ففي روسيا الاتحادية- وريثة الاتحاد السوفيتي، بدأت مرحلة البيريسترويكا والديمقراطية والليبرالية المتوحشة التي افقرت العمال و الفلاحين والمثقفين والمختصين من أطباء ومهندسين وحولتهم الى طبقة فقيرة جدا بينما برزت بسرعة هائلة طبقة من الاوليغاركية الروسية (الروس الجدد) الذين يملكون الملايين التي لم يتعبوا في جمعها فهم ينتمون اما الى المخابرات أو من اللصوص ومن نزلاء الشجون وبعضهم من اليهود الذين حصلوا على رؤوس أموال كبيرة ليشتروا بها ممتلكات الدولة ضمن إطار الخصخصة التي قادها الليبراليون الجدد أمثال غيدار وتشوبايس. وقد قال تشوبايس مرة بأن هدفهم بعد تفكك الدولة السوفيتية هو تدمير الملكية العامة بأسرع وقت وتحويلها الى ملكية خاصة ولكن الحقيقة أن ذلك تم بطريقة لا وطنية ولا إنسانية فلم يراعي التدرج في الانتقال الى نظام اقتصادي جديد دون تدمير وسحق الطبقات الاجتماعية. بينما لو نظرنا إلى الصين نجدهم ادخلوا النظام الرأسمالي في الاقتصاد ولكن ابقوا على إدارة الدولة للقطاعات الرئيسية في الاقتصاد وحافظوا على المكتسبات الاجتماعية للناس، مما جعل التحول سلسا وناجحا وأدى في النهاية إلى أن الصين أصبحت الدولة رقم واحد في العالم بالنمو الاقتصادي، بينما روسيا تراجعت بشكل مرعب لكي تصبح حصتها 2% من الناتج الإجمالي في العالم.
وفي الحقيقة فإن روسيا تعتمد بشكل أساسي على تصدير النفط والغاز والأخشاب والمواد الثمينة والأسلحة، ولم تتطور صناعاتها وتكنولوجياتها بشكل كبير وانما اعتمدت على النماذج والتصاميم السوفيتية.
وقد كانت مرحلة التسعينيات مليئة بالفوضى والفساد مما حول الدولة الى دولة فاشلة وبدأ يلتسين ببيع الأراضي الروسية للغرب حتى يسدد رواتب الموظفين. ورافق ذلك فقدان الأمان والأمن في البلاد وبرز خطر تقسيم روسيا الى جمهوريات ومقاطعات (وحرب الشيشان خير مثال على ذلك).
وفي نهاية 1999 أعلن يلتسين المريض تخليه عن السلطة وخلفه رئيس الوزراء (حسب الدستور الروسي) فلاديمير بوتين- ضابط المخابرات السابق والذي انغمس في التسعينيات في التجارة وتعاون مع المافيات الشهيرة وأصبح شخصية معروفة في تلك الأوساط.
وقد يتساءل المراقب كيف اختاروا فلاديمير بوتين بالذات ليكون الرئيس المقبل لروسيا التي تقف على حافة الانهيار تبعا للاتحاد السوفيتي. وبدون شك فإن العوامل الداخلية الاقتصادية بالدرجة الأولى ونظام الحكم الشمولي والتدخل في أفغانستان لعبوا دورا في انهاء النظام السوفيتي. أما بوتين فهو ممثل أجهزة الأمن السوفيتية التي شعرت بأن البلاد ستتفكك وبرز خطر انهيار الدولة، وقد قررت تلك الأجهزة اخذ زمام المبادرة من الليبراليين الجدد فسموا القيادة لبوتين. وقد طمأن بوتين الفئات الاوليغاركية والمليارديرية بالأمان وبالفعل أوفى بوعده للرئيس السابق يلتسين حيث منحه الحصانة في أول مرسوم رئاسي.
لكن بوتين بعد أن ثبت حكمه وبرز كبطل على خلفية حرب الشيشان الثانية حيث سحق المتمردين بعد ان اشترى بعض قادتهم الى جانبه مثل الإمام أحمد قاديروف والد رمضان قاديروف الرئيس الحالي لجمهورية الشيشان. قام بوتين بتصفية حساباته مع منافسيه المحتملين من كبار رجال الأعمال فمكنهم من وضعه في السجن ومنهم من هرب منه ولحقته الأجهزة الأمنية الروسية وقتلته في بلدان اللجوء.
