المعركة من أجل الديمقراطية قديمة في ربوع العالم العربي، تزيد على 3 عقود في غالبية البلدان العربية، وبعضها أكثر من 6 عقود متصلة.
والعقود الثلاثة المعنية هنا، هي التي تفصل بين التحول الظاهري في بعض البلاد العربية من أنظمة الحزب الواحد، إلى نظام تتعدد فيه الأحزاب شكلا، ولكن تسيطر فيه مؤسسات الدولة الشمولية موضوعا، وفي البعض الآخر التحول إلى نوع من الانفتاح المجتمعي داخليا مع بقاء جوهر الحكم على ما هو عليه.
وما تفعله الحملة الأمريكية من أجل ما تسميه نشر الديمقراطية في البلدان العربية والإسلامية، يُـخلط الأوراق أكثر مما يفك طلاسمها. فعلى الأقل يجعل من تلك القضية، التي هي قضية تطور سياسي محلية ووطنية وداخلية بالدرجة الأولى، قضية تدخل خارجي ينبغي التصدي له.
مثل هذا الخلط يزيد من تعقيد الحالة الديمقراطية في البلاد العربية. كما أنه يدفع بالكثيرين إلى موقف حيرة كبيرة، حيث تتوه الخيارات وتختلط المعايير إلى حد كبير.
والمفارقة الأكبر هنا، أن وجود شبهة ضغط خارجي لتغيير البُنى السياسية في البلدان العربية يقود إلى نتيجة سلبية بكل المقاييس، وهي ببساطة شديدة التغطية على الأسباب المحلية الصرفة التي قادت إلى المأزق الديمقراطي الذي تعيشه كل الدول العربية، وإن بدرجات مختلفة، بل يجعل البعض في موقف مضاد للتحول الديمقراطي المرغوب نفسه.
المأزق الديمقراطي المعني هنا يُـشير إلى النقطة التي وصلت إليها الدول العربية، حيث تتزايد المطالب الشعبية بتغيير النّـخب الحاكمة والتداول السلمي للسلطة والإصلاح، وتوسيع مساحة المشاركة الشعبية وغير ذلك من مفردات التحول إلى نظام تعددي تلعب فيه صناديق الانتخابات الدور الرئيسي في انتقال السلطة من نخبة إلى أخرى، ومن جيل إلى آخر.
وحين تُـطالب الجماهير بشيء، فهذا يعنى ببساطة أنه غير موجود، حتى لو توافرت بعض المفردات الشكلية والشعارات السياسية التي تقول إنه موجود. فالمسألة ليست شعارات أو حالة تعبئة جماهيرية أو نوعا من الوهم الخادع، وإنما منهج حياة تفتقده المجتمعات العربية وتحلم بوجوده وتشعر بوطأة غيابه، لاسيما في ظل الهجمة الشرسة والمتزايدة من قبل الولايات المتحدة.
عــلاقــة غــيــر ســويـّـة!
لماذا غابت الديمقراطية إذن عن عالمنا العربي؟ يُـمكن للمرء أن يضع يديه على مجموعة من الأسباب والعوامل البنيوية والمعنوية لهذا الغياب.
أول تلك الأسباب تتعلق بطبيعة الثقافة السياسية السائدة في غالبية البلدان العربية، ونعني بها مجموعة القيم السائدة التي تتعلق بالحياة السياسية والعلاقة بين الحاكم والمحكوم، وهي قِـيم قائمة على طاعةٍ عمياء لأولي الأمر دون مراجعة أو نقد، وتمجيد الزعيم والقائد واعتباره زعيما تاريخيا بيده مصير الأمة وقدرها، ولا يجوز النظر إليه إلا كخيار يتحكم به القدر مجيئا وذهابا.
ومثل هذه الثقافة لا تُـحبِّـذ دورا للجماهير إلا في إطار الوقوف خلف الزعيم لتأييده والانتصار له. ولا تتصور أن يكون لهذه الجماهير دور في تغيير الزعيم، أو الإتيان بغيره تراه الأفضل لها.
