أما مضامين هذا الحل المفترض، فإنما تستند إلى مخرجات مؤتمر سوتشي (أواخر 2019 ) التي تختزل القضية السورية بإصلاحات دستورية تفضي إلى إشراك قسم من المعارضة المنتقاة في حكومة الأسد، ولكن مع ذلك، فإن تفاعل نظام الأسد مع مبادرة التطبيع مع أنقرة لم يكن يوازي الحماس التركي، بل ظل الأسد متردّداً بفعل الكابح الإيراني الذي يرى لنفسه الأحقية في هندسة مصير نظام دمشق من جهة، كما يرى لنفسه الأولوية في الاحتفاظ بمصالحه في سورية من دون منافس آخر من جهة أخرى، وبهذا تكون مطالب الأسد لتركيا بالانسحاب من الأراضي السورية شرطاً سابقاً لأي عملية تقارب أو تطبيع بين البلدين ما هي إلّا رغبة إيران باستبعاد أي عملية مصالحة لا تكون طهران هي مطبخها الرئيس.
لم تخفِ أنقرة تطلعاتها من وراء مسعاها للتقارب مع نظام الأسد، إذ إن القيام بخطوة استباقية للتفاهم مع دمشق قد تفضي إلى إبعاد قوات سوريا الديمقراطية (قسد) التي تقودها الذراع العسكرية لحزب الاتحاد الديمقراطي من حدودها الجنوبية، وبالتالي إجهاض الحلم الكردي بإقامة كيان سياسي يهدد أمنها القومي، لهو أولوية ليس لحزب العدالة والتنمية (الحاكم) في تركيا فحسب بل ربما يجسّد شعاراً يداعب مشاعر معظم الشعب التركي.
لا تستبعد أنقرة أن يؤدي أي توغل إسرائيلي في الجغرافيا السورية إلى تكريس التقسيم الحالي، أي شرعنة سلطات الأمر الواقع
ولئن أبدت أنقرة، طوال السنوات السابقة، توجساً، بل امتعاضاً شديداً من الدعم الذي توفره الإدارة الأميركية لقوات سوريا الديمقراطية، بحكم التنسيق العسكري القائم بينهما، فإن هذا الامتعاض التركي بدا أكثر تبلوراً وتنامياً منذ أن بدأت إسرائيل حربها على حزب الله في لبنان أوائل سبتمبر/ أيلول الماضي، مع وضوح سعي إسرائيل ليس للإجهاز على حزب الله في لبنان فحسب، بل مطاردة فلول المليشيات الإيرانية في سورية أيضاً، واستهدافها أينما وجدت على الأراضي السورية، الأمر الذي ربما يفضي بالنتيجة إلى اجتياح إسرائيلي قد يطاول قسماً من الأراضي السورية، بل لا تستبعد أنقرة أن يشمل الاجتياح الإسرائيلي دمشق بذاتها، وهذا ما حذّر منه الرئيس التركي أكثر من مرة خلال فترة قصيرة، مُفصِحاً عن أن تداعيات الخطر الإسرائيلي لن تتوقف داخل العمق السوري فحسب، بل ستطاول تركيا أيضاً، فماذا يعني هذا التخوّف التركي؟
ربما يبدو من نافلة القول إن ثقة أنقرة بحليفتها التقليدية (واشنطن) قد تعرضت لتصدعات كبيرة خلال السنوات الماضية، وقد تعززت هذه التصدّعات بالدعم الذي تقدمه الإدارة الأميركية لقسد، ولعل هذه الخيبة التركية من السياسة الأميركية هي ما دفعت أنقرة للتقارب مع روسيا على حساب علاقاتها مع دول الناتو عموماً، وبناء على ذلك، لا تستبعد أنقرة أن يؤدي أي توغل إسرائيلي في الجغرافيا السورية إلى تكريس التقسيم الحالي، أي شرعنة سلطات الأمر الواقع، وحينها ستكون حكومة قسد تحت حماية مباشرة من جانب إسرائيل وواشنطن، وحينها ستكون أنقرة في موقف شديد الحرج، ذلك أن تنسيقها مع فصائل الجيش الوطني وامتداد نفوذها على عدة مدن وبلدات في الشمال السوري منذ صيف 2016 لم يحولا دون نشوء كيان كردي طالما قاومته أنقرة منذ سنوات طويلة.
لاترى تركيا في أي خطوة أميركية تجاه دمشق إلّا جزءاً من خطر يهددّ مصالحها
ولعل أكثر ما تخشى منه أنقرة في حال التوغل الإسرائيلي باتجاه دمشق هو التقسيم الفعلي لسورية وقيام كيان علوي في الساحل السوري مجاور للحدود التركية، حيث يوجد على الضفة الأخرى عدد كبير من العلويين الأتراك، سيكون هذا الكيان مدعوماً أيضاً من إسرائيل والغرب، ما يجعل التهديد مضاعفاً، من الجنوب الشرقي الكيان الكردي ومن الجنوب الغربي الدولة العلوية وما يمكن أن يشكلا من تهديد كبير للأمن القومي التركي.
للمخاوف التركية من وصول إسرائيل إلى عمق الأراضي السورية ما يعززها من معطيات، في ضوء ما يصدر من مواقف وتصريحات غربية، لعل أهمها تصريح المبعوث الأميركي الأسبق إلى سورية جيمس جيفري، أخيراً، بخصوص رغبة واهتمام واشنطن وتل أبيب معاً بالتقارب مع النظام السوري، الأمر الذي يثير مزيداً من ريبة تركيا التي لا ترى في أي خطوة أميركية تجاه دمشق إلّا جزءاً من خطر يهددّ مصالحها، ولعل هذا ما يفصح عن فحوى التصريحات التي أدلى بها وزير الدفاع التركي يشار غولمار يوم 13 من نوفمبر/ تشرين الأول الجاري، مُحفّزاً نظام دمشق على استغلال فرصة اللقاء مع الرئيس أردوغان باعتبارها مناسبة لخروج سورية من مأزقها الراهن.
-------------
العربي الجديد