وهكذا فرض بوتين هيمنته على السلطة الأمنية والعسكرية والاقتصادية والسياسية. وبدأ يبحث عن الثأر من الولايات المتحدة التي فرضت هيمنتها كقطب وحيد في العالم بعد زوال الاتحاد السوفيتي، علماً أن بوتين بعث رسائل مطمئنة للغرب عند استلامه للسلطة قائلا: يصعب علي تخيل الناتو كعدو لنا وأريد ان تكون روسيا دولة عصرية قوية وان تكون لها علاقات وطيدة مع الغرب.
وفي بداية حكمه استفاد بوتين كثيرا من ارتفاع أسعار النفط وشهد الروس بحبوحة اقتصادية ومعيشية، ولم يشعر الروس بالمشاكل المعيشية إلا بعد تراجع أسعار النفط فاكتشفوا أن النظام الاقتصادي الفاسد ليس وليد اليوم.
وما يميز فترة حكم بوتين أنه جمع حوله اصدقاءه من مدينة سان بطرسبورغ (ممن درس معهم وتدرب على الجودو وممن مارس التجارة سوية معهم في فترة التسعينيات التي تميزت بهيمنة المافيات التي ارتكبت جرائم منظمة، وإذا نظرنا إلى أكبر رجال الأعمال من أصحاب المليارات نجدهم من أصدقاء بوتين القدماء وهم اليوم رؤساء شركات النفط والأسلحة والبناء ومنهم من يتقلد مناصب حساسة في الدولة في أجهزة الأمن والجيش والحكومة والمصارف.
ومن يدقق في منظومة السلطة في روسيا يجد فيها مراكز قوى مختلفة: جنرالات الجيش وقادة الأجهزة الأمنية وكبار الاقتصاديين الأغنياء وهم بشكل عام ينتمون الى تيارات فكرية وسياسية مختلفة فمنهم ذوو الميول القومية المحافظة وبوتين أقرب لهم، ومنهم الليبراليون ذوو التوجهات الغربية. وبالرغم من وجود انتقادات لسياسة بوتين الداخلية إلا أن الميع تقريبا يدعم سياسته الخارجية القائمة على مجابهة العدو الخارجي وهو الغرب الذي يريد “تحطيم روسيا وزعزعة استقرارها”.
باختصار فالنظام السياسي الذي تبلور في روسيا خلال العقدين الماضيين هو نظام شمولي بامتياز يقف على رأس الهرم شخص واحد يسمع آراء الكثيرين ويطلع على تحليلاتهم ولكنه يتخذ القرار بنفسه.
ويرى بعض المحللين السياسيين والعسكريين الروس بأن روسيا كدولة ومجتمع تعيش منذ فبراير 2014 “حالة حرب” والرئيس الروسي فلاديمير بوتين هو قائدها العسكري. وأعلنت روسيا أنها لن ترضخ للضغوطات الخارجية لأن سياسة استرضاء الغرب تلحق ضررا بالمصالح القومية الروسية.
ويبدو أن بوتين الذي أعلن مرارا أنه يعتبر انهيار الاتحاد السوفيتي كارثة كبيرة، فإنه معجب بالدولة القوية المركزية المتمثلة بروسيا الاتحادية التي يرأسها شخص قوي وحزب واحد وسلطة سياسية واحدة. وكأنه يتذكر امجاد الإمبراطورية الروسية (أيام القياصرة) والامبراطورية السوفيتية أيام الحزب الشيوعي وبالتالي لما لا يحين عصر “البوتينية”، التي يجب ان تسود لمائة عام على الأقل (حسب رأي فيتشيسلاف سوركوف مستشار الرئيس الروسي بوتين لفترة طويلة)
ولا يبدو مستغرباً أن روسيا لا تشبه لا دولة أوروبية ولا دولة شرقية بل يفضلون تسمية روسيا بأنها دولة أوراسية (طبعا هنا تلعب دورها نظرية الفيلسوف القومي الارثوذكسي المحافظ ألكسندر دوغين)، والديمقراطية هنا يسمونها “الديمقراطية الموجهة”، والحقبة التي تعيشها روسيا والتي يعتقد بعضهم أنها ستبقى لمئة عام تسمى “الحقبة البوتينية” على غرار الحقبة القيصرية والحقبة السوفيتية.
