عرفت الأوساط الأدبية والفلسفية ثنائيات عاطفية عديدة، أثمر بعضها علاقات حب طويلة الأمد، بينما أخفق بعضها اجتماعيا وبقيت مادتها الأدبية مثل المراسلات والمقالات تراثا إنسانيا قيما.
ومن أبرز الثنائيات في عالم الأدب والفلسفة، علاقة فيلسوف الوجودية والأديب الفرنسي جان بول سارتر بالكاتبة والمفكرة الوجودية الفرنسية كذلك سيمون دي بوفوار، ونمط حياتهما العاطفية والفكرية والسياسية التي أثارت اهتمام العديد من الكتاب والباحثين في القرن العشرين، ودعا البعض سارتر والد الوجودية، بينما وصفت دي بوفوار بواضعة الأساس الفكري للموجة الثانية من النسوية التي انفجرت خلال الستينيات.
ولم تكن علاقة سارتر ودي بوفوار علاقة تقليدية أبدا، لم يتزوجا ولم يشتركا في نفس أماكن المعيشة، وبحلول منتصف الخمسينيات من القرن الماضي كان الثنائي قد حقق شهرة واسعة على المستوى العالمي، وتمت دعوتهما لإلقاء المحاضرات في أوروبا وأميركا وآسيا وأفريقيا، وقضيا جزءا مهما من كل عام في السفر الذي كان أشبه باختيار فلسفي يوافق نظريتهما عن الحرية.
وفي مقاله بمنصة "لارا ريفيو أوف بوكس"، قال أستاذ الأديان ودراسات الشرق الأوسط شلوم غولدمان إنهما شهدا نقطة تحول في حياتهما الفكرية والشخصية مع تقدم النازية في ألمانيا وتهديدها اللاحق لأوروبا، وشعرا بأنهما مضطران لاتخاذ خطوات، وكتبت دي بوفوار عن هزيمة فرنسا على يد ألمانيا عام 1940 قائلة "لم يكن هناك تردد محتمل على المستوى الفكري، لم أكن قادرة على فعل أي شيء سوى كراهية النازية.. ما لم أجده هو طريقة لتحويل معارضتي إلى أفعال، كان سارتر هو الذي اتخذ الخطوات اللازمة".
ودعت فلسفة "الوجودية" -التي صاغها سارتر وروجت لها دي بوفوار- المثقفين إلى الانخراط في الشؤون العامة والسياسية، وفي العقدين اللذين أعقبا نهاية الحرب عام 1945 ترسخت الوجودية في أنحاء مختلفة من العالم، بينها العالم العربي.
وفي الفترة من عام 1948 إلى 1967 كان العديد من أعضاء الحزب الشيوعي الفرنسي متعاطفين مع الصهيونية، لكن بعد حرب عام 1967 كان هناك تحول جذري في المواقف تجاه إسرائيل والصهيونية، وأصبحت الأخيرة قضية على أجندة اليمين.
لكن بحلول أواخر الستينيات كان يُنظر إلى إسرائيل على أنها ملحق استعماري غربي، ولم يعد ينظر إليها على أنها دولة اشتراكية محاصرة محاطة بأعداء لا يقهرون، بل كقوة احتلال مع غزو غزة وسيناء والجولان.
وفي المنتديات العامة غالبا ما قدم سارتر ودي بوفوار رؤية موحدة تجاه القضايا المختلفة، لكن فيما يتعلق بقضية فلسطين وإسرائيل- كما سنرى- كانت لديهم استنتاجات مختلفة للغاية.
سارتر ودعم إسرائيل
في عام 1940 انضم سارتر إلى الجيش الفرنسي، واحتجز لفترة وجيزة في معسكر أسرى الحرب الألماني، ثم هرب منه.
كان تحرير باريس عام 1944 من النازيين والهزيمة اللاحقة للجيوش الألمانية في أوروبا هما الخلفية التي ظهرت فيها الفلسفة الوجودية والتي رسم معالمها سارتر ودي بوفوار وآخرون، وفي مقالاته بعد الحرب حث سارتر المثقفين على الالتزام والعمل، داعيا إلى "انبثاق الأدب" أي أدب ملتزم سياسيا، وحث الكتاب والقراء على الانخراط في العمل السياسي.
