الوزير العاشق ابن زيدون كما تخيله بعض الرسامين
ويزعم المقري في نفخ الطيب نقلا عن اشياخه ان الزهراء جارية الناصر قالت له ذات جلسة انس وما اكثر جلسات الانس في قرطبه , اشتهيت لو بنيت لي مدينه تسميها باسمي , وتكون خاصة لي . فبناها تحت جبل العروس من قبله الجبل شمال قرطبه , فلما اتقن بناءها واحكم الصنعه فيها جعلها مستنزها ونقش صورتها على الباب , فلما قعدت الزهراء في مجلسها ونظرت الى بياض المدينه وحسنها في حجر الجبل الاسود قالت :
- الا ترى الى حسن تلك الجارية في حضن ذلك الزنجي , فامر بازاحة الجبل لكن اصحابه الذين لا يؤمنون بالمستحيلات كالخليفه العاشق اقنعوه باستحالة ذلك , فأمر من ذلك النوع لا يقدر عليه الا صاحب الامر الذي يجعل وحده الراسيات كالعهن المنفوش في لمح البصر , وعندها فقط ثاب الخليفه الى رشده وقال اقطعوا غرسه , وازرعوه تينا ولوزا , فكان له ما اراد , وولد من تلك الجمله القصيره اجمل منظر يمكن ان تقع عليه عين .
ويقفز معظم العابرين في ربوع الحلم الاندلسي الى الزهراء شوقا لاساطيرها وأنسها وحبا ببيت من الشعر قاله ابن زيدون لولادة عند سفوحها المكسوة باللوز والشجن .
ولقد ذكرتك في الزهراء مشتاقا
والافق طلق ووجه الارض قد راقا
عند ذلك السفح واسهل الممتد باناقة ساحرة بين الزهراء وقرطبة رقص المجد العربي رقصته ما قبل الاخيره بين جبل الورد وسفوح جبل العروس في زمن خليفة متنور وعاشق ومحب للشعر والغناء والعمارة .
ولنرجئ الزهراء الى حين لنعود الى قرطبة بحثا عن بيت ولادة وقصور ادبائها وعشاقها ومفكريها ولكن من اين ندخل مدينة العشاق والمفكرين ؟ ومن يضمن خروجنا سالمين من غابات السوسن والريحان , والفتنه اليعربية المقطره التي ترشك بماء الورد من النوافذ العامرة بالاقحوان والياسمين , وشذا القرنفل والريحان الدمشقي :
يا زارع الريحان حول ديارنا
لا تزرع الريحان لست مقيم
لقد جاؤوا وزرعوا الريحان ومضوا وظل عبقهم وكلمة" ARRAYAN" التي تفاخر بها اللغة الاسبانيه لغاب اوروبا دون ان تنكر انها والملايين من اخواتها العربيات هن اللواتي اعطين لغة اسبانيا تلك النكهة الشاعريه الفاتنه التي تاهت بها نثرا وشعرا على العالمين .
هل ندخل قرطبه من جامعها الكبير كما كان يفعل الغرباء في قرون الحضارة الاسلاميه الزاهيه حين كان المسجد بيت الله , ومجلس الشوري وملجأ المحتاج ومأوى الغريب ..؟
آه وآه ثم آه ... كم تبدو لفظة غريب ناشزه عن السياق داخل قرطبه القديمه , فكيف تشعر بالغربة هنا , وكل هذا الرمان الذي شبه ابن هانئ زهره بنقوش حناء على اصابع حسناء جاءت فسائله من دمشق , فقد كانت ام الاصبغ المروانيه شقيقة عبد الرحمن الداخل ترسل غرس الرمان , وشتل الياسمين من العاصمة الاموية الاولى , الى العاصمة الاموية الثانيه مع رسل يروحون ويجيئون تحت سمع وبصر السلطة العباسيه التي لم يخطر لرجالها امكانية التخاطب من فوق رؤوسهم بالرموز , وهل هناك اجمل من رمز يعبر من اسيا الى اوروبا عبر افريقيا , ويستمر في الازهار والاثمار بعد قرون مديده من رحيل المتلقي والمرسله .