كما أن المواطن الروسي تكونت لديه طباع اجتماعية ونفسية تاريخية وهي الخضوع للسلطة وتصديق ما تقوله من خلال وسائل الاعلام الرسمية وهي الوحيدة المتاحة عمليا. فأيام القيصر كان الروس يمجدونه ويسمونه الأب، وفي عهد الشيوعية كان الأمين العام للحزب والمكتب السياسي شبه مقدسين، وبعدهم جاء عهد بوتين وأصبح يلعب نفس الأدوار، لدرجة ان رئيس البرلمان الروسي (مجلس الدوما) فيتشيسلاف فولودين قال مرة: “روسيا هي بوتين”. وحتى بوتين أعلن ذات مرة أن العالم بدون روسيا لا يساوي شيئا.
التوجهات الخارجية الروسية في عهد بوتين:
كان خطاب بوتين الشهير في 2007 في مؤتمر الامن في ميونيخ كالقنبلة بالنسبة للغرب، عندما أعلن انه لا يقبل بالقطب الواحد وسيدافع عن حقوق روسيا ومصلحتها القومية. وانتقد توسع الناتو شرقي أوروبا.
كما أن الرؤية الجديدة للسياسة الخارجية الروسية التي تم إقرارها عام 2016 ركزت على المستجدات السياسية والعسكرية والأمنية في العالم التي تتطلب من روسيا اتخاذ مواقف أكثر حزما تجاه المواقف غير الودية للدول الغربية حيال روسيا وبسبب القضايا الاساسية في المناطق المختلفة من العالم. وقد نصت الوثيقة الجديدة على “ازدياد دور القوة في القضايا الدولية”. وأكدت على حق روسيا في الرد على التهديدات الدولية من خلال تعزيز قدراتها الدفاعية واتخاذ القرارات المناسبة والمتكافئة على الافعال الموجهة ضد روسيا من قبل الغرب (مثل العقوبات الاقتصادية وتوسع حلف الناتو بالقرب من الحدود الغربية لروسيا)
كما أن السياسة الخارجية الروسية البراغماتية تأخذ مصالح روسيا والنخبة الحاكمة بعين الاعتبار كأولوية. والمعارضة الروسية الممثلة بالأحزاب المشاركة في البرلمان الروسي (مجلس الدوما) كلها تجتمع على دعم السياسة الخارجية الروسية القائمة على فكرتي الوطنية الروسية والارثوذكسية الروسية.
وكان التدخل الأمريكي في العراق عام 2003 تنبيها قويا للروس بأن أمريكا لا تتقيد بالقوانين الدولية ويمكن انتظار أي شيء منها إن لم تصبح روسيا دولية قوية وتفرض احترام سياستها في الساحة الدولية.
واحاطت بروسيا في العقد الأول من القرن العشرين سلسلة أحداث ثورية سميت “بالثورات الملونة”، التي حاولت تحقيق انعتاق تلك الدول من الأنظمة الشمولية التي ورثتها بعد انهيار المنظومة الشمولية الأم في الاتحاد السوفيتي. وقد شعرت روسيا بالخطر يحيط بها من كل جانب، وبدأت تخسر صداقة جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابقة وبلدان أوروبا الشرقية الواحدة تلو الأخرى. بالإضافة إلى أن أغلب تلك الدول أعلنت توجهها الموالي للغرب وبعضها انضم لحلف الناتو أخرى للاتحاد الأوروبي.
وجاءت أحداث يوغسلافيا ضربة قوية للروس وخاصة نشوء دولة اسمها كوسوفو في بداية عام 2008 واعتراف الغرب بها مباشرة ومعاقبة ميلوسوفيتش وصربيا السلافية، لذلك تدخلت روسيا عسكريا وبقوة في جورجيا في صيف 2008 واستولت رسميا على جمهوريتين اقتطعتهما من جورجيا وهما “ابخازيا” و “أوسيتيا الجنوبية” واعترفت باستقلالهما. وكان ذلك الموقف صادما للغرب. لأن بوتين بدأ ينفذ ما يقول على أرض الواقع.
