لقد ظلّ خطاب السياسة الخارجية لتركيا بشأن المناطق الآمنة على حاله لسنوات. ترى أنقرة أنّ وحدات حماية الشعب مجموعة إرهابية لا يُمكن السماح بوجودها على طول حدود تركيا الجنوبية. لكن على الرغم من العمليّات العسكرية التركية الثلاث في شمال سورية منذ عام 2016، ما تزال وحدات حماية الشعب تُسيطر على مساحات شاسعة من المنطقة الحدودية.
ساعدت تركيا التي تستضيف حوالَيْ 4 ملايين لاجئ سوري، في إعادة توطين مئات الآلاف في وطنهم. وفي وقت سابق من هذا الشهر، أعلن أردوغان عن خطط لبناء 200 ألف منزل شمال سورية لإعادة التوطين الطوعي لمليون لاجئ هناك. تعاني المجتمعات الموجودة داخل المناطق التي تحميها تركيا من الاكتظاظ ونقص البِنْية التحتية اللازمة. وتعتقد تركيا أنه إذا تمت السيطرة على المزيد من الأراضي من وحدات حماية الشعب، فقد يعود المزيد من الأشخاص إلى سورية.
يُمكن للعملية العسكرية الجديدة أن تجلب أيضاً مزايا محلّية لتركيا، التي تواجه أزمة اقتصادية مستمرة، لا سيما أنّ العمليات السابقة قد حظيت بدعم واسع النطاق وتجددت ثقة الشعب في الحكومة، والعملية العسكرية الجديدة التي تلوح في الأفق مع الانتخابات يمكن أن تمنح أردوغان الدفعة اللازمة مع تصاعُد المشاعر المُعادية للاجئين.
يأتي هذا الإعلان أيضاً وسط ظروف دولية مثالية بالنسبة لتركيا؛ حيث دفعت الحرب الروسية الأوكرانية السويد وفنلندا إلى التقدّم لعضوية الناتو، وهي خطوة تتطلب موافقة تركيا. انتقدت أنقرة دولتَي الشمال الأوروبي بسبب "موقفهما المُنفتح تجاه المنظمات الإرهابية"، في إشارة إلى حزب العُمّال الكردستاني. كما أنّ تركيا غاضبة من فرضهما حظر أسلحة عليها عقب عمليتها في سورية عام 2019. وقد اتهمت تركيا السويد وفنلندا بإيواء أشخاص لهم صلات بحزب العُمّال الكردستاني.
مقاومة انضمام الدول الإسكندنافية إلى حلف شمال الأطلسي
سافر وفد من السويد وفنلندا مؤخراً إلى تركيا في محاولة لتغيير موقفها، لكن أردوغان قال لاحقاً إنّه ما يزال ينوي عرقلة طلب انضمام هاتين الدولتين للناتو، وإن المحادثات لم تكن "على المستوى المتوقع"، مشيراً إلى أنّ المخاوف الأمنية لتركيا لم تتم معالجتها.
إضافة إلى ذلك بينما كانت المناقشات جارية، ظهر زعيم سابق في حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) له صلات بوحدات حماية الشعب وحزب العُمّال الكردستاني على التلفزيون الحكومي السويدي، ممّا دفع أردوغان للتشكيك في صدق المحادثات.
يُنظر على نطاق واسع إلى انضمام السويد وفنلندا إلى الناتو على أنّه خُطوة حاسمة للناتو، ويعتقد أردوغان أنّ الغرب لن يقاوم عملية تركية أخرى في سورية في وقت يحتاجون فيه إلى دعمه. بهذه الطريقة، تختبر أنقرة ما يمكن أن تحصل عليه من الغرب مقابل الموافقة على طلب الانضمام للناتو.
في الوقت نفسه اتّبعت تركيا نهجاً متوازناً تجاه الصراع "الروسي - الأوكراني"، حيث عارضت الحرب علناً بينما تتجنب الجهود الغربية لمعاقبة موسكو. يُمكن لروسيا أن تُقدّم لتركيا ضمانات مُعينة مقابل قيام أنقرة بعرقلة محاولة السويد وفنلندا الانضمام للناتو، وهي تُعتبر نقطة قوّة لصالح تركيا في مواجهتها لروسيا، التي لديها قواعد عسكرية في المناطق التي تسيطر عليها وحدات حماية الشعب.
من منظور جيوسياسي تتمتع تركيا بالظروف المُثلى لعملياتها العسكرية في سورية، وهو وضع مشابه لثلاثينيات القرن الماضي، عندما انضمّت هاتاي، التي كانت في السابق تحت الانتداب الفرنسي لسورية، إلى الدولة التركية في عام 1939 بعد استفتاء. وجاء الاتفاق الفرنسي مع أنقرة بالتوازي مع معاهدة تركية فرنسية تضمن "الصداقة" التركية خلال الحرب العالمية الثانية.
اليوم تحتاج القُوى الغربية إلى تركيا، وبالتالي قد يكون ردّها صامتاً على عملية تركية محتملة في سورية.
دور واشنطن
تُسيطر روسيا على المجال الجوي السوري منذ عام 2015، وخلال عملية عفرين في 2018 أبرمت أنقرة اتفاقاً مع موسكو لاستخدام ذلك المجال الجوي في حملتها العسكرية. كما تحرّكت القوات الروسية من عفرين إلى تل رفعت لتسهيل العملية التركية. في الواقع أيّ عملية في منطقة شمال سورية التي تتمركز فيها القوات الروسيّة يجب أن يتم تنسيقها مع موسكو.
الأسبوع الماضي قال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف: إن القوات الروسية في سورية لم يتبقَّ لها أي مهام عسكرية تقريباً، مشيراً إلى أنّ وجودها وأعدادها على الأرض تُحدّدها مهام مُعيَّنة. مع استمرار حرب أوكرانيا، أفادت بعض التقارير بأنّ روسيا سحبت بعض قواتها من سورية من أجل إعادة انتشارها في أوكرانيا، وهو ما يُمثّل أولوية للرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
من جهتها انتقدت واشنطن -التي قدّمت تدريبات ومساعدات عسكريّة لوحدات حماية الشعب الكردية بذريعة محاربة تنظيم "داعش"- خطط تركيا لشنّ عملية عسكرية جديدة شمال سورية. وقد جاءت آخِرُ عمليات المنطقة الآمنة لأنقرة على الفور عقب انسحابٍ مفاجئٍ للقوات الأمريكية من المنطقة. وفي مواجهة انتقادات بشأن الانسحاب توسّطت إدارة ترامب لاحقاً لوقف إطلاق النار.
حاليّاً يكمن الفارق بأن الديمقراطيين -الذين ضغطوا عام 2019 على إدارة ترامب لفرض عقوبات على تركيا- يتولّون الرئاسة، ممّا قد يجعل من الصعب على أنقرة إقناع واشنطن بالتزام الصمت بشأن عمليّة جديدة. في السياق الحالي يبدو أنّ الأزمة الأوكرانية والضغط الغربي لتوسيع الناتو هما أقوى ورقة ضغط لصالح لتركيا.