قنطرة قرطبة القديمة وخلفها الجامع الاعجوبة
لقد كان حكيم الأندلس عباس بن فرناس يعيش بقرطبة حين احتال كما يقول الرواة في تطيير جثمانه وكسا نفسه بالريش ومد له جناحين وحلق مسافة محترمة من الوقت والمدى لكنه لم يحسن الهبوط , فتأذى في مؤخرته على ذمة المراكشي والمقري .
ومن المؤكد ان مؤخرة ابن فرناس كانت ستكون في وضع أفضل لو انطلق في تجربته من القنطرة القديمة وليس من قمة جبل الورد فوق مدينة الزهراء وعلى العموم فقد أفاده ذلك العجز في التفرغ لأبحاثه العلمية فتوصل الى أسرار صناعة الزجاج واخترع أول ساعة محترمه في التاريخ وأطلق عليها اسم ( الميقاتة ) دون ان يدري أن قومه لا يفكرون بالزمن وانهن سينسون فتوحاته العلمية والفلكية كلها ولا يتذكرون منه الا ما حدث لخلفيته غير الفكرية اثناء تحليقه بجناحين و هبوطه غير الناجح بذيل مقصوص .
ولقد كانت نهاية القنطرة من طرف الجامع والتي تعرف حاليا باسم بوابة الجسر موقع لقاء العشاق في قرطبه , والبقعه التي تخرج اليها النساء لاستعراض الأزياء في مواسم نظمها زرياب وطورتها بعده جاريته متعة وابنته حمدونه .
والحقيقه ان زرياب كان أهم من( كريستيان ديور) في زمانه , فقد نقل معه الى الأندلس بالاضافة الى تقاليد الغناء مؤسسة متكامله للعطور والأزياء وتقاليد المجتمع المخملي الأنيق . ولم تكن ولادة وصحبها الا بعض غراس كرم زرياب
وقد كان ذلك المحب الكبير للحياة والمرح وأناقة الجسد والروح يختار مطلع كل ربيع ليطلق في مدينة تشكو من البطر والتخمة وفائض الثروات ازياءه العجيبه التي كان الناس يتبخترون بها على جانبي القنطرة التي أخذت شهرتها مما يجري حولها وليس من احجارها , فقناطر الانهار كثيرة لكنها لم تحظ كقنطرة قرطبة بمن يحيلها الى مركز للكون ويجعل منها ما تمثله باريس للعالم في هذه الايام من رموز الرومانسية والحرية والتحضر والاناقة .
واستنادا الى تلك الخلفيات , ومعظمها صحيحه باجماع الرواة , صارت القنطرة التي تربط الجامع بالقلعه الحرة القطب الرابع الذي تباهى به قرطبة الأمم :
بأربع فاقت الأمصار قرطبه
منهن قنطرة الوادي وجامعها
هاتان ثنتان والزهراء ثالثة
والعلم أعظم شئ وهو رابعها
وكان بامكان قرطبه ان تظل سيدة العالم القديم والوسيط في ذلك الجزء من الدنيا لآماد طويله لولا ان القبائل التي استوطنتها اكثرت من الشغب وافسدها البطر وأدمنت الفتن فاشتهر فيها غير فتنة البربر فتنة ربض شقندة التي قمعها الحكم الاول بقسوة لا نظير لها وأحال أحياء كاملة منها الى مقبرة تعرف بمقبرة الربض ونظرا لتلك السمعة صار ولاتها يجأرون بالشكوى , وكان الوالي الذي يكلف بادارتها يستعيذ بالله من شياطين الانس والجن عشرات المرات قبل أن يبدأ مهمته الفاشله سلفا وقد حملت تلك المدينة القلقه سمعتها معها الى قرون تالية , فصاروا يقولون ان اسمها باليونانية يعني موطن أصحاب القلوب المشككه , ولعل خير ما يمثل موقف الولاة منها ما قاله عنها لاحقا شقيق سلطان المغرب يعقوب المنصور المعروف بأبي يحيي الذي أقام صلاة الشكر حين فصل عن ولايتها ولما سئل كيف وجدت أهل قرطبه قال : "مثل الجمل أن خففت عنه الحمل صاح , وان أثقلته صاح , ما ندري أين رضاهم فنقصده ولا أين سخطهم فنتجنبه , وما سلط الله عليهم حجاج الفتنه حتى كانت عامتها شرا من عامة العراق , وان العزل عنها لما قاسيته من أهلها عندي ولاية واني ان كلفت العود اليها لقائل لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين" .
