قد لا تكون حياة الملكة نازلي مهمة في ذاتها، لكنها بلا شك كاشفة عن حياة القصور التي ظل ساكنوها يحكمون مصر عقودا طويلة، وعن طبيعة الضباط الذين انتزعوا الحكم من هؤلاء. نستطيع بقراءة الكتاب أن نفوز بمتعة الحكاية المدهشة، المفعمة بالتطورات الدرامية العنيفة، وأن نفوز أيضا بمعرفة واضحة عن طبيعة السلطة في مصر.
يركز الكتاب، بشكل مفصل، على حياة الملكة نازلي مع رجال السياسة، كونها ابنة وزير الزراعة المصري وقتها وتربيتها الراقية في أفضل المدارس، وزواجها السريع من خليل باشا ثم طلاقها، وعلاقتها الغرامية مع سعيد زغلول ابن شقيق سعد زغلول الذي انشغل بالسياسة، تاركا محبوبته فريسة للملك فؤاد المهووس بإنجاب ولي عهد، ثم حياتها في جحيم الحرملك وإنجاب فاروق، ومعاناة الحياة مع فؤاد حتى موته وآمالها العريضة بعد حكم فاروق وعلاقتها الغرامية مع أحمد حسنين باشا رئيس الديوان الملكي، ثم اشتداد الصراع بينها وبين ابنها فاروق، ما أدى إلى فرارها مع ابنتيها فتحية وفايقة إلى خارج مصر، ثم وقوع انقلاب ضباط يوليو، وتزويج ابنتها فتحية من رياض غالي، الموظف المصري المسيحي الفقير (كيدا في ابنها فاروق)، وهو الذي سيستولي على أموال الملكة وابنتيها، قبل أن يدمر كل شيء بقتل الأميرة فتحية بعد طلاقها منه.
المؤلفة صحفية مهتمة بالشخصيات العامة، فقد صدرت لها كتب مثل "شخصيات وعواصف"، تتناول فيه سيرة مبدعين متنوعي الاهتمامات، و"يوسف وهبي.. سنوات المجد والدموع".
لعل ذلك ما يفسر غلبة الأسلوب الصحفي على كتابها عن الملكة نازلي. وهو ما يضعنا أمام مأزق يتضح من بدايات الكتاب. فمن ناحية، بذلت المؤلفة جهدا هائلا في تقصي كل المعلومات المتاحة عن الملكة نازلي، حتى إنها أعادت صياغة أجزاء مهمة من الكتاب في طبعته الثانية بعد أن أثارت الطبعة الأولى اهتمام بعض المتابعين لشؤون الملكة نازلي وأسرتها، مثل الأستاذ أحمد حبيش الذي كان محاسبا قانونيا استعان به المحامي برينفيلد، الذي وكلته الأميرة فتحية للتقاضي نيابة عنها في قضية طلاقها من رياض غالي.
واحتفظ حبيش بأربعة صناديق كبيرة ملآى بالوثائق والمستندات التي تخص رياض، ذلك القاتل الذي وضع الخاتمة المأساوية لحياة العائلة الملكية.
ويشهد الكتاب أيضا على الجهود الكبيرة التي بذلتها المؤلفة بحثا عن أي مصدر للمعلومات. فقد كانت حياة الملكة نازلي غامضة قبل زواجها من الملك فؤاد في الخامسة والعشرين من عمرها. لم يكن معلوماً من هو زوجها الأول، وكيف عاشت حياتها بين الزيجتين، لكنَ راوية راشد عثرت، في مكتبة جامعة بيركلي، على نسخة من كتاب نادر هو: «بويل أُوفْ إِيجِبْت»، لكلارا بويل، التي يبدو أنها كانت صديقة للملكة نازلي فأرّخت تفاصيل حياتها آنئذ.
لكن من ناحية أخرى، غلب على أسلوب الكاتبة الطابع الصحفي ذي النبرة الدرامية أحيانا والعاطفية أحيانا أخرى، بحيث جعلها ذلك تفصح عن انحيازاتها وعواطفها، على نحو أظن أنه أضر بالكتاب، الذي تقتضي طبيعته سرد الوقائع الخالية من عواطف الكاتب وانحيازاته، خاصة السياسية منها.
ومن أمثلة إقحام عواطفها الخاصة على الكتاب، بحيث يخرج عن التوثيق الدقيق إلى الأحكام العاطفية، قولها: "فقد كانت حياة الملكة نازلي أشبه بعقد تناثرت حباته في كل أرجاء الدنيا، من القاهرة إلى إسطنبول، ومن فرنسا إلى الولايات المتحدة، ومن إيران إلى سويسرا، وجوه عديدة وشخصيات درامية يعجز أي كاتب عن صنعها، وأقدار عصف بها الزمن وغدرت بها الدنيا".