فالمطلوب منها هو البيعة أولا، وتجديد البيعة ثانيا وثالثا، ولا شيء غير ذلك. إنها جماهير مسلوبة الإرادة لا تعرف كيف تأخذ قرارها وليس مطلوب منها أن تكون كذلك.
حين تشيع ثقافة سياسية تمجد الزعيم وتنزع عن الجماهير قدرتها على الفعل، يُـصبح العقد الاجتماعي السائد قائما على نوع من التسلط والإكراه، وهما بندان يغيب معهما أي علاقة سوية بين الحاكم والمحكوم، كما يصبح المصير كله بيد نخبة محدودة العدد ولكنها مهيمنة على مفردات الحياة السياسية، مقابل غالبية جماهيرية مغيبة وغائبة معا
مأزق نخبة منغلقة ومحدودة
محدودية النخبة الحاكمة هي العامل الثاني وراء المأزق الديمقراطي العربي. والشيء المحدود هو منغلق على ذاته لا يسمح لأحد أن يدخله إلا بشق الأنفس ووفق مواصفات خاصة تتلاءم مع طبيعة النخبة نفسها.
وحين تنغلق النخبة على نفسها، تصبح الوجوه هي نفسها التي تسيطر على المناصب الوزارية والهيئات الحكومية والأحزاب الشكلية، إن وجدت، والنقابات المهنية وحتى المنظمات غير الحكومية، إذا كان مسموح وجودها.
ومع مرور الزمن، تصبح النخبة أكثر عمرا، وفاقدة لعنصر الشباب ولا تعرف بالتالي ظاهرة تجديد الدماء أو تغيير الوجوه. وحتى إذا ما أُضِـيف عنصر أو آخر إلى النخبة، فيكون ذلك من قبيل ذر الرماد في العيون، أو لكفاءة خاصة تخدم النخبة الأم، أو نوع من المكافأة لخدمات جليلة قدمت من قبل للنخبة الحاكمة.
النخبة المحدودة في الحكم هي نوع من الشلة السياسية بكل ما فيها من ظواهر مرضية تتعلّـق بالتشبث بالمناصب، وتقاسم المنافع في دائرة محدودة، والتمركز حول القائد الزعيم والتنافس من أجل إرضائه، أحيانا على حساب الوطن، وأحيانا أخرى على حساب الغالبية العظمى من المواطنين.
النخبة المحدودة لا جذور لها في الشارع السياسي، فهي مفروضة على الناس، والفجوة بينها وبين المواطنين في اتساع دائم، سواء كان ذلك في نظم ملكية بأنواعها المختلفة، أو جمهورية تسلطية.
فالأولى، جاءت تاريخيا وفق مفردات التسيد بالقوة والإجبار والفتح العظيم. والثانية، إما بالانقلابات العسكرية أو عبر نظم الحزب الواحد الشمولية، أو بهما معا.
ومن هنا، فمثل هذه النخبة لا تشعر بما يسود المواطنين من مشاعر تجاه طريقة حكمها والإخفاقات الكثيرة التي تتوالى وتتراكم على يديها. كما أن معنى الانتماء للوطن يبدو للجماهير فاقد المعنى. فأين الوطن وهو تُنهب موارده على يد عدد محدود من أبنائه، بينما الغالبية في ضنك من العيش، وكيف يكون انتماء لوطن، وهو لا يسمح للمرء بإثبات ذاته ويحجب عنه المشاركة في بناء الوطن وتطويره؟
مشكلة النخبة المحدودة في كثير من البلاد العربية أنها أتت من حقبة معروف عنها سماتها الشمولية والاستبدادية، والتنظيم السياسي الواحد، وإذا بها تقود مجتمعا يُراد له أن يكون تعدديا وحرا، في الوقت الذي نشأت النخبة على الفكر الواحد والفعل الواحد، ولم تتخيل في صباها السياسي وجود الرأي الآخر، والتنافس الحر الشريف.