ولم يكن مستغربا على مدينة هذه صفاتها ان تفتح حقبة ملوك الطوائف من ديارها , فقد استهوتها لعبة تبديل الخلفاء وصارت تفكر بخلع الخليفة قبل ان تبايعه الى ان سقطت الخلافه وانفض السامر ولم يبق من دعاة الشرعية الأموية الا( دون كيخوته العربي) ابن حزم الظاهري الذي حيّر الناس بعشقه وتنظيراته الغراميه , وشغلهم بنضاله السياسي المبدئي في زمن بلا مبادئ . ومع حب ابن حزم للأمويين وشهرة سليلتهم ولادة بالعشق وشؤون الغزل لم يذكرها ابدا في كتابه الغرامي الشهير (طوق الحمامة) بالرغم من انهما تعاصرا وعاشا متجاورين على الجبهه الشمالية للقنطرة بين حومة بلاط مغيث وحي اليهود ولا شك ان ذلك اللغز يحتاج الى تفسير , فالسياسة من بعض مفاتيحه وكذلك الحب , وحين يختلط الحب بالسياسة تضرس بنت الخليفة بموبقات أبيها ويكون الحياد أول ضحايا المؤلفين .
واذا اردت ان تصدق الاكاديميين , وهم قوم فيهم الكثير من الطيبة , ويمكن الثقة بهم في الأحكام المتعلقة بقضايا غير معقدة التكوين , فهم يقولون ان ابن حزم لم يذكر ولادة في "الطوق"لأنه كتبه في بلدة شاطبه حين كان بحدود الثلاثين من عمره , ولم تكن قصة ولادة وعشقها – أو ان شئت وعشاقها – قد اشتهرت بعد , وينسى هؤلاء القوم الذين تجبر ظروف الحياة معظمهم على التقاعد مبكرا في جزر الكسل العقلي المريح , ان ابن حزم مات وولادة على ابواب الستين , وقام قبل ان يحم القضاء بادخال الكثير من التعديلات والاضافات على كتبه العديده , وكان بامكانه , وهو الذي حوصر في قريته "منت لشم" التي تعرف حاليا باسم "مونتيخرا" هذه الايام ان يضيف بضعة اسطر عن قصة عشق لا يمكن اعتبارها عادية , ولا يجوز اهمالها في كتاب عن الحب والمحبين . وبما انه لم يفعل لا يظل امامنا الا وضع فرضيتين محتملتين اولاهما ان ذلك الجيل لم ينظر الى تلك القصة بالأهمية التي نظرت اليها فيها الاجيال التالية , أو ان المؤلف ما كان يستسيغ سيرة ذلك الفرع من شجرة الأمويين الذين أخلص لهم حتى آخر يوم في حياته ورأى فيهم الشرعية السياسية الوحيدة في أندلس عبد الرحمن الداخل واحفاده وحفيداته .
وليس من الصعب العثور على قرائن عديدة تؤيد الفرضية الثانيه , فقد كان صاحب "الطوق" وصاحب كتاب "الاخلاق والسير في مداواة النفوس" بيوريتانيا متطهرا في حين كان المستكفي والد الشاعرة رمزا كامل الاوصاف للجهل والفساد .
وفي عهده غير الميمون اكتمل خراب قرطبه وانتهت الخلافه فعليا , فلم يكن الذين جاؤوا بعده الا رقصة في الوقت الضائع واذا اردت ان تعرف رأي المؤرخين في المستكفي والد ولادة فاني احيلك الى ابن حيان المتخصص في الشأن الاندلسي والذي وصف المستكفي سجعا بقوله انه كان "عاهر الخلوة .. اسير الشهرة" وقال عنه في مكان اخر انه لما خلع هرب من القصر متخفيا في ثياب امرأة وسار بين جاريتين , فلم يميزه المتمردون بين رفيقتيه لمرانه على التخنيث , واذا عرفت بعد هذه الصورة غير المشرفه التي يرسمها ابن حيان ان المستكفي سجن ابن حزم اثناء خلافته لم يصعب عليك ان تستتنتج انه كان يكن احتقارا عميقا للمستكفي وتوابعه وحاشيته واولاده وبناته معا .
وتأتي بعد ذلك سمعة ولادة , فهي لم تكن فوق الشبهات لانها – والتعبير لابن بسام - اطرحت التحصيل , واوجدت الى القول فيها السبيل بقلة مبالاتها ومجاهرتها بلذاتها – فهي والحالة هذه اميرة من بيت ملك لكنها سيئة السمعة وما من بيت ملك في التاريخ الا وفيه هذه النوعية التي يدفعها البطر والفراغ الى سلوك اجتماعي مغاير.
