تحميل أزمة الحكم في سوريا لبشار هو شكل من أشكال الفصام الطائفي لدى نخب العلويين، فمن هو بشار لو لم يكن ابن حافظ الأسد؟
المخلص في وجدان العلويين
نعم هذه هي صورة حافظ الأسد في وجدان العلويين، في وجدان نخبهم قبل عامتهم. إنها صورة القوي الذي انتزع الحكم من الأكثرية السنية، ثم أقصى باقي الأقليات الآخرين وهمشها، ثم أسس للعلويين حكما يستفردون به بسوريا وشعبها فيفوزون بكل مسابقات التوظيف وكل المنح والبعثات الدراسية للخارج والمناقصات التجارية مع مؤسسات الدولة (إن تقدموا لها) وما يتبقى يذهب لباقي مكونات السوريين، ويسيطرون على أجهزة المخابرات ويتغلغلون في الإعلام حتى ليظن من يرى قنوات التلفزيون السوري الرسمي أن العلويين الذين تملأ أسماؤهم الشاشات ومقاعد الإدارات هم الأكثرية في سورية، ويتنقلون من ملاك الجيش إلى ملاك المعهد العالي للفنون المسرحية ليدرسوا التمثيل رغما عن كل القوانين العسكرية التي تمنع ذلك… ولأنه كان بطل الحرب والسلام وتصدى لمؤامرات الداخل والخارج، وحافظ على “علمانية الدولة” هذه العلمانية التي تكشفها وثائق المخابرات التي كان يكتب أمام كل متهم مذهبه فورا، وليس منطقته أو مكان تولده وحسب، فهو الشخصية التاريخية الأكثر درامية وغنى التي يتوق نجم كجمال سليمان أن يجسدها على الشاشة كما قال في إحدى حواراته مرة.
أما بالنسبة لأحد وزرائه الذي جلبه حافظ الأسد على خلفية الانتماء الطائفي من سلك الأمن ثم أرسله إلى السفارة السورية في بغداد حيث كان أمنيا في السفارة وهناك اكتشفت المخابرات العراقية تهريبه للأسلحة من سوريا وتزويد المعارضين لصدام حسين بها، وعلى أثر ذلك تم اقتحام مقر السفارة وجرى طرده وعاد إلى حضن الأسد الذي فتح أمامه كافة الطرق فحاز على الشهادة الجامعية في”الحقوق” دون أن يفتح كتابا كما يقول زملاء عاصروه، ثم عينه حافظ الأسد عضوا في قيادة فرع الحزب في جامعة دمشق، وصولا إلى تعيينه محافظا للرقة ثم جعله وزيرا للإعلام، فلا يكفي الإقتناع بشخص هذا المخلص الذي أباح أمامهم المناصب والفرص دون أدنى قيم النزاهة أو المساواة مع باقي السوريين، بل هم يشعرون بتفوقه عقليا عليهم. بمقابل الصورة التي يرسمها محمد سلمان نفسه في مقابلة (العربية) ذاتها لوريثه بشار الأسد، حيث يقول بالحرف: “عندما جاء كان شخصية ليس لها علاقة لا بالسياسية ولا بالاقتصاد ولا بالعلوم”. ثم يضيف بعد أن يقاطعه المذيع: ” صار يعتبر نفسه خلال ست سنوات فقط، أهم شخصية سياسية، أهم شخصية عسكرية، أهم شخصية حزبية داخل الحزب الذي ليس له فيه أي علاقة إلا كونه ابن حافظ الأسد”.
باني سوريا الطائفية
إن صورة حافظ الأسد الذي وصفه المفكر الراحل ميشيل كيلو بـ”باني سوريا الطائفية” في وجدان العلويين تشكل كارثة حقيقية. كارثة في التفكير، وكارثة في فهم المواطنة، وكارثة في تغليب قيم الانتماء الطائفي النفعي على الانتماء الوطني كله.
إن تحميل أزمة الحكم في سوريا لبشار هو شكل من أشكال الفصام الطائفي لدى نخب العلويين حقيقة. فمن هو بشار لو لم يكن ابن حافظ الأسد؟ ما قيمته إن كان مجرد شاب علوي ينحدر من القرداحة فقط؟ ما فرص وصوله للحكم؟ ما فرص تعيينه بين ليلة وضحاها في القيادة القطرية لحزب البعث كي يترشح للرئاسة؟ ما فرص تعديل الدستور بثلاث دقائق ليناسب سنه، سن الأهلية للرئاسة؟ ما فرص ترفيعه دفعة واحدة خمس رتب عسكرية من عقيد إلى فريق ليصبح القائد الأعلى للجيش والقوات المسلحة في مخالفة صفيقة لكل القوانين والأعراف العسكرية؟!
