والواقع أن تركيا والمعارضة وقوى الثورة تواجه أزمة كبيرة واحدة، حاول الجميع تجنّب التفكير فيها خلال السنوات الطويلة الماضية، على أمل أن تطرأ مفاجآت أو تحوّلات غير منظورة، لتحول دون انفجارها. وجوهر هذه الأزمة التي تمسّ الجميع هو ببساطة الموت غير المعلن للعملية السياسية الرامية إلى إيجاد حلٍّ متفاوض عليه للصراع السوري السوري، فقد تحول هذا الصراع الى مأزق مركّب وصعب الحل، بعد أن فقد النظام قراره، وأصبح لعبةً في يد الدول الحامية له، والتي لا مصلحة لها في أي حل من جهة، وفشل المعارضة في توحيد صفوفها والارتقاء بممارستها إلى مستوى القيادة الوطنية