نظرا للصعوبات الاقتصادية التي رافقت الجائحة وأعقبتها اضطررنا لإيقاف أقسام اللغات الأجنبية على أمل ان تعود لاحقا بعد ان تتغير الظروف

الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بخمس لغات عالمية
الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بأربع لغات عالمية
عيون المقالات

الفرصة التي صنعناها في بروكسل

26/11/2024 - موفق نيربية

المهمة الفاشلة لهوكستين

23/11/2024 - حازم الأمين

العالم والشرق الأوسط بعد فوز ترامب

17/11/2024 - العميد الركن مصطفى الشيخ

إنّه سلام ما بعده سلام!

17/11/2024 - سمير التقي

( ألم يحنِ الوقتُ لنفهم الدرس؟ )

13/11/2024 - عبد الباسط سيدا*

طرابلس "المضطهدة" بين زمنين

13/11/2024 - د.محيي الدين اللاذقاني


الميتم الذي جعل مني روائية






تقلنا أمي في سيارة الأجرة من قرية شقراء، إلى الميتم في قرية جبشيت الجنوبية.
الطريق ليس طويلاً، لكن الحرب ضاعفت المسافة التي كان علينا قطعها في ساعة واحدة، إلى أربع ساعات في ذاك الوقت.

لم نكن نريد الوصول، لهذا كنا نتمنى أن تطول المسافة أكثر وأكثر.
تدمع عينا أمي، ما إن تصل بنا السيارة إلى بهو الميتم.
ينعتها أخي الصغير بعبارات قاسية، يا لئيمة، أنت لست أماً كباقي الأمهات.
تجهش بالبكاء لقسوة كلماته، وتردّ علينا: غداً عندما تتعلمون القراءة والكتابة ستنسون كل هذا الألم، أعدكم بذلك.


 
نترجل من السيارة ونسير ببطء نحو باب الميتم. نلتفت للخلف حيث أمي ما زالت تبكي. يفتح الناطور الباب الرئيسي، فندخله وكأننا ندخل زنزانة انفرادية في انتظار حكم الإعدام. امرأة سمينة تطلب منا أن نتبعها إلى غرفة جانبية، وما إن نصل حتى تنتشل من جيب مريولها قلماً، وبه تبدأ بتفلية شعرنا، واحداً تلو الآخر. ثم نتبعها مرة أخرى إلى مخزن الألبسة، فتنتقي لكل منا طقماً ليلياً، وآخر نهارياً، وتعطي كلاً منا فرشاة أسنان، ثم تدلنا على الأقسام الخاصة بنا، فنفترق.. نحن الأخوة.

بعد العصر، تجمعنا صالة الطعام، نسير في طوابير، كل إلى طاولته، نبحث عن بعضنا البعض، أخوتي وأنا، من بعيد، وما إن يرى أحدنا الآخر حتى يبتسم ويشعر بالإطمئنان ويباشر بتناول طعامه. في المساء نشعر باليُتم الحقيقي، ذاك الذي لم نشعر به عندما كنا في منزلنا في القرية حيث كنا جميعنا ننام في غرفة واحدة.

تمر الأيام ثقيلة، حتى أننا نظن أنها ثابتة في مكانها ولا تمر. أيام تتشابه، ولا تشبهنا. أسابيع قليلة، ونبدأ التأقلم مع تلك الأيام. نتعرف على أيتام آخرين مثلنا، فنعلم أن هناك أمهات كثيرات يشبهن أمي، أمهات رحل أزواجهن باكراً وليس في مقدورهن دفع تكاليف الدراسة وشراء القرطاسية لأولادهن، فاضطررن لوضع قلوبهن جانباً وأتينَ بأولادهن إلى الميتم.

لا شيء في الميتم يلهيك عن دراستك. تتنافس مع بقية الأيتام لتثبت أنك اليتيم الأذكى، اليتيم الذي لا يقبل إلا أن يتوج مرارة تلك الأيام بشيء حلو المذاق.

