيرة – تاريخ 8 أيار/ مايو 2017 https://midan.aljazeera.net/
  10. حركة “القبيسيات” النسوية السورية: شكوك عقائدية ومخاوف سياسية/ دوتشيه فيله تاريخ 12/9/ 2010 https://www.dw.com/cda/ar/حركة…شكوك-عقائدية-ومخاوف-سياسية/a-5996427
  11. القبيسيات … الملف المجهول – بقلم: محمد حبش- موقع كلنا شركاء /منتديات فرسان الثقافة https://omferas.com/vb/showthread.php?51290…القبيسيات-…-الملف-المجهول
  12. PDF التدين الصوفي في طبعته الأنثوية، ورهان النوع الاجتماعي، لالة ميمونه رمز الصلاح الانثوي، الكاتب: مراد جدي/ مؤسسة مؤمنون بلا حدود- بحث محكم – قسم الفلسفة والعلوم الإنسانية، صفحة 5.
  13. «فتنة المريدات».. – عمر رشدي/ الدستور تاريخ 13 نيسان/ أبريل 2018 https://www.dostor.org/2127517
  14. مرجع سابق علاقات حرجة التصوف والدولة في سوريا
  15. “القبيسيات”: من الدين إلى السياسة – رائد الصالحاني/ المدن-  تاريخ  14/4/ 2016 https://www.almodon.com/arabworld/2016/4/17/القبيسيات-من-الدين-إلى-السياسة
  16. القبيسيّات.. كومبارس اللعبة الانتخابية السورية/ شبكة بلدي- تاريخ 15 نيسان/ابريل 2016 https://www.baladi-news.com/…/القبيسيّات_كومبارس_اللعبة_الانتخابية_السورية
  17. “سلمى عياش” المرأة الاولى في سورية بمنصب معاون وزير / سوريا لايف- تاريخ 18 آذار/ مارس 2014 http://mail.syria-life.com/?page=show_det&select_page=3&id=4375
  18. بيان من وزارة الأوقاف السورية حول القبيسيات في سوريا / مراسلون 22 أيار/ مايو 2018 https://muraselon.com/2018/05/القبيسيات-في-سوريا-وزارة-الأوقاف
  19. مرجع سابق حركة “القبيسيات” النسوية السورية: شكوك عقائدية ومخاوف سياسية / دوتشيه فيله
  20. ، “بذخ القبيسيات” يثير سخط موالي الأسد – بقلم أحمد العكلة/ أورينت نت تاريخ 14/6/ 2018 https://orient-news.net/ar/news_show/…/بذخ-القبيسيات-يثير-سخط-موالي-الأسد
  21. مرجع سابق “القبيسيات”: من الدين إلى السياسة

مركز مينا
--------
هذه المادّة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي المرصد.

حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال افريقيا الإعلامي.

هوازن خدّاج
الاربعاء 28 ديسمبر 2022