يعتبر لويس أراغون واحدا من أهم الكتاب الفرنسيين وأكثرهم تأثيراً في القرن العشرين، كان روائياً وشاعراً وناقداً فنياً، وعضواً بارزاً في الحزب الشيوعي والمقاومة الفرنسية، وبقي طوال حياته شخصية رئيسية في المشهد الثقافي الفرنسي، وقد عرف بأعماله السريالية إلى جانب اعتباره شاعراً للمقاومة .
طفل غير شرعي
وُلـِدَ لويس أراغـون في ضاحية “نييللي” المتاخمة لباريس، في عام 1897، كطفـل غير شرعي، وقدمته أمه إلى المجتمع الفرنسي كأخ وليس كابن لها، في الوقت الذي رفض فيه أبوه الاعتراف له رسمياً بالأبوّة.لم يدرك أراغـون، الذي عاش عذابات الفقر، وعانى من عـوز الحياة، حتى فترة متأخرة من حياته، حقيقة وضعه إلاَّ في سن العشرين. وكانت هذه الواقعة أحد مؤشرات تفسير حياة أراغون الفنية، وروحه المتمردة الرافضة، كما أورثه ذلك كرهاً عميقاً لأسلوب الحياة، والأخلاق البرجوازية المتعـفـنة، وزرع في نفسه بذور الالتزام.
انضمامه إلى الحزب الشيوعي الفرنسي
كان للتطورات الاجتماعية التي عاشتها فرنسا ، وعلاقته الخاصة بزعيم الحركة السوريالية، أندريه بريتون، وانضمامه إلى الحزب الشيوعي الفرنسي، الأثر الكبير في التزام أراغون التام، وانحيازه في فـنه ونضاله إلى جانب الجماهير التي آمن بها، وبقدرتها على الفعل والتغيير، حتى يوم رحيله المشفوع بدموع هذه الجماهير، وحبها وتخليدها للرجل الذي أفنى حياته من أجلها، معبراً عن آمالها وتطلعاتها، مستثيراً فيها بكلماته مكامن التضحية، والفداء، باعثاً فيها أسمى المشاعر الإنسانية.أراغـون محرر ثقـافي
في عام 1933 عـمل أراغـون محرراً ثقـافيـاً في صحيفة L’Humanité”الأومانيتيه”، الصحيفة المركزية الناطقة باسم الحزب الشيوعي الفرنسي. كما انتخب في ذلك العام عضواً في جمعية الأدباء والفنانين الثوريين، وأدى نشره لقصيدة “الجبهة الحمراء” لملاحقـته من قبل السلطات الفرنسية، وحُكم عليه بالسجن لمدة خمس سنوات، بتهمة “إهانة العـلم الفرنسي”. إلاَّ أن الحكم لم ينفذأشهر شعراء المقاومة الفرنسية
بالرغم من الملاحقة المستمرة له من قبل الشرطة الفرنسية، إلاَّ أن أراغون استمر في خوض غمار المعترك السياسي، من خلال موقعه الأدبي، والتزامه جانب القوى المضطهدَة. فقد اشترك في عام 1937 في تحرير صحيفة “هذا المساء”، ذات الاتجاه اليساري، التي بلغ معـدل توزيعها نصف مليون نسخة، وبعد أن مُنعت هذه الصحيفة من الصدور، في عام 1939، غادر أراغون فرنسا إلى الولايات المتحدة الأمريكية، بعد لجوئه إلى سفارة تشيلي، من جراء ملاحقة السلطات الفرنسية له.يعـتبر لويس أراغون، دون منازع، أشهر شعراء المقاومة الفرنسية ضد الاحتلال الألماني النازي لبلاده، أثناء الحرب العالمية الثانية. وبالرغم من أنه كان يقف إلى جانبه شعراء فرنسيون بارزون مثل بول إيلوار، وجان كاسو، وبيير جان، وهنري ميشو، ولويس ماسو، وغيرهم، غير أن هؤلاء ظلوا في الحرب؛ كما كانوا في السلم ـ يحملون نبضاتهم الروحية، على أن أراغون نسي نفسه في الصراع، فتكلم عن وطنه المغلوب على أمره، وهو الشاعر الوحيد الذي ترك سجلاً حافلاً بالانفعالات السائدة في زمن الحرب، تلك الانفعالات كانت تستشعر على نمط حقيقي، منذ أول صدمة للتعبئة، حتى فرصة باريس في التحرير.
بعد عودته إلى فرنسا في عام 1939، قادماً من الولايات المتحدة ، أمرت المخابرات العسكرية الفرنسية بوضعه تحت الرقابة الشديدة. إلاَّ أن أراغون، من جانبه، لبى دون تردد نداء التعـبئة، وخدم أثناء الحرب كمساعد طبيب، باعتباره طالباً سابقاً في كلية الطب، ولم يكمل تدريبه فيها.
