واحتوى المشهد، في الأهم من معالمه، على عنصرين؛ أولهما ظاهرة الجيش الحر، التي ظهرت في سياقها جماعات وجزر مسلحة، تشكلت على عجل، شارك فيها منشقون عن أجهزة النظام العسكرية والأمنية ممن رفضوا أن يكونوا أدوات في المقتلة، وذهب بعضهم إلى تنظيمات، وانضم إليها مدنيون كانت المخاوف من انتهاكات النظام سببهم الرئيس للانضواء في الجماعات المسلحة، التي كان الأبرز في أهدافها حماية المتظاهرين السلميين والدفاع عن الحواضن الاجتماعية للثورة، التي كانت تتعرض لهجمات مدمرة وانتقامية من الأجهزة العسكرية والأمنية للنظام ومجموعات الشبيحة.
وتوّج المشهد السوري في حينها بتشكيلات معارضة، كان أحدثها وأبرزها المجلس الوطني السوري الذي تشكّل في إسطنبول أواخر عام 2011، وجمع قاعدة واسعة من تنظيمات وشخصيات أهلية ومدنية وسياسية أبرزها جماعات الإسلام السياسي، واصطفت إلى جانب المجلس هيئة التنسيق الوطنية، التي تشكّلت بدمشق أواسط 2011، وضمت طيفاً من قوى وشخصيات سياسية أغلبها من المعارضة التقليدية، وتشارك الطرفان وجماعات وشخصيات أخرى لإنتاج أول وثيقة سياسية للمعارضة بعد الثورة في اجتماعات القاهرة، التي دعت إليها جامعة الدول العربية في صيف 2012، وظهر على السطح للمرة الأولى المجلس العسكري في عام 2012 ليكون تعبيراً عن حضور العسكريين في تركيبة المعارضة السورية.
أستعيد ملامح المشهد السوري قبل عشر سنوات، لأبين بعض تركيبته وحيويته في المستويين الداخلي والخارجي وعلى المستوى الشعبي العام وفي مستوى جماعات المعارضة، ليس فقط في هيكلي المجلس الوطني وهيئة التنسيق، والمجلس الوطني الكردي، إنما أيضاً في مستوى تنظيمات وجماعات كانت خارج القوى الرئيسية، كانت بعضاً من نشاط سوري واسع سياسي ومدني، اجتماعي وحقوقي وإعلامي وثقافي، تكرس في أماكن انتشار السوريين في الداخل والخارج، خصوصاً مصر والأردن وتركيا، وفي المغتربات البعيدة، التي شهدت جميعها تجمعات وتحركات ونشاطات غير مسبوقة.
وبالمقارنة، فإن ملامح المشهد السوري الراهن تبدو مختلفة بشكل كلي. ففي الداخل اختفت المظاهرات، وصارت الحراكات المحدودة مرتبطة بسلطات الأمر الواقع في مناطق سورية ثلاث شبه مستقلة؛ منطقة شرق الفرات المحكومة بمجلس سوريا الديمقراطية بقيادة حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي (PYD) تحت الحماية الأميركية، ومنطقة السيطرة التركية التي يتوزع فيها النفوذ إلى جانب القوات التركية مقربين منها من تنظيمات مسلحة و«هيئة تحرير الشام» وحكومتين شكليتين، تتبع الأولى للائتلاف الوطني والثانية لـ«هيئة تحرير الشام».
والمنطقة الثالثة هي منطقة سيطرة نظام الأسد في ظل قوتي التدخل الأكبر روسيا وإيران، وفي كل الأحوال، فإن الأزمة الاقتصادية والمعيشية القائمة في المناطق الثلاث تطحن حياة السوريين، وتجعلهم أسراها، ومن يجتاز حدود الأزمة إلى عمل سياسي أو دعاوي - إعلامي أو حقوقي، يواجه قبضة الأجهزة الحاكمة بالاغتيال أو الاعتقال والملاحقة، وهي بعض من عقوبات، يمكن أن تشمل أقاربه ومعارفه.