وليس القصد من اثارة هذا الجانب المعتم التشجيع على التنقيب في سلوك فتاة متحدرة من اب "عاهرالخلوة" وام اسمها "سكره" ولها من اسمها نصيب ان نصدر مجموعه من الاحكام الاخلاقية على زهرة قرطبه فقد تكون بريئة من جميع التهم او من بعضها التي ربما الصقت بها شأن كل المتحررات في كل زمان ومكان واللواتي يخضعن دائما لحملات تشنيع ظالمة من التيارات المحافظة , انما القصد ان نفسر اهمال اهم عاشقه اندلسيه "ولادة" وسر غيابها عن أهم كتب العشق "طوق الحمامه" .
ويتحمل ابن زيدون القسط الاكبر من تشويه سمعة ولادة . لقد استجدى وطرد وتذلل ورفض فقرر الانتقام كما نعتقد لكبريائه الجريح بالايحاء بوجود علاقة وصال مع الشاعرة وجند لذلك امكانياته كلها فبعض قصائد ولادة تشير الى حملة نميمه منظمة كانت تسري في اجواء قرطبة برعاية الشاعر :
ان ابن زيدون على فضله
يغتابني ظلما ولا ذنب لي
وفي ديوان ابن زيدون ترد تلك القصيدة السافله التي كتبها بعد ان ارتبط اسم الشاعرة باسم الوزير ابي عامر ابن عبدوس الذي كان يلقب بالفار . ولمن يحاول البحث عن مواقع ذلك الوزير في جغرافية تلك المدينة الساحرة فاني اقترح موقعين في قرطبه , اولهما ساحة "انديانو" والثاني المنطقة الواقعة شرق المسجد بين شارعي "كارا" و "رامبارو" .
وعودة الى القصيدة , ان صحت نسبتها اليه – فهي تدل على نفسية كائن نذل وليس على نفس شاعر يعشق بأنفه ويحرص على كبرياء عشقه بالصمت حتى بعد ان تتقطع بينه وبين الحبيب الاواصر . يقول ابن زيدون في تلك القصيدة التي كانت وقودا لحملة النميمة والاغتياب :
اكرم بولادة ذخرا لمدخر
لو فرقت بين بيطار وعطار
قالوا ابو عامر اضحى يلم بها
قلت الفراشة قد تدنو من النار
عيرتمونا بان قد صار يخلفنا
في من نحب وما في ذاك من عار
اكل شهي اصبنا من اطايبه
بعضا وبعض صفحنا عنه للفار
ويشهد ان اسوأشئ يمكن ان يوصف به الوصل هو الاكل لكن سامح الله ابن زيدون المنتقم لكرامته ورجولته على تلك الخطوة النذلة التي لا تليق لا بالشعراء ولا بالفرسان
المهم انه وسط سمعة من هذا النوع الذي كان يغذيه اب فاسد وعاشق غيور لم يكن ابن حزم بما عرف عنه من عفة ورزانة وفضل واحترام يستطيع الاقتراب من سيرة من هذا النوع . ففي الوقت التي اشتهرت فيه قصص ولادة كان مؤلف الطوق قد تحول الى انسان اخر هجر السلطة ومغامرات الشباب وتحول الى معارض سياسي ينبه الناس الى ظلم الولاة وتزييف فقهاء السلطان وكذب الانتلجنسيا القرطبية ونفاقها الى ان ألب الاحزاب كلها ضده , فاحرقت كتبه في الساحات العامه كما اسلفنا وطورد في كل البقاع الى ان عاد منكسرا الى القرية التي خرجت منها عائلته وجلس متفرغا للتأليف والتأمل في شؤون الدنيا .
وقد اكمل اليهود فصول اضطهاد ابن حزم عقوبة له على تصديه لابن النغريله وزير غرناطه اليهودي . فلم يهن ولم يتراجع وظل وسط كل تلك الزوبعه من الاضطهاد يكتب عن الحب والعدل والحرية ويبشر بعالم افضل يمكن ان ينهض حين تصفو النفوس وتسمو فوق انقاض الخراب .