وتمكنت روسيا من عرقلة انضمام جورجيا إلى ” الناتو “، وجعلتها دولة لا تتحقق فيها شروط عضوية الحلف، واستخدمت لاحقا نفس النهج مع أوكرانيا بعد ضم القرم.
ولقد ترك في نفس الرئيس بوتين أثرا عميقا ما جرى في العراق وليبيا. فالولايات المتحدة اسقطت نظام صدام حسين وسمحت بقتله شنقا عام 2006. وكذلك حدث مع القذافي الذي اتخذ قرار دولي في 2011 بالتدخل في ليبيا وامتنعت روسيا عن التصويت مما سمح للقرار الدولي بالنفاذ، حيث أسقط نظام القذافي وقتل شخصيا.
ولا ننسى ان روسيا تعيش أوضاعا اقتصادية واجتماعية صعبة، حيث يفيد استبيان مركز ليفادا الروسي بأن حوالي 57 % من الروس يرون أن الأيام القادمة ستكون سيئة جدا، و71% من الروس قلقين على مستقبلهم، بينما ثلاثة ارباع سكان روسيا ليس لديهم مدخرات تعينهم وقت الازمة. وهناك الملايين سيبقون بدون عمل بعد انتهاء الوباء. كما أن عدد الفقراء في روسيا يقدر بأكثر من 20 مليون وفق الاحصاءات الرسمية ولكنه في الواقع اكثـر من ذلك.
----------------------
ميسلون للثقافة والترجمة
عيون المقالات
مستقبل لبنان بعهدة شيعته!
23/11/2024
- فارس خشان
هل تخشى إيران من الأسد أم عليه؟
23/11/2024
- ضياء عودة
المهمة الفاشلة لهوكستين
23/11/2024
- حازم الأمين
نظام الأسد وحرب النأي بالنفس عن الحرب
21/11/2024
- بكر صدقي
الأسد الحائر أمام الخيارات المُرّة
17/11/2024
- مالك داغستاني
العالم والشرق الأوسط بعد فوز ترامب
17/11/2024
- العميد الركن مصطفى الشيخ
إنّه سلام ما بعده سلام!
17/11/2024
- سمير التقي
تعيينات ترامب تزلزل إيران ورسالة خامنئي للأسد تتعلق بالحرب التي لم تأتِ بعد
17/11/2024
- عقيل حسين
هذا التوجس التركي من اجتياح إسرائيلي لدمشق
16/11/2024
- عبد الجبار عكيدي
السوريات في الحياة الأوروبية والتجارب السياسية
15/11/2024
- ملك توما
هل دقّت ساعة النّوويّ الإيرانيّ؟
13/11/2024
- أمين قمورية
بشـار الأسـد بين علي عبدالله صـالـح وحسـن نصر الله
13/11/2024
- فراس علاوي
“وقف الحروب” اختبارٌ لترامب “المختلف”
13/11/2024
- عبد الوهاب بدرخان
( ألم يحنِ الوقتُ لنفهم الدرس؟ )
13/11/2024
- عبد الباسط سيدا*
قنبلة “بهتشلي”.. ماذا يحدث مع الأكراد في تركيا؟
13/11/2024
- كمال أوزتورك
طرابلس "المضطهدة" بين زمنين
13/11/2024
- د.محيي الدين اللاذقاني
حين تمتحن سورية تلك النبوءات كلّّها
12/11/2024
- ايمن الشوفي
اليونيسيف ومافيا آل كابوني دمشق
12/11/2024
- عبد الناصر حوشان
هل تتهدد الحرب الأهلية لبنان؟
10/11/2024
- حازم صاغية
رئاسيات أمريكا والصوت اليهودي: أبعد من أطرش في الزفة
09/11/2024
- صبحي حديدي
|
السياسة الروسية في سورية، حيثياتها، نتائجها وآفاقها
|
|
|