الكنائس التي تمنح المسلمين جزءا من أراضيها لا تربط هذه المنحة بمتطلبات فكرية معينة بدليل أن مذاهب إسلامية متنوعة حصلت على مثل هذه المنح، في منطقة واشنطن مثلا تجد مساجد سنية سلفية وإخوانية وشيعية وغيرها من المذاهب الإسلامية. السؤال الذي يطرحه التفكير التقليدي هو التالي: كيف يعطي مؤمن ما أرضا لمن يعتقد أنه ضال وفي النار؟ كيف يساعد على نشر الفساد والضلال؟ إنه بهذا يرتكب جريمة كبيرة سيعاقبه عليها الله. جريمة ليست كالجرائم.. الترويج للأديان الضالة والفاسدة. لا يقبل التفكير الديني التقليدي مثل هذه الأفكار ولا يستطيع تحمل هذه الأسئلة.
صحيح أن في التاريخ القديم كانت هناك فترات تسامح معينة سمحت فيها الدولة لأتباع الديانات الأخرى بممارسة طقوس عباداتهم ولكن ما يجري اليوم مختلف لسبب جوهري. وهو أن الفهم الديني الحديث والمنتشر في الغرب للأديان كلها أصبح يكف عن النظر إلى أتباع الديانات الأخرى على أنهم على ضلال وأنهم سيدخلون النار يوم القيامة. في القرن الماضي أعلنت الكنيسة الكاثوليكية عن أنها لم تعد تكفر أتباع الديانات الأخرى وأن كل يعبد الله بطريقته. هذا الإعلان مهّد إلى تصور جديد للدين ودوره في الحياة يمكن أن يفسّر ما يجري في الغرب. الكنيسة بعد عملية العلمنة في العالم الغربي وبعد أن أبعدت عن السلطة السياسية وبعد حركات التنوير والعقلانية بدأت تنفتح على آفاق إنسانية أوسع وبدأ رجال الدين المتأثرون بروح الحداثة بدفع الكنيسة إلى آفاق جديدة تختلف عن التصورات القديمة. لم يعد قتال الناس بسبب الدين مبررا بأي شكل من الأشكال بل إن المؤمنين بدؤوا يشعرون بتقاربهم بعد أن أصبحوا في عالم متنوع يشاركهم في الحياة ،وبحقوق متساوية، غير مؤمنين.
هذه التصورات من قبل الكنيسة والتي تقابلها من جهة أخرى تصورات إسلامية حديثة وإن لم تصل إلى مستوى المرجعيات المركزية، مهّدت لكثير من التنوع في الأعمال الإنسانية وحتى السياسية حيث إن التصورات الدينية أصبحت متقاربة في قضايا كثيرة من نوع معارضة زواج المثليين ودعم التأمين الصحي للجميع وغيرها من القضايا التي شهدت اتفاقا وتعاونا بين المتدينين على كافة أشكالهم وأنواعهم.
من المهم أيضا أن ننقل الصورة إلى العالم الإسلامي لنكتشف أن الأمور مختلفة تماما، فالدول التي تشهد تنوعا دينيا لا تزال العلاقات بين أتباع الديانات المختلفة تقبع خلف جسور من التخوفات والتحفظات. هذا هو الواقع رغم الظهور الرسمي والسياسي للقيادات الدينية المتنوعة مع بعضها البعض وأحاديث المجاملة. التصورات القديمة لا تزال هي السائدة والمسيطرة وهذا ما يجعل من احتمالات اندلاع حروب طائفية مرتفعة وتحتاج إلى مراجعة وتفكير. ومن نافل القول أيضا أن الأوضاع داخل فرق الديانات نفسها مخيفة ومرعبة أيضا، ما جرى ويجري في العراق ما هو إلا ثقب صغير على هذا القمقم الموحش المرعب، والتاريخ يخبرنا أن الحروب والجرائم كانت داخل فرق الديانات نفسها أكثر من الحروب مع أتباع الديانات الأخرى. وهذا تحديدا ما يجعل من العقلاء في العالم الإسلامي يتحركون من أجل تقديم حلول تساعد على التقارب بين الأديان وتخفف من حدّة التأزمات بينها. أتذكر هنا المؤتمر الذي دعا له الملك عبدالله بن عبدالعزيز لحوار الأديان وابتدأ عمله في الحوار بين الطوائف الإسلامية في مكة المكرمة.
هل يمكن أن نتوقع بناء على كل هذا ظهور تصورات حديثة ومتقدمة عن الإسلام ينجزها المسلمون المقيمون في الغرب وهم اليوم جماعات كبيرة وتحتوي على أسماء مهمة ومؤثرة؟ نتحدث هنا عن جماعات أصبح لها امتداد تاريخي في الغرب وصلات عميقة. هذا الأمر لا يزال في بداياته ولكن الأمور حتى الآن لا تدعو للتفاؤل، يفسر البعض هذا الأمر بكون المراكز الإسلامية في الغرب ما زالت تتلقى الدعم والمساعدات من المرجعيات التقليدية في العالم الإسلامي. إلا أن مراقبة هذا الدعم بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر ربما ساعدت في استقلال المراكز الإسلامية في الغرب ويجعلها تدخل في عملية تفاعل وتطور طبيعي مع البيئات التي تعيش فيها