مع ذلك، يبقى لفلسطين موقع سياسي وقانوني و”رأسمال” رمزي وعاطفي لا يخفت كثيراً إقليمياً وعالمياً رغم التراجع الفظيع الذي أصاب الحركة الوطنية الفلسطينية وتهالك سلطتها الوطنية، ورغم تطبيع أنظمة عربية مع إسرائيل، ورغم توظيف أنظمة أُخرى المسألة الفلسطينية لتبرير جرائمها بحق شعوبها وشعوب جوارها، ورغم نشوء مسائل وجودية جديدة في أكثر من بلد.
ولهذا أسباب كثيرة. ففلسطين شكّلت الوعي السياسي لجيلين أو ثلاثة في دنيا العرب، كانت ملح ثقافتهم السياسية وخبزها. وهي جسّدت وما زالت حالة نادرة في التاريخ المعاصر من الاستيطان والاستعمار المستبدل بالقوّة شعباً بوافدين إلى أرضه بذريعة قومية ـ دينية للسطو عليها وتهجيره أو إخضاعه. وهي فوق ذلك ارتبطت منذ سنوات كقضية كفاح شعبي ضد احتلال وظلم بحركات مقاومة للعنصرية والتمييز والعنف السلطوي في دول غربية وإفريقية وأمريكية جنوبية، بما أبقاها حيّة في أوساط جيل جديد من الناشطين الحقوقيين والسياسيين في العالم بأساليب عملهم وأدواته الجديدة. وهي أخيراً ملاذ، إذ “يسهل” التذرّع بها والركون إليها لمن يملك أو لا يريد أن يملك مواقف تجاه قضايا وتيارات وأنظمة في جوارها الجغرافي.
على أن مراد هذا النص ليس البحث في ما ورد أو مناقشة تفاصيله، بل تخطّيه نحو جانب لم يعد يستوفي حقّه من النقاش حول فلسطين. ذلك أن ما تسبّبت به تيارات “الممانعة” القومية والدينية وأنظمتها من تجويف فكري ومن فرض لغة ومصطلحات فارغة من ناحية، وما أفضى إليه حال التعامل مع إسرائيل بحجّة الواقعية وموازين القوى وتبدّل الأولويات من ناحية ثانية، أطاح بنقاش حول موضوعة صارت اليوم الأخطر في العالم بأسره، هي موضوعة الحصانة المستندة إلى القوّة السافرة.
ذلك أن فلسطين تمثّل، في ما هو أبعد من الظلم الذي تعرّض ويتعرّض له شعبُها، وفي ما هو أبعد من المسألة الترابية أو الجغرافية، وفي ما يتخطّى توظيف الأنظمة والتيارات على أشكالها المتضاربة لها، نموذجاً لما تتسبّب به حصانة الأقوياء في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية إن هم قرّروا انتهاك القوانين الدولية وارتكابَ الجرائم واحتقار قرارات الأمم المتّحدة، من دون خشية ملاحقة أو عقاب. فالاحتلال العسكري الإسرائيلي ومصادرة الأراضي والبيوت والسطو على المياه والاستيطان وبناء جدار التمييز العنصري وفرض الحصار على المدنيين واعتقالهم على الحواجز واحتقار قرارات الأمم المتحدة من طرف دولة استخدمت أمريكا قرار الفيتو 52 مرّة لحمايتها من إدانة أو عقوبة محتملة، شجّع ويشجّع أقوياء آخرين (نسبياً) على تقليدها وعلى اعتبار حصانتها مدعاة لحصانتهم. وهذا ساهم ويساهم في إدامة فلسفة الجريمة المنظمّة وفي بحثِ المجرمين الدائم عن حلفاء لدعمهم وتسليحهم أو لفرض مقايضات تقيهم تبعات أعمالهم.
أكثر من ذلك، باتت الممارسات الحربية أو القمعية الإسرائيلية في فلسطين والبروباغاندا المرافقة لها بمسوّغاتها المستدعية “التاريخ”، والمدّعية دفاعاً عن النفس أو استباقاً للعدو والمبرّرة قتل المدنيين لاختباء “مخرّبين” بينهم، أسساً لممارسات وخطابات نقع عليها اليوم في حرب روسيا على أوكرانيا، وفي أدبيات “الحرب الدولية على الإرهاب”، وفي تبرير اضطهاد المسلمين في الهند وفي ميانمار، إضافة إلى حضورها في معظم حروب أنظمة “الممانعة” وحركاتها المسلّحة في منطقتنا على شعوبها وشعوب جوارها، واقتدائها بأساليب إسرائيلية، ولَو مع خطاب يتّهم ضحاياها بالعمالة لإسرائيل!
حتى الأنظمة المطبّعة مع تل أبيب بحجة ضرورة طيّ صفحة “مركزية القضية الفلسطينية” والالتفات إلى مركزيّات وأولويات مستجدّة، لم يعدّل التطبيعُ فيها من مناخات انتهاك الحرّيات أو تفشّي القمع والفساد ولم يُفض إلى تشكيل لغة سياسية جديدة على ما روّج المبرّرون، بقدر ما اعتُمد وسيلة لجلب دعمٍ أو استقواء في مواجهة أعداء داخليين وخارجيين، يُستخدمون بدورهم (تماماً كما استُخدمت إسرائيل من قِبل “الممانعة”) ذريعة لفرض سياسات وإجراءات.
بهذا المعنى، يمكن القول إن “مركزية” القضية الفلسطينية راهناً صارت في مركزية الكفاح ضد حصانة القتلة أو منتهكي القوانين في فلسطين المحتلة ذاتها، كما في دول جوارها المباشر أو الأبعد قليلاً، وفي الكثير من دول العالم ومناطقه الشاهدة حروباً وغزوات واحتلالات وتهجيراً وسطواً على الأراضي، يستظلّ بالمبرّرات التاريخية أو القومية-الدينية أو يزعم مواجهةً لإرهابيين.
وهذا يجعل التعامل معها تعاملاً مع حالة خاصة ترتبط بخصائصها وديناميات الصراع فيها وعليها، ويجعله أيضاً تعاملاً مع “فلسطينات” كثيرة تنشأ في أكثر من رقعة عربية وإقليمية وعالمية ولو بخصائص وديناميات مختلفة. يجمعها إفلات المعتدين فيها والمرتكبين جرائم من الحساب، ويجمعها بقاء العنف المعنوي والمادي مسلّطاً على الناس بلا روادع أو ضوابط أو خواتم، ومستدعياً في حالات كثيرة عنفاً مضاداً، ليس فيه من العدالة ومقتضياتها الكثير…
القدس العربي
ولهذا أسباب كثيرة. ففلسطين شكّلت الوعي السياسي لجيلين أو ثلاثة في دنيا العرب، كانت ملح ثقافتهم السياسية وخبزها. وهي جسّدت وما زالت حالة نادرة في التاريخ المعاصر من الاستيطان والاستعمار المستبدل بالقوّة شعباً بوافدين إلى أرضه بذريعة قومية ـ دينية للسطو عليها وتهجيره أو إخضاعه. وهي فوق ذلك ارتبطت منذ سنوات كقضية كفاح شعبي ضد احتلال وظلم بحركات مقاومة للعنصرية والتمييز والعنف السلطوي في دول غربية وإفريقية وأمريكية جنوبية، بما أبقاها حيّة في أوساط جيل جديد من الناشطين الحقوقيين والسياسيين في العالم بأساليب عملهم وأدواته الجديدة. وهي أخيراً ملاذ، إذ “يسهل” التذرّع بها والركون إليها لمن يملك أو لا يريد أن يملك مواقف تجاه قضايا وتيارات وأنظمة في جوارها الجغرافي.
على أن مراد هذا النص ليس البحث في ما ورد أو مناقشة تفاصيله، بل تخطّيه نحو جانب لم يعد يستوفي حقّه من النقاش حول فلسطين. ذلك أن ما تسبّبت به تيارات “الممانعة” القومية والدينية وأنظمتها من تجويف فكري ومن فرض لغة ومصطلحات فارغة من ناحية، وما أفضى إليه حال التعامل مع إسرائيل بحجّة الواقعية وموازين القوى وتبدّل الأولويات من ناحية ثانية، أطاح بنقاش حول موضوعة صارت اليوم الأخطر في العالم بأسره، هي موضوعة الحصانة المستندة إلى القوّة السافرة.
ذلك أن فلسطين تمثّل، في ما هو أبعد من الظلم الذي تعرّض ويتعرّض له شعبُها، وفي ما هو أبعد من المسألة الترابية أو الجغرافية، وفي ما يتخطّى توظيف الأنظمة والتيارات على أشكالها المتضاربة لها، نموذجاً لما تتسبّب به حصانة الأقوياء في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية إن هم قرّروا انتهاك القوانين الدولية وارتكابَ الجرائم واحتقار قرارات الأمم المتّحدة، من دون خشية ملاحقة أو عقاب. فالاحتلال العسكري الإسرائيلي ومصادرة الأراضي والبيوت والسطو على المياه والاستيطان وبناء جدار التمييز العنصري وفرض الحصار على المدنيين واعتقالهم على الحواجز واحتقار قرارات الأمم المتحدة من طرف دولة استخدمت أمريكا قرار الفيتو 52 مرّة لحمايتها من إدانة أو عقوبة محتملة، شجّع ويشجّع أقوياء آخرين (نسبياً) على تقليدها وعلى اعتبار حصانتها مدعاة لحصانتهم. وهذا ساهم ويساهم في إدامة فلسفة الجريمة المنظمّة وفي بحثِ المجرمين الدائم عن حلفاء لدعمهم وتسليحهم أو لفرض مقايضات تقيهم تبعات أعمالهم.
أكثر من ذلك، باتت الممارسات الحربية أو القمعية الإسرائيلية في فلسطين والبروباغاندا المرافقة لها بمسوّغاتها المستدعية “التاريخ”، والمدّعية دفاعاً عن النفس أو استباقاً للعدو والمبرّرة قتل المدنيين لاختباء “مخرّبين” بينهم، أسساً لممارسات وخطابات نقع عليها اليوم في حرب روسيا على أوكرانيا، وفي أدبيات “الحرب الدولية على الإرهاب”، وفي تبرير اضطهاد المسلمين في الهند وفي ميانمار، إضافة إلى حضورها في معظم حروب أنظمة “الممانعة” وحركاتها المسلّحة في منطقتنا على شعوبها وشعوب جوارها، واقتدائها بأساليب إسرائيلية، ولَو مع خطاب يتّهم ضحاياها بالعمالة لإسرائيل!
حتى الأنظمة المطبّعة مع تل أبيب بحجة ضرورة طيّ صفحة “مركزية القضية الفلسطينية” والالتفات إلى مركزيّات وأولويات مستجدّة، لم يعدّل التطبيعُ فيها من مناخات انتهاك الحرّيات أو تفشّي القمع والفساد ولم يُفض إلى تشكيل لغة سياسية جديدة على ما روّج المبرّرون، بقدر ما اعتُمد وسيلة لجلب دعمٍ أو استقواء في مواجهة أعداء داخليين وخارجيين، يُستخدمون بدورهم (تماماً كما استُخدمت إسرائيل من قِبل “الممانعة”) ذريعة لفرض سياسات وإجراءات.
بهذا المعنى، يمكن القول إن “مركزية” القضية الفلسطينية راهناً صارت في مركزية الكفاح ضد حصانة القتلة أو منتهكي القوانين في فلسطين المحتلة ذاتها، كما في دول جوارها المباشر أو الأبعد قليلاً، وفي الكثير من دول العالم ومناطقه الشاهدة حروباً وغزوات واحتلالات وتهجيراً وسطواً على الأراضي، يستظلّ بالمبرّرات التاريخية أو القومية-الدينية أو يزعم مواجهةً لإرهابيين.
وهذا يجعل التعامل معها تعاملاً مع حالة خاصة ترتبط بخصائصها وديناميات الصراع فيها وعليها، ويجعله أيضاً تعاملاً مع “فلسطينات” كثيرة تنشأ في أكثر من رقعة عربية وإقليمية وعالمية ولو بخصائص وديناميات مختلفة. يجمعها إفلات المعتدين فيها والمرتكبين جرائم من الحساب، ويجمعها بقاء العنف المعنوي والمادي مسلّطاً على الناس بلا روادع أو ضوابط أو خواتم، ومستدعياً في حالات كثيرة عنفاً مضاداً، ليس فيه من العدالة ومقتضياتها الكثير…
القدس العربي