مهندس التوريث
إذا اعتبرنا بشار الأسد هو الكارثة، فهو الكارثة التي صنعها حافظ الأسد شخصيا، والتي أتى بها حافظ الأسد شخصياً، والتي أصر عليها حافظ الأسد شخصياً وصفى كل من استشف منه عدم موافقته على الأمر أو أبعده عن الواجهة… بما في ذلك وزيره المخلص محمد سلمان الذي صار من الحرس القديم الذي أخرج من آخر حكومة شكلت في عهد حافظ الأسد في آذار من 2000 وقيل حينها إن حافظ لم يتدخل فيها كثيراً لأنه كان شبه غائب عن الوعي، إذ يروي أحد المقربين أنه عندما رأى مها قنوات وزيرة للثقافة في الحكومة، سأل: ليش وينها نجاح؟!
حافظ الأسد بغبائه وانانيته وليس بعبقريته وتفوقه على الجميع كما يصفه محمد سلمان. أقول بغبائه لأن حافظ الأسد يعرف أكثر من الجميع من هو بشار المضطرب نفسيا والذي أرسل للندن للعلاج، يعرف أكثر من الجميع ما حدود قدراته وما هو مستوى تفكيره وبلاهته وجحشنته، وما هو حجم التركة الثقيلة للحكم المخابراتي الطائفي الذي أسسه، ورغم ذلك أصر على أن يرهن مصير الطائفة بيد ابنه الأبله كي يقودها إلى الخراب!
وأقول الطائفة لأنني إلى الآن أناقش الموضوع من زاوية إعجاب وتقديس العلويين لحافظ الأسد ونجاح مشروعه، مقابل شتم وتحقير والسخرية من بشار الذي هو صناعة مشروع حافظ الأسد نفسه.
بائع الجولان
أما من وجهة النظر السورية: فحافظ الأسد بالنسبة لباقي السوريين الأحرار، المؤمنين بقيم العدالة مجرم ولص صفيق امتهن المكر والغدر والخديعة. وهو بائع الجولان… اللقب الذي أطلق عليه منذ نكسة حزيران، ثم استعادته الصحافة العربية إلى التداول بعد تسلمه الحكم وحديثها عن مجازره في الثمانينات، ثم نطقت به حناجر السوريين خلال الثورة… كيف لا وهو الذي اتهمته كل النخب السورية بهذه الجريمة، وشككت بخيانته وعمالته منذ إصدار البيان 66 الذي أعلن سقوط القنيطرة والكتابات موثقة وموجودة منذ الستينيات.
وحافظ الأسد أستاذ الغدر وخيانة المواثيق والعهود في الداخل، والالتزام بها في الخارج… وأول من غدر به أستاذه صلاح جديد الذي أعاده إلى الجيش بعد أن سرح في عهد الانفصال، وجعله قائدا لسلاح الطيران، ثم وزيرا للدفاع صبيحة يوم الثالث والعشرين من شباط عام 1966 حين تحالف معه حافظ في الانقلاب على الرئيس أمين الحافظ، وهدد قطعات الجيش التي تحركت من حلب وحمص باتجاه دمشق لنجدة الرئيس المحاصر بقصفها بالطيران إن تابعت المسير.