فجأة نكبر جميعاً، نصبح في سن المراهقة. الحب ممنوع في الميتم، لكن الشعور وحده قادر على تحدي كل الممنوعات. أغرم بأحدهم، أنتقي أجمل يتيم وأُغرم به من دون علمه. ألاحقه بنظرات الإعجاب في باحة الفرصة الدراسية وصالة الطعام.. ثم يشاع بأن هناك انتشاراً لمرض السل في المنطقة، وربما يكون هناك مصابون في الميتم، لجنة طبية تبدأ بفحص الأيتام جميعاً. الذكور في اليوم الأول، والإناث في اليوم الثاني. ذاك اليتيم الذي أغرمت به، هناك احتمال أن يكون مصاباً مع يتيمَين آخرَين، لذا تم عزلهم في غرفة في قسم المطابخ. وما إن أعلم بهذا، حتى أتوسل الله أن يكون هناك احتمال بإصابتي أنا أيضاً. يستجيب الله لي، أنا الوحيدة التي عزلت معهم في الغرفة، تفصل بيني وبينهم ستارة من الجلد فقط. أستمع لأحاديثهم من دون ان أتفوه بكلمة واحدة، كان يكفيني شرف الإستماع إليهم لتعلو وجهي ابتسامة مجهولة النسب والسبب.

أتسلل في آخِر الليل إلى المطبخ، البرادات مقفلة، لكني أفاجأ بصناديق خشبية مغلقة. أفتح أحدها لأجده مليئاً بقطع الحلوى، لماذا لا يوزعون تلك الحلوى علينا، هل أكل الحلوى أيضاً ممنوع في الميتم؟ أنشُل بعض القطع وأُسرع إلى الحمّام، آكلها كلها وأبقي واحدة لذاك اليتيم، علّه يحبني، لكني لا أجرؤ على إعطائه إياها خوفاً من أن يفسد عليّ البقية لمديرة المطبخ. في اليوم التالي، أعطيه الحلوى، يأكلها بعد أن يشكرني، لكنه لا يحبني. في المساء، أتسلل مرة أخرى إلى المطبخ، أسرق ما تيسر من تلك القطع، هذه المرة أسرق لي ولأخوتي فقط . ما إن أعود إلى الغرفة، حتى أسمع صوت إحداهن وهي تتحدث إلى أخرى، الصوت يقترب، أشعر بالإرتباك والخوف فأرمي قطع الحلوى في سلة المهملات.

لقد قررت الإدارة إرسالنا إلى مستشفى في بيروت للتأكد من الفحوص، هكذا أخبرتنا صاحبة ذاك الصوت، طالبةً منا أن نمتنع عن تناول الطعام. لن يأكل أخوتي الحلوى كما فعلت أنا، إنه لأمر محزن، أن أرتكب فعل السرقة من دون أن أتقاسم المسروقات مع من يستحقها. ماذا لو اكتشف أحدهم القطع التي في سلة المهملات. حاولت تجاوز تلك الإحتمالات وأنا أتعرف على بيروت للمرة الأولى، تبدو جميلة ومخيفة لأيتام مثلنا... جميعهم فحوصهم سليمة، هكذا أخبر الطبيب الرجل الذي رافقنا. خيم الحزن علي وحديّ، لن تكون هناك فرصة أخرى كي يحبني ذاك اليتيم.

أسابيع قليلة بعدها، ويُطلب مني أن أشارك في مسابقة أدبية على مستوى مدارس الجنوب، ابتسم لي الحظ هذه المرة بعد كل تلك التكشيرات، وحصلت على المركز الأول في تلك المسابقة، لكني فجأة لم أعد أهتم لأمر ذاك اليتيم، عليه أن يحبني هذه المرة من دون أن أحاول لفت انتباهه.. أنا أذكى منه، ومع هذا لم ينتبه ويحبني.

في ذاك الميتم الذي كنت أكنّ له كرهاً يعادل حبي لأمي، عرفت الحب للمرة الأولى، سرقت الحلوى للمرة الأولى، صلّيتُ للمرة الأولى، تمنيتُ المرض للمرة الأولى والأخيرة، تعرفت على بيروت للمرة الأولى، والأهم من هذا كله أني تعلمت أبجدية الكلمات للمرة الأولى، وها أنا اليوم روائية للمرة الأولى.
----------
المدن

دلال زين الدين
الاربعاء 20 يوليوز 2022