وفي أواخر الأربعينيات من القرن الماضي دعم سارتر ودي بوفوار إقامة دولة يهودية، وكان اليسار الفرنسي متعاطفا مع الاتحاد السوفياتي الذي كان بدوره داعما لإسرائيل في البداية، وفي عام 1947 قدم سارتر دعمه للصهيونية صراحة في محاكمة تلميذه روبرت مصراحي الذي اتهم بشراء أسلحة لصالح عصابة شتيرن، وهي منظمة عسكرية صهيونية تهدف للاستيلاء على أرض فلسطين بالقوة والتخلص من العرب، وقال سارتر "واجب غير اليهود هو مساعدة اليهود..".
موسكو والجزائر
من عام 1955 حتى عام 1966 سافر الثنائي إلى موسكو كل صيف، وكانت هذه الرحلات بمثابة بادرة تعاطف مع شعب الاتحاد السوفياتي وفرصة للقاء أعضاء اتحاد الكتاب السوفيات، وكانت القضية الدولية التي شغلت معظم انتباه سارتر ودي بوفوار هي الحرب في الجزائر، وأوضح كلاهما الصلة بين انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبت خلال الاحتلال الألماني لفرنسا وانتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبها الجيش الفرنسي في الجزائر
ومع اختتام الحرب في الجزائر عام 1962 -وهي الحرب التي عارضها بقوة سارتر ودي بوفوار وعززت مكانتهما كأبطال يساريين دوليين- تلقيا المزيد من الدعوات للسفر والمحاضرة على خلفية دعمهما النضال ضد الاستعمار في الجزائر وأماكن أخرى، وكتب سارتر مقدمة كتاب الفيلسوف الاجتماعي فرانز فانون "معذبو الأرض" وساهم بالجدل الكبير ضد الاستعمار، وأعلن ما يشبه "تضامنا عاطفيا مع الثوار في جميع أنحاء العالم الثالث".
وعندما رفض سارتر جائزة نوبل للآداب في عام 1964 برر قراره بالقول إن "الكاتب يجب أن يرفض السماح لنفسه بالتحول إلى مؤسسة"، وجعل هذا الرفض غير المسبوق لجائزة ثقافية غربية مرموقة سارتر بطلا في الكتلة السوفياتية وفي الدول الناشئة بعد الاستعمار، بحسب مقال غولدمان في منصة لارا ريفيو أوف بوكس.
وفي خمسينيات القرن الماضي اجتذبت وجودية سارتر العديد من المثقفين العرب الذين أقنعوا أنفسهم بأن سارتر "إلى جانبهم"، خاصة بعد دعمه ثورة الجزائر وتأييده فيدل كاستور، وتشي جيفارا الذي ألف سارتر كتابا حماسيا عنه بعد زيارته لكوبا، وكان من المفترض أن سارتر سيتفهم الثورة الفلسطينية ويتضامن معها، لكن ما حدث كان غير ذلك.
رحلة إلى مصر وإسرائيل
وفي منتصف الستينيات من القرن الماضي، وبناءً على نموذج رحلاتهما السابقة، خطط سارتر ودي بوفوار لرحلة إلى مصر وإسرائيل، حيث قررا زيارة كل بلد لمدة أسبوعين أو ثلاثة، وبحيث تنشر مجلة فرنسية تلخيصهما للزيارة، ووصلا إلى مصر بمساعدة من رئيس تحرير صحيفة الأهرام محمد حسنين هيكل صديق الرئيس المصري جمال عبد الناصر، ولكن قبل الرحلة شرح سارتر في مقابلة صحفية موقفه قائلا إنه يشعر بالتمزق بين صديقين في صراع مع بعضهما البعض، وعبر عن "إعجابه بالكفاح الإسرائيلي ضد إنجلترا، وتضامنه مع سعي العالم العربي من أجل السيادة والإنسانية".
وكما كان معروفا وقتها بأن الحكومة الإسرائيلية ساعدت فرنسا في حربها ضد الثوار الجزائريين، وبالتالي حصلت على مساعدة عسكرية فرنسية ودعم دبلوماسي، وأصبح ذلك موقفا سياسيا بالغ الصعوبة بالنسبة لليسار الفرنسي، وواجه سارتر ودي بوفوار هذا التناقض، خاصة أن أحمد بن بيلا رئيس الجزائر المنتخب حديثا حينها دعا إلى تحرير فلسطين من الاحتلال الإسرائيلي.
ورافق الثنائي في الرحلة صديق بوفوار كلود لانزمان الذي كان صهيونياً حتى النخاع، ومع ذلك رافقهما إلى القاهرة في فبراير/شباط 1967، حيث استقبلوا بحفاوة رسمية والتقوا الرئيس عبد الناصر الذي مدحه سارتر واستنكر صورته السلبية في الصحافة الغربية، وأثارت تصريحات سارتر قلق مضيفيه الإسرائيليين في وقت لاحق.