يحق لنا أن نسأل الكاتبة هنا بعض الأسئلة: لماذا غدرت الدنيا بالملكة نازلي؟ ألم تدفع ثمن اختياراتها الخاصة؟ لقد رحلت عن مصر غاضبة على ملكها فاروق، وظلت تسعى في إيذائه أينما وجدت إلى ذلك سبيلا، بل بلغ الأمر بها أنْ زوّجت ابنتها لموظف مسيحي فقير، يناقض جميع ما تمثله الملكية التي هي مدار حياة ابنها، ومعلوم كيف أدت تلك الزيجة إلى عداء رسمي بينها وبين ابنها. لم تتحر الملكة نازلي عن رياض، ولم تفكر في اختباره بأي شكل، وسرعان ما كشف عن مجرم لئيم، استولى على أملاكها ثم قتل ابنتها.
هل هذا غدر الدنيا أم عاقبة سوء الاختيار؟ ولماذا تشبه هذه الحياة البائسة بالعقد النفيس؟
في أكثر من موضع تخلط الكاتبة الحقائق بمشاعرها الخاصة، كأن تقول: "وانتهى الأمر إلى أن عاشت في الولايات المتحدة الأمريكية أكثر من ثلاثين عاما في المنفى الذي اختارته بمحض إرادتها؛ حيث قطعت طريق الشوك بكل آلامه بعد أن تبددت ثروتها وتم إعلان إفلاسها". أتصور أنه لا مجال هنا لكلمات مثل طريق الشوك وآلامه... لأنها لم تكن إلا نتائج طبيعية لاختيارات الملكة نازلي.
ثمة أمثلة كثيرة لهذا الانحياز العاطفي، كأن تبالغ الكاتبة في مديح الأميرة فتحية لمجرد طلبها الطلاق من غالي، واتهامه بالاستيلاء على أملاك الأسرة، كأن ذلك ليس تصرفا بديهيا تأخرت الأميرة فتحية كثيرا في تنفيذه.
من أمثلة انحيازاتها السياسية امتداحها الصريح للخديوي إسماعيل والإشادة بما بناه من منشآت جديدة مثل دار الأوبرا وحدائق الأزبكية، مع أنها تعترف بعد سطور قليلة بأن أداء الخديوي كان سببا مباشرا في وضع مصر تحت الوصاية الأجنبية. وهي تكيل المديح إليه باعتبار ذلك "بشهادة التاريخ"، دون أن توضح لنا أي تاريخ تحديدا، وكيف شهد بذلك للخديوي إسماعيل الذي بنى المباني الفاخرة وشعبه يئن تحت وطأة الجوع والمرض.
مع ذلك، توثق الكاتبة، بدقة، أحداثا كاشفة للغاية عن طبيعة الحكم في مصر، تقول عن ضباط يوليو 52: "فبعد قيام ثورة ألف وتسعمائة واثنين وخمسين جمع رجال الثورة كل المجوهرات الملكية وقاموا بمصادرتها على اعتبار أنها كنوز من أموال الدولة، وبالتالي فقد تمت مصادرة مجوهرات الأميرة فوزية بما فيها العقد الشهير الذي صنعه «فان كليف» كجزء من الشبكة التي قدمها زوجها محمد بهلوي عند زواجها منه.
وفي عام ألف وتسعمائة وخمسة وستين نشرت صحيفة "ديلي تلغراف" اللندنية خبر محاولة إحدى بنات أحد أعضاء مجلس الثورة المصري بيع عقد الأميرة فوزية الشهير، إلا أن المحل الذي تمت فيه محاولة البيع عرف أن العقد من صنع "فان كليف آند آرابل"، فقام بالاتصال بمحل فان كليف لتقييمه؛ حيث جاء مندوب فان كليف وفحص العقد ثم طلب التحفظ عليه لأنه من ممتلكات دولة وليس من ممتلكات أشخاص. وبالفعل تحفظ البوليس الإنجليزي على العقد وتم الاتصال بدولة إيران المالك الأول له؛ حيث حضر السفير الإيراني واتصل بوزارة خارجيته التي أمرت بالتحفظ على العقد وإرساله فورا إلى إيران..".
فكرت طويلا بعد الانتهاء من قراءة الكتاب: كيف يحكم مصر ناس كهؤلاء؟ يسمحون لمجرمين مثل رياض غالي باعتلاء أعلى المناصب وتبديد الثروات الطائلة، وبعد سقوط حكمهم يصادر الحكام الجدد مجوهراتهم باسم الوطن، ثم يبيعها أبناؤهم في أسواق المجوهرات في الخارج!
--------
عربي21