جزار تل الزعتر وحماة
وهو بالنسبة لنا جزار تل الزعتر، الذي قتل آلاف الفلسطينيين العزل بالتحالف مع اليمين المسيحي، بعد انسحاب المقاتلين واستسلام المخيم. تلك المجزرة التي نفذها في شرق بيروت بموافقة أمريكية إسرائيلية فرنسية في آب عام 1976، وهو الذي قال فيه الشاعر السوداني محمد الفيتوري في قصيدة نشرها مجلة الآداب اللبنانية الشهيرة عام 1976 في العدد الخاص بتل الزعتر:
كلب.. وإن ألبسوه فروة الأسد
ويحسبون دمشقا وهي مغضية
على الأذى أنها ارتاحت على الرغد
دمشق.. لا يا دمشق البعث أنت سوى
تلك السبية لم تحبل ولم تلد
دمشق حاضنة الأجيال في دمها القدسي
(م) غير سرايا حافظ الأسد
وحافظ الأسد هو جزار حماة الذي قتل ما بين ثلاثين إلى أربعين ألفاً من أهل المدنية، ودمر ثلثيها ونهب أسواقها واستباح أعراض نسائها ويتم أطفالها، في جريمة كان يمكن أن تجعل كل علوي يخجل من كون حافظ الأسد علوياً، وهو الذي قال فيه الشاعر عمر أبو ريشة مذكرا إياه بفراره أو انسحابه من الجولان:
وأزاحت الأيامُ عنه نقابهُ فأطلَّ مسْخاً بالضلال مُزوِّدا
ترك الحصونَ إلى العِدى متعثِّرا بفراره، وأتى الحِمَى مُسْتأسدا
سكِّينه في شدقه ولعابُهُ يجري على ذكر الفريسة مُزبدا
ما كان هولاكو، ولا أشباههُ بأضلَّ أفئدةً وأقسى أكبُدا
هذي حماةُ عروسةُ الوادي على كِبْر الحداد، تُجيل طرفاً أرمدا
هذا صلاح الدين يخفي جرحَهُ عنها، ويسأل: كيف جُرْحُ أبي الفدا؟
سروات دنيا الفتح هانتْ عندهُ وأصاب منها ما أقام وأقعدا
ما عفَّ عن قذف المعابد باللظى فتناثرت رِمماً، وأجَّتْ موقدا
وبعيداً عن أهاجي الشعراء.. تشهد السجون والمعتلقات والمجازر وأقبية المخابرات وطائفيتها وعلونة الجيش بفشل مشروع حافظ الأسد… فإذا كانت الأمور بخواتيمها، فحافظ الأسد الذي فر بقبره من دمشق وأوصى ان يدفن في مسقط رأسه القرداحة بخلاف الرؤساء التاريخيين الذين يدفنون في عواصم بلادهم، تحول عند الموت إلى طائفي مذعور يحتمي بضيعته وطائفته… لكن هزيمة مشروعه الطائفي الاستبدادي وصل إلى هناك. وحرق مقاتلون قبره على مرأى من أهل ضيعته ودون أن يتنادى احد للدفاع عن رمزيته المزعومة ولو بطلقة واحدة!
هزيمة مشروعه الاستراتيجي
هزم حافظ الأسد حياً وميتاً. المخابرات التي أسسها تبخرت، الجيش الذي علون قياداته فرط، تماثيله حطمت وديست تحت الأقدام حتى أثناء وجود ابنه في سدة الحكم في سنوات الثورة الأولى… هزم لأنه أراد أن يحكم الناس بالظلم والسجون والمعتقلات والمجازر، وأراد أن يورث الحكم لأولاده دون وجه حق بالأدوات نفسها. كان مسؤولا أكثر من أي شخص آخر في التاريخ، عن الحال التي آلت إليها طائفته اليوم، وإذا كنت سأفخر بتحضر السوريين الذين لم ينجروا وراء أعمال انتقام مع العلم أن جل قوائم الضباط الكبار من مرتكبي الجرائم ضد الإنسانية خلال سنوات الثورة هم من الطائفة العلوية وبنسبة تفوق النسب التي كان ينجح بها حافظ وبشار في الاستفتاءات المزورة، فإنه لا يمكن إلا لمكابر أو يداهن أن ينكر الأزمة التي تعيشها الطائفة وحالة الازدراء الاجتماعي التي تقابل بها في أحاديث ونظرات السوريين.
ولأن علينا أن ننظر إلى المستقبل وألا نكون رهن ثارات الماضي، ولأن علينا ألا نشبه جلادينا لا بأخلاقهم ولا بوحشيتهم ولا همجيتهم، وألا نأخذ كل الطائفة بجريرتهم، فإن علي العلويين أن يتخلصوا من حالة الفصام الطائفي التي تجعلهم اليوم يشيدون بحافظ ويلعنون بشاراً… وأن عليهم يدركوا أن مشكلتهم تعود في جذورها إلى أنانية وإجرام وغباء حافظ الأسد الاستراتيجي الذي حكم على مشروعه بالفشل حين استشرس في القمع وأولغ في دماء السوريين، وبالغ في سلوكه الطائفي… فبدل أن يدعم طائفته قليلا على اعتبار انه أول رئيس من الأقليات، أعطى لها من الامتيازات ما يفوق حجمها الديموغرافي ويوقع ظلما محققا بكل المكونات السورية الأخرى.
على العلويين أن يدركوا اليوم أن الخلاص يبدأ من الإيمان بأن عبارة “يلعن روحك يا حافظ” هي الوجه الآخر لعبارة “الشعب السوري واحد”
--------------
العربي القديم