وفي القاهرة، أعربت دي بوفوار عن استيائها من وضع المرأة المصرية في خطاب بجامعة الإسكندرية، وفي غزة -التي كانت تحكم بإدارة مصرية- شعر لانزمان بغموض سارتر غير الصريح تجاه الصهيونية وغادر غاضبا من سارتر وعاد إلى فرنسا.
وفي إسرائيل، أبدت بوفوار إعجابها بنظام "الكيبوتسات الزراعية" الذي اعتبرته اشتراكيا، وفي مقابلة مع صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية أكد سارتر حق إسرائيل في الوجود، لكنه في لقاء مع مثقفين إسرائيليين استدرك قائلا "يجب أن تفهم أنه من المستحيل تبرير حق اليهود في العودة بعد ألفي عام وإنكار نفس الحقوق للعرب بعد عشرين عاما فقط"، وفي المقابل مدحت دي بوفوار ما رأته في إسرائيل وأبدت إعجابا بوضع المرأة، ولم تذكر الفلسطينيين على الإطلاق ولم تعلق على تصريحات سارتر عن "معاناة السكان العرب"، بحسب مقال غولدمان في منصة لارا ريفيو أوف بوكس.
وعندما عادوا إلى باريس ذكر سارتر في مقابلة صحفية خلافاته مع لانزمان بشأن إسرائيل والفلسطينيين قائلا "إنه في الحقيقة لا يرى ما يحدث للفلسطينيين الفقراء الذين طردوا من أراضيهم، وتم الاستيلاء على منازلهم دون تعويض، وطرد أطفالهم من المدارس، ومضايقتهم من الصباح إلى الليل، وتعرضهم للضرب من قبل غرباء مدججين بالسلاح.
ويعتقد لانزمان أن الإسرائيليين هم ضحايا المحرقة، وبالنسبة له فإن كل من ينتقد سياسة إسرائيل هو "معاد للسامية"، لكن دي بوفوار شددت على إعجابها بالمستوطنات الزراعية الإسرائيلية ونظامها الاشتراكي وأبرزت في مذكراتها المعايير الديمقراطية الإسرائيلية، وتجاهلها سارتر.
حياد زائف
ولكن قبل شهر من حرب يونيو/حزيران 1967 وقع الثنائي بيانا ضمن 66 مثقفا فرنسيا دعا الجمهور الفرنسي إلى دعم إسرائيل، معتبرا أنها "الدولة الوحيدة التي يجري التشكيك في وجودها في حد ذاته، والتي يجري تهديدها من القادة العرب"، وبعبارات واضحة رفض البيان فكرة أن إسرائيل أمة إمبريالية. وتابع البيان "نعتقد أنه من غير المفهوم تحديد هوية إسرائيل بكونها ضمن معسكر إمبريالي وعدواني".
وفي جميع أنحاء العالم العربي قرئ البيان باعتباره خيانة للقضايا العربية والفلسطينية، وطلبت أرملة فرانز فانون -التي غضبت من دعم سارتر لإسرائيل- جذف مقدمته من جميع إصدارات كتاب "معذبو الأرض" المستقبلية، وامتثل الناشرون لطلبها.
وعلى الرغم من هذا الرفض من قبل المثقفين العرب سعى سارتر للحفاظ على موقفه الحيادي المزعوم من إسرائيل والفلسطينيين، وأثار ذلك غضب مضيفيه الإسرائيليين، ولم يرض قراءه العرب الذين اعتبروه خائنا لقضية معاداة الاستعمار، وعندما اندلعت الحرب كانت الوجودية تتراجع بقوة في العالم العربي بسبب تأييد سارتر لإسرائيل، بينما ظل تعاطف سيمون دي بوفوار مع إسرائيل بلا تحفظ، وبعد حرب عام 1973 ترأست حملة دعت الحكومة السورية إلى إطلاق سراح أسرى الحرب الإسرائيليين.
ولم يتم حل خلاف سارتر ودي بوفوار بشأن إسرائيل والفلسطينيين، بل زاد تباعدهما السياسي، وكأنهما اتفقا على على الاختلاف الذي أدى لتراجع المدرسة الفلسفية الوجودية، خاصة في أوساط المثقفين العرب والمعادين للاستعمار الذين رأوا تناقضا هائلا وازدواجية سياسية في مواقف سارتر.