ولابأس قبل ان نعود الى الزهراء من وقفة سياسية قصيرة نشير فيها الى محتوى رد ابن حزم على ابن النغريلة الذي كان صاحب طموح لاقامة دولة يهودية في الاندلس في بلدة المرية التي كتب ابن حزم الطوق لواليها خيران
فقد روج اليهود في اواخر القرن الرابع الهجري فكرة اقتراب عودة المسيح عليه السلام ايذانا بنهوض دولتهم وحددوا ذلك بعام 1010ميلادية الذي يصادف بداية القرن الخامس الهجري – تصور هذه فكرة دولة مستقلة لهم عمرها الف عام - فلو نجح المشروع السياسي للوزير يوسف بن النغريلة لكان هناك دولة لليهود في الاندلس او المغرب في الحقبة الاولى من القرن الحادي عشر أي قبل ألف سنة من هذا التاريخ ويرجح ابن عذارى المراكشي المؤرخ الذي اهتم بهذا الحدث اكثر من غيره ان عين ابن النغريلة كانت على المرية الاندلسية وقد ابرم بالفعل اتفاقا مع ابن صمادح يسلمه بموجبه حكم غرناطة فيترك له الامير الطموح المرية ليجعلها قاعدة لانطلاق دولة يهودية يقول ابن عذارى في البيان المغرب : (وذلك ان هذا اللعين يوسف بن النغريلة طلب ان يقيم لليهود دولة فدس الى ابن صمادح صاحب المرية في السر ان يدخله غرناطة ويكون اليهودي في المرية ....)
وكان العرب والمسلمون قد عرفوا يوسف فلسفيا قبل ان يتعرفوا على طموحه السياسي وذلك من خلال رد ابن حزم عليه في رسالة مشهورة وهناك من يعتقد ان مشروع الدولة يسبق اتفاق يوسف وابن صمادح وربما يعود الى حسداي بن شبروط طبيب الخليفة الناصر فالحقيقة التي يجب الاعتراف بها تاريخيا ان اليهود ظهروا بقوة مع الدولة الاموية بالاندلس والدولة الفاطمية بالقاهرة لكن طموحهم العلني بدولة مستقلة لم يسجل تاريخيا الا على زمن ابن النغريلة الذي عينه باديس بن حبوس وزيرا بعد ابيه اسماعيل فاستبد وسيطر على الدولة كلها لان مولاه كان عجوزا لا يفيق من شراب والتعبير الظريف عن تلك العلاقة يرد عند الامير عبدالله بن بلقين في مذكراته فهو يقول عن الوزير اليهودي انه- تبرمك –والاشارة الى مافعله البرامكة بالدولة العباسية قبل ان ينكبهم الرشيد ولان ابن النغريلة كان اذكى فكر بدولة مستقلة قبل ان تاتيه النكبة .
وكان هذا الوزير قد تمسكن حتى تمكن فدخل على الامير الزيري بقوله:انا رجل ذمي لاهمة لي غير خدمتك وجمع الدراهم لبيت مالك ) وما ان استتب له الامر حتى كان قد ملأ الولايات والدساكر بابناء طائفته ومنهم اتت قوته فاليهود على مدار تاريخهم عكس العرب يساعدون بعضهم بعضا ولا يضعون العصي بالدواليب امام أي ناجح منهم .
ابن حزم في رده على ابن النغريلة كان ايضا على دراية بنفوذهم السياسي وقد اختار ان يتوجه الى العامة لتحريضهم ضد ذلك النفوذ لذا ترى نقمته على حكام زمانه الذين مكنوا لهم وثبتوهم تأتي منذ مطلع الرد :(اللهم انا نشكو اليك تشاغل اهل الممالك من اهل ملتنا بدنياهم عن اقامة دينهم وبعمرة قصور يتركونها بعد حين عن عمارة شريعتهم اللازمة له في معادهم ودار قرارهم).
والرد في مجمل من النوع القاسي الذي تلمح حدته في كل جملة فابن حزم اخر المخلصين لدولة عربية اموية في تلك الاصقاع التي امتلأت بالفتن
ولم تصلنا رسالة ابن النغريلة المردود عليها لكن ملخصاتها كثيرة فقد بلغت الجرأة بيوسف بن اسماعيل بن النغريلة ان يحتج داخل دولة اسلامية على ايات من القران الكريم – كاسرائيل هذه الايام - ويمكن القول ان مناقشة تلك المسائل من فضائل اجواء التسامح التي استغلها الوزير ليمكن لنفسه وقومه ويحلم بدولة يهودية مستقلة وكان ملوك الطوائف اضعف من ان يردوا او يعاقبوا وهكذا وقع عبء المقاومة كما هو هذه الايام على فئة شريفة ضعيفة ولك ان تقول - دونكيخوتية - نافحت قدر المستطاع لكنها لم تستطع المس بالنفوذ اليهودي بالاندلس الذي ظل طاغيا الى ان بدده الفونسو بطرد اليهود مع المسلمين من الاندلس معا ...وغدا او بعد غد نختم رحلتنا مع ولادة بوقفة عند الزهراء حيث تذكرها ابن زيدون في قصيدته الشهيرة ...ولقد ذكرتك في الزهراء مشتاقا ...