إنها الحرس القديم متجذر المصالح الذي يدرك أن ذهاب الغطاء الشمولي عنها سوف يكشف كل موبقاتها وعوراتها، وكل ما خلفته للوطن من تراجع وتدهور. ومن هنا، فإن معركتها التاريخية هي ضد التغيير والتطوير. وحين تضطر لرفع شعارات ديمقراطية، تعرف تماما كيف تجعلها مجرد شعارات لا أكثر ولا أقل.
سياسات تعبوية بهدف الإسكات!
يكمُـن العامل الثالث للمأزق الديمقراطي العربي في السياسات التعبوية التي تنتجها النخبة المنغلقة على ذاتها، وهي سياسات تسعى إلى حشد الجماهير وراء النظام دون أن تسمح لها أن تسهم في إدارة النظام أو تغييره سلميا، وهي تعبوية لأنها تأتي غالبا من أعلى إلى أسفل، وتغيب عنها فضيلة التفاعل والشحن المتبادل بين أركان وعناصر المجتمع.
ونظرا لأنها تأتي من نخبة منغلقة على نفسها، فهي، أي السياسات التعبوية، تكون مصمّـمة في الغالب الأعم على حماية واستمرار الوضع القائم.
وقد تتضمن تلك السياسات بعضا من الفوائد والعوائد التي تمنح للغالبية العظمى من الناس، تكمن أساسا في الجوانب الاجتماعية والصحية، ويكون هدفها إسكات الناس عن المطالبة بحقوقها السياسية المشروعة، وتعد في الغالب نوعا من الرشوة السياسية، وتدليلا زائفا على أن الحكم يراعي الجماهير الفقيرة والمتوسطة الحال.
استمرار هذه السياسات التعبوية والشعبوية هي نوع من الغزل غير العفيف بين حكم فاسد، وبين محكومين مغيبين خانعين للأمر الواقع، وهو المؤشر الواضح على مأزق النظام وشموليته، وهو الدليل على أن وجود أحزاب أو بعض مفردات المجتمع المدني ليست إلا شكلا جماليا و"ديكورا" فاقد المضمون. فالحياة الحزبية الحرة والمجتمع المدني الفاعل لا يستقيمان أبدا مع السياسات التعبوية.
بيروقراطية متكلسة
الجمود الذي يصيب الحياة السياسة العربية ألقى بظلاله على الجهاز الإداري الذي هو بطبيعته "شكلانى" ومضاد للمبادرة ويحمل الشك تجاه المواطن حتى في حقوقه البسيطة والتي يقررها القانون السائد.
ومثل هذه البيروقراطية المتكلسة تكون في الغالب مصدرا للقيادات الوسيطة والعليا، ونظرا لأنها اعتادت السكون والمعالجة الشكلية للمشاكل التي تواجهها، تعكس نفس السلوك على العمل السياسي الذي هو بدوره ديناميكي ومتحرك، ولا يعرف النظرة الأحادية أو الخوف.
وحين يقع العبء على هؤلاء لتطوير الحياة السياسية، يكون الميل الأكبر ناحية إبقاء الأمور على حالها، والتسلح بشعار ما تعرفه أفضل مما لا تعرفه.
وفي الحالات النادرة التي سُمح فيها بتولي حزب أو أكثر الحكم، جاء ذلك تحت مظلة تدخل قوى مهيمنة من وراء ستار، وهي قوى أمنية تعمل دون أن يراها أحد، وهي التي تحدد مستوى الحركة ووجهتها دون أن يحاسبها أحد، هي التي تحكم على وطنية هذا التيار أو خروجه عن الشرعية، وهي التي تسمح لهذا بالمشاركة في الانتخابات، غالبا ما تعرف نتائجها قبل أن تحدُث، وتمنع ذاك عن مجرد التفكير بالمشاركة، وإن تجرّأ فالسجن مصيره غالبا، أو التشريد والمطاردة في أكل العيش وفي الحد الأدنى من الأمان الشخصي. وإذا جاءت نتائج اللعبة مخيبة للآمال أو تفتح الطريق أمام تغيير حقيقي، تتحرك الدبابات لتُـلغى النتائج وتبدأ دوامة العنف ويعيش الناس تحت سطوة العسكر.
مزيد من الضعف والإنكشاف
غياب الديمقراطية العربية له صلة وثيقة بذلك الصراع الذي شهدته أنظمة عربية عديدة مع جماعات الإسلام السياسي. وإذا كانت تلك النظم بحاجة إلى التغيير، فإن الوسيلة والمنهج الذي اتبعته تلك الجماعات حيث العنف والقوة والمنهج الانقلابي على الدولة والمجتمع والناس أنفسهم، جاء بنتائج عكسية على الجميع.
فمن ناحية برر للنظم الحاكمة قسوتها وشدتها وتمسكها بالوضع القائم لأن البديل الذي يطرح نفسه هو خارج القانون وهدفه السطو على الحكم. أما الجماعات نفسها، فقد أظهرت كيف أنها لا تعرف حرمة للناس ولا للمصالح الجماعية للمجتمع، وأنها تعلن سعيها لإعلاء الشرع في الوقت نفسه الذي تتجاوزه وتخرج عن أبسط قواعده ومسلماته التي لا خلاف عليها.
وبين الطرفين، ضاعت تضحيات المنادين بالتعددية والحرية والشفافية، واستقر المجتمع في أحضان النظم القائمة خوفا من مجهول قادم قد يستفيد من حرية عابرة ليحولها إلى شمولية أصولية مستحكمة.
ونظرا لأن موارد البلاد العربية محدودة وضعيفة أصلا، فقد أدى الصراع مع جماعات الإسلام السياسي إلى مزيد من الضعف ومزيد من الانكشاف، فضلا عن صورة دولية قاتمة يصعب تغييرها إلا بتغيير كامل المنظومة السائدة.
الحل المتبقي؟
وأيا كانت نظرتنا إلى دور المؤسسة الدينية في النظام الديمقراطي المرغوب، فإن ضعف تلك المؤسسات وغياب الاجتهاد عنها ورضائها بدور محلل أخطاء النظام القائم والمبرر للسكون بدلا من الحركة يجعل وجودها على هذا النحو عائقا إضافيا أمام أي تحول ناحية الأمام.
والغالب في المؤسسات الدينية الرسمية، إما سطوة الأفكار المتشددة أو الاكتفاء بالتقليد، وكلاهما ضد التحول الديمقراطي السلمي، وضد روح الدين الإسلامي نفسه.
وحين تكون المؤسسات المعبرة عن الدين الرسمي في صف البقاء "مكانك سـرْ"، تبدو الفرصة قائمة أمام جماعات الإسلام السياسي لتحل محلها بين الناس، لاسيما البسطاء، والجهلاء، وعديمي المعرفة، وقليلي التفكير.
ومن ثم، ينقسم المجتمع ما بين مؤسسات جامدة، أو جماعات انقلابية، وكلاهما يجعلان من الدين عاملا مضادا للتطور، وتلك مصيبة كبرى، لأن الإسلام نفسه دين للتطور والتحرك إلى الأمام، ولا يقر الجمود تحت أي مبرر.
والمصيبة الأكبر أن يأتي من يُـحدث العرب والمسلمين عن تطوير مفاهيمهم الدينية من خلفيات دينية وسياسية تعلِـن كراهيتها للإسلام صراحة ودون مواراة. ولو كان هناك من يغير على هذا الدين ويعمل عقله حسب شرائعه ويتقي ربّـه، لما استقر بنا المقام، هكذا بين شقي الرحى.
مأزق سياسي ديمقراطي يستعصي على الحل، وموارد محدودة تزداد انكشافا وضياعا، وتشتت في الخيارات، وضغوط متزايدة تهدف إلى إنكار هويتنا والتلاعب بديننا. وفي كل الأحوال، تبدو الثورة الجذرية بمثابة الحل الباقي ... ومن يدرى؟