لقد شبه الحجاري في كتاب "المسهب" قرطبه بالنسبة للاندلس بمنزلة الراس من الجسد , وما ضره غفر الله له لو قال بمنزلة القلب , فهذه مدينة لا يحلو معها الا حديث القلوب , فتحت كل رمانة فيها قصة حب , وعلى ترابها في المنطقة المعروفة بحومة بلاط مغيث عاش شيخ العاشقين ابو محمد بن حزم , وعاشت ولادة بنت المستكفي التي غيرت تاريخ الانوثة العربية , وقدمت نموذجا جديدا للمراة القوية التي تعرف ماذا تريد وتدافع عن حقوقها بحد الرمش واللسان , فاذا ظل عندها بعد معاركها وقت تلهت بالعشاق كما تتسلى بتبديل خواتمها , وكان اشهر عشاقها الوزير الخطير ابن زيدون , فهل احبت ولادة ابن زيدون فعلا ..؟ ام اننا انسقنا جميعا دون تدقيق خلف اغراء تلك الخدعة التاريخيه المتقنه ..؟
حكاية ولادة مع عشاقها , وشعراء عصرها لا ينطبق عليها شئ بمقدار انطباق اغنية معاصرة يرد في بعض مقاطعها ذلك السؤال المقلق :
- كلنا بنحب القمر ..
- والقمر بحب مين ..؟
وليس من الضروري للقمر ان يحب يكفيه ان يكون محبوبا , ويكفي عشاقه منه اطلالته شبه اليوميه , واحتجابه حين يتعكر مزاجه , وقد كانت ولادة في قرطبة ذلك القمر الباهر الذي يطل ويختفي ويداعب هذا ويرسل حزمة من ضوئه لذاك دون ان يربط او يرتبط , وماذا يجبر القمر على المبيت في حديقة بعينها ما دام مطلوبا ومرغوبا في كل الحدائق والبيوت .
ولادة في الثقافة العربية اهم من( سافو) في ثقافة الاغريق , فقد جاءت الثانية من تراث كاهنات المعابد اللواتي اعتبرن المتعة جزءا مكملا لبعض اشكال العبادات الوثنيه , وبهذا المعنى كانت سافو حبة بارزة في طوق من الجواهر الأصغر حجما , اما الأولى فكانت فريدة التكوين ومفردة السياق وغريبة على خط تطور المرأة العربية التي قنعت قبل ولادة و جيلها بأن تكون الظل , وما فكرت بالتحول الى قمر يشع على من حوله ويمنح بركته للظلال .
وحتى بمقاييس الثقافة الانثوية العالمية تظل ولادة رمزا مميزا ونكهة مختلفة , فقد عرف العالم الديونيسية الذكورية لكنه لم يعرف من الديونيسيات المدافعات عن حقوقهن في التمتع بالحياة والمجاهره بذلك باستثناء سافو وبعض الشاعرات الرومانيات الاقل شأنا , ثم ولادة التي بثت الذعر في اوساط رجال قرطبه وسخرت منهم جميعا وقادت تيارا مؤثرا من النساء المتمردات على الدور التقليدي للمرأة القرطبية التي ساعدتها الفتنة على تثبيت وضعها الجديد في غيبة الرجال .
وحين تذكر الفتنة هنا يستحسن الا يذهب الذهن الى فتنة النساء وحدها , فقد ولدت ولادة زعيمة الفاتنات المفتنات وشبت في زمن الفتنة السياسية الكبرى التي عصفت بقرطبه , وانهت حكم الامويين , ومهدت لقيام الحقبة المعروفه تاريخيا بحقبة دول ملوك الطوائف , وحملت تلك الفتنة الشهيرة اسم فتنة البربر وهي غير فتنة الربض التي تسببت في محق حي كامل من قرطبة وتحويله الى مقبرة في ايام الحكم .
ومن الادلة على اعتناق زهرة قرطبة للمذهب الديونيسي في ذلك العصر انها كتبت على طرف من اطراف ثوبها كما زعموا :
انا والله أصلح للمعالي
وامشي مشيتي واتيه تيها
وكتبت على الطرف الاخر :
امكن عاشقي من صحن خدي
وامنح قبلتي من يشتهيها
وعودة الى قصتها مع ابن زيدون لا بد ان نتذكر , ونحن نفترض انها لم تحبه , ولا احبت غيره من الشعراء الذين كانوا يحومون حولها حوم الفراشات حول النور , اقول لا بد ان نتذكر بأن الرواية الوحيدة التي تشير الى حب ولادة لابن زيدون جاءت في جميع كتب التاريخ والادب مروية عن لسان ابن زيدون نفسه ...فدعنا نتأمل بروية غدا أو بعد غد هذه الرواية التي حفظها لنا كاتم أسرار الأندلس ابن بسام في الذخيرة