أراغون أسيرا
في عام 1940، وقع أراغون في أسر القوات الألمانية، إلا أنه تمكن من الهرب، ومُنح لقاء ذلك الوسام العسكري، وهو أرفع وسام فرنسي، وعلى أثر ذلك سُرِّح من الجيش، وكان ذلك في أواخر شهر تموز (يوليو) من العام نفسه.منشورات منتصف الليل
جميع القصائد التي كتبها أراغون، في تلك الفترة الحرجة، من تاريخ فرنسا والعالم، كانت صوراً حية، وتعبيراً صادقاً عن هـول وبشاعة الحرب الدائرة، وعن المقاومة الفرنسية ضد الاحتلال النازي. ومن أهم هذه القصائد “بساط الخوف الأعظم”، “أغاني فرنسا المهزومة”، “الزنابق والزهور”، و “ريتشارد قلب الأسد”.وكان لقصائده أثر كبير في نفوس مواطنيه، من خلال إثارتها للشعور الوطني، والثقة بالنفس، للقيام بتحرير وطنهم، وللانتشار الواسع الذي حظيت به هذه القصائد التي كانت تنشر تحت اسم “منشورات منتصف الليل”، ولا سيما أن البعض منها تحول إلى أغان تتردد على شفاه الصغار والكبار، وأناشيد تنشد في المعسكرات، لهذا كله طلبت حكومة فيشي العميلة من الصحف والمجلات الفرنسية، في المناطق المحتلة، عدم نشر أية قصائد أو روايات جديدة لأراغون.
وقد جمعت هذه القصائد بعد التحرير، ونشرت في باريس باسم “يقظة فرنسا ”. وفي معرض حديثه عن هذه القصائد المطولة يقول الشاعر اليوناني الكبير يانيس ريتسوس: “إنها كانت تبين الألم الشامخ الذي وسم هـذه الأيام، عندما كان كل شخص تقريباً على أتم استعداد لكي يموت من أجل الآخرين”.
أراغون وإلزا
التقى أراغون إلزا تريوليه في عام 1928 في مقهى في مونبارناس، وتزوجا في عام 1939 وبقيا معاً 42 سنة، وإلزا هي كاتبة من أصل روسي تنحدر من عائلة شاعر الثورة الروسية مايكوفسكي، وهي أول امرأة حائزة جائزة “غونكور” الأدبية الرفيعة من فرنسا عام 1945.وحكاية أراغون وإلزا ليست حكاية عادية، بل إنها نوع من الأساطير التي استطاعت قدرة الحب الخلاقة أن تحولها إلى حقيقة، إنها أسطورة تحدث في عصر ودّع منذ زمنٍ بعيد عهد الأساطير والحكايات الخارقة التي تُحكى في ليالي الشتاء الطوال، حول المواقد المتوهجة.
وعن حبه الكبير يقول أراغون: “إلزا التي شاركتني الحياة والمستقبل شاركتني الآلام والعذاب.. إلزا التي شاركتني كل ما في الحياة من نبضات.. كانت هي مستقبلي.. وكانت هي شعري.. وكانت هي حروف المعرفة والمستقبل في حياتي”.
لا يخفى على أحد أن “إلزا” هي المرأة التي جن بحبها أراغون فكتب عنها عدة مجموعات شعرية، “نشيد إلى إلزا 1941″، “عيون إلزا 1942″، “إلز
1959″، “مجنون إلزا 1963″، لكن القليلين هم الذين يعرفون أن إلزا ليست مجرد معشوقة فحسب، إنها رفيقة درب أراغون وحامية هذا
الدرب، هي الزوجة والملهمة، بل هي المركز الذي تشع منه أجمل قصائد الشاعر وأرقّها.
وفاته
توفي أراغون عن عمـر ناهز 85 عاماً بعد أن برهن للعالم، بما لا يدعو مجالا للشك، كيف يمكن أن يكون الإبداع الفني والأدبي نابضاً بالحياة، مؤثراً وصادقاً في ظل الالتزام اللامحدود بقضايا الإنسان والإنسانية. كان لويس أراغون – على حد تعبير الفيلسوف الفرنسي بيير موروا – “صوتاً عظيماً.. غـنـَّى للحياة، في لغة بسيطة ومحكمة”.في الثالث والعشرين من كانون الأول (ديسمبر) من عام 1982، رحل لويس أراغون، وسار في موكب جنازته المهيب أعضاء المكتب السياسي للحزب الشيوعي الفرنسي، إلى جانب كرادلة وأساقفة الكنيسة الكاثوليكية.
--------------
الايام السورية