لقد اغتالت تلك القوى التي تطالب بملاحقة المطران الحاج، القانون، منذ مدّة طويلة، واستبدلت شريعة الغاب به، حيث أصبحت السيادة للعبوات الناسفة، "لكاتم الصوت"، للتهديدات، للحصانات، للصفقات، للكذب، وللخديعة.
وحيث يسقط القانون تنتهي كلّ المفاهيم والوظائف، مثل العدالة والعمالة، مثل القضاء والأعداء، ومثل الوطنية والتبعية!
لقد اختصرت قضية المطران موسى الحاج تراجيديا اغتيال سيادة القانون في لبنان: القوى الضالعة بتهريب المحكوم عليهم باغتيال الرئيس رفيق الحريري، وحماية المشتبه بهم بتفجير مرفأ بيروت، ومنع التحقيقات في جرائم الإغتيال كاغتيال لقمان سليم، وتدبير الغزوات الأمنية والعسكرية في بيروت والجبل وخلده والطيّونة، تطالب بتطبيق القانون كما تجتهد هي في تفسيره، بحق المطران الحاج.
أدهى من ذلك، أنّ قوى تعيش على حساب "الجمهورية الإسلامية" في إيران وتقاتل من أجلها، وتعمل وفق أجندتها، وتسلّمها سيادة البلاد وسلامة العباد، تملك ما يكفي من وقاحة حتى تزعم قدرتها على توزيع شهادات بالوطنية على هذا وأحكام بالعمالة على ذاك، في حين أنّها، لو كانت تنتمي إلى دولة يسود فيها القانون، لكانت قابعة في السجون، بتهم تصل عقوباتها، في بعض الأحيان، إلى الإعدام.
في دولة تحترم الحدّ الأدنى من المعايير، قد تكون مساءلة المطران الحاج على ما اعتاد، منذ حلّت الكارثة المالية والاقتصادية والاجتماعية، تمريره، لأسباب إنسانية، عبر الحدود مشروعة وضرورية، لكن في دولة ساقطة مثل الدولة اللبنانية تُصبح هذه النوعية من المساءلة مشبوهة ولها أبعاد سياسية تستغلّ الأبعاد القانونية.
تُدرك بكركي أنّ المستهدف الحقيقي ليس الفعل المنسوب الى المطران الحاج، بل مواقفها السياسية، وأنّ الهدف من إلقاء الضوء على ما يمرّره النائب البطريركي، وهو لم يكن يومًا سرًّا أو خفيًّا، النيل من موقعها بهدف النيل من تأثيراتها في المعركة التي تخوضها، من أجل مستقبل لبنان، من خلال الدخول، بقوة، على خطّ الإستحقاق الرئاسي، حتى لا يديم "حزب الله" استخدامه الكارثي للقصر الجمهوري.
كما تملك بكركي، كلّ الأدلة على أنّ "حزب الله"، ومنذ طرح البطريرك الماروني بشارة الراعي موضوع "تحييد لبنان"، يتحيّن المناسبة للإنقضاض عليها، وهو لم يوفّر وسيلة إلّا واستعملها لتحقيق هذا الهدف، وقد وجد في تواطؤ قيادات مارونية معه، في ظلّ دخول الصرح البطريركي على خطّ الانتخابات الرئاسية بما لا يُرضيها ويحقّق مصالحها، فرصة ذهبية لإسقاط مصداقية مطلب التحييد من خلال تصويره كما لو كان قناعًا للتطبيع.
ويتعرّض البطريرك الراعي، منذ دخوله على خط الإستحقاق الرئاسي، لحملة تشويه سمعة، يتولّى قيادتها "التيّار الوطني الحر".
وفي حمأة هذه الحملة أتى توقيف المطران الحاج ومحاولة تصويره بأنّه "عميل إسرائيلي"، على خلفية نقل مساعدات من لبنانيين وفلسطينيين يقيمون في إسرائيل إلى ذويهم المحتاجين في لبنان.
ويبدو واضحًا أنّ ذاكرة هذه الفئة ضعيفة للغاية، بحيث تناست، مثلًا، أنّ السفارة اللبنانية في باريس التي هي بعهدة السفير رامي عدوان، المحسوب على "التيّار الوطني الحر"، كانت قد فتحت أبوابها أمام اليهود الذين هم من أصول لبنانية.
وغالبية هؤلاء الذين عملت السفارة على إقناعهم بالمجيء الى حفل تكريمهم إمّا يحملون الجنسيات الإسرائيلية أو يواظبون على زيارة إسرائيل.
ولم تكن خطوة السفير عدوان "شخصية" إذ جرى تنسيقها حتى مع "حزب الله" الذي كان أحد المقرّبين منه مشاركًا في هذا الإستقبال.
وإذا كانت المطرانيات تتولّى مهامّ دينية ورعوية وإنسانية، فإنّ السفارات تؤدّي أدوارًا سياسية ودبلوماسية ووطنية.
ولم يكن هدف هذا الإستقبال الذي نظّمته السفارة اللبنانية في باريس إلّا سياسيًا، إذ إنّ "قوى الممانعة" شاءته إشارة، في مرحلة رسوخ "اتفاقيات إبراهيم"، إلى أنّها هي الأقدر على خلق الجسور بين اليهود وسائر الأقليات في الشرق الأوسط، وتاليًا لا بدّ من دعم دورها، عبر قوى الضغط التي تملكها في عواصم القرار، من أجل أن تؤدّي هذه "الخدمة الذهبية".
وما فعلته السفارة اللبنانية في باريس، عاد وفعل مثله النظام السوري الذي نظّم زيارة ليهود من أصول سورية، إلى وطنهم الأم.
وطالما رفضت شرائح واسعة من اللبنانيين النظر إلى اللبنانيين الذين لجأوا الى إسرائيل بعد انسحاب جيشها من جنوب لبنان، على أنّهم عملاء، وقد كرّس "التيّار الوطني الحر"، في محاولة منه لتسويق فوائد تفاهمه مع "حزب الله"، ذلك.
ولم يتردّد البطريرك الراعي، على الرغم من المعارضة التي أثارها "حزب الله"، في أن يقوم بأوّل زيارة للقدس والأراضي الفلسطينية، في إطار برنامج ضخم كان قد أعدّه للتواصل مع الموارنة أينما حلّوا.
إنّ الملفات الوطنية التي أثارها توقيف المطران الحاج قد تكون "نافعة"، إذ تُظهر أنّ فريقًا واحدًا، مهما شعر بالقوة، غير قادر على فرض شروطه على الآخرين، وأنّ تهديم دولة القانون قد يُفيده هنا ولكن قد ينال منه هناك، وأنّ إبقاء ملفات عالقة في دائرة الإبهام لن تُتيح له استغلالها، بل العكس هو الصحيح، وأنّ "الشواذ" إذا ما فرضته جهة واحدة فهو يصبح نهجًا جماعيًا.
------
النهار العربي
------
النهار العربي