ورغم بعض الفوارق في حالة وأوضاع سوريي الشتات، خصوصاً الموجودين في دول الجوار، عن أحوال إخوانهم في الداخل، فإن ظروف أغلب سوريي الشتات صعبة، نتيجة الفوارق الثقافية والاجتماعية عن مجتمعاتهم الجديدة، إضافة إلى تردي أحوالهم الاقتصادية والاجتماعية وغرق بلدان الجوار التي يعيشون فيها بالأزمات، وبسبب تنامي السياسات العنصرية، وتصاعد نغمات ترحيل اللاجئين الطوعية والإجبارية، وتزامن ما سبق مع تراجع الاهتمام الدولي بالقضية السورية، وانسدادات أفق الحل في سوريا، ما أشاع أحاسيس الإحباط والعجز عن فعل شيء ما، ودفع إلى تنامي إحساس اللاجدوى في المدى المنظور.
ويجتاح السوء واقع نشاطات المعارضة في وعائها الموحد الهيئة العليا للمفاوضات. وباستثناء أنها تخلت عن أي دور تقوم به، فإنها معطلة لصيرورتها مركز تجاذب دولي، كما جرى مؤخراً تعطيل اجتماعات اللجنة الدستورية، التي لم تحقق أي تقدم طوال سنوات من اجتماعات. ويعكس واقع الهيئة واللجنة الدستورية حقيقة ما هو قائم داخل جهاتها المتشاركة من الائتلاف الوطني إلى هيئة التنسيق ومعهما منصتا موسكو والقاهرة ومستقلون من تدنٍّ في مستويات الوعي والأداء السياسي في العلاقات البينية، كما في التعامل مع الأطراف الخارجية.
لقد فقد الائتلاف أي قدرة على الفعل والمبادرة بسبب تغييرات سياسية وتنظيمية داخله وبسبب عجزه عن معالجة مشاكله وفشله في التعامل مع التحديات المحيطة بالقضية السورية، وتحول إلى مسار للوصول إلى مكاسب تنظيمية وسياسية للجماعات والشخصيات القابضة، التي يمكن القول إن روابطها خارج الائتلاف صارت أهم من روابطها فيه، وبالتالي فإنها حولته إلى تابع لجهات خارجية. ولا يشكل واقع حال هيئة التنسيق الوطنية ولا منصتي موسكو والقاهرة فارقاً نوعياً وكبيراً عن حالة الائتلاف، فكلها في عجز ومشاكل في داخلها وفي سياساتها وعلاقاتها الخارجية.
وسط واقع الحال، فإن السوريين في غياب واضح عن المشهد، بل هو غياب في أحد تعبيراته عن القضية، التي أطلق السوريون ثورتهم من أجلها؛ ثورة من أجل حرية سوريا والسوريين ومن أجل مستقبلهما، وقدموا في سبيلهما على مدار أحد عشر عاماً ملايين الضحايا من قتلى وجرحى ومعتقلين ومهجرين ولاجئين في فاتورة لا تزال مفتوحة.
إن غياب السوريين عن المشهد والقضية وعدم القيام بأي دور، قد يكون بسبب الموت أو العجز الفيزيائي أو العمري، وهذا أمر مفهوم، لكن مسارب الغياب الأخرى، تستحق التوقف عندها، وأبرزها تواري النخبة بدواعي الفشل والإحباط واللاجدوى، أو بسبب ذهاب البعض نحو حل فردي طالما فشل - حتى الآن - الحل الجماعي، أو بسبب مغادرة المغامرين والمراهنين على دور ومكاسب في الثورة، وعودتهم إلى مواقعهم التي كانوا فيها قبل الثورة.
إن الغياب الأكبر للسوريين عن المشهد وعن القضية، يتمثل اليوم في تحول نخبة سورية كبيرة من الحياة الواقعية إلى الحياة الافتراضية، وكونهم ناشطين ومناضلين على وسائل التواصل الاجتماعي الكثيرة، وعدا أنها حالات شبه آمنة وسهلة، ولا يترتب عليها أي التزامات مادية وعملية، فإنها تتيح حيزاً واسعاً لإطلاق النظريات والأفكار والنقد والأمنيات والمديح والاتهامات والشتائم والتخوين، يعقبها إحساس بأن المنضوين في إطارها، قاموا بكل الدور المطلوب منهم إزاء قضيتهم وشعبهم!
لقد بات من الملح عودة السوريين إلى تأكيد حضورهم ودورهم في قضيتهم، ومن دون ذلك تجري الأمور من سيئ إلى أسوأ.
-----------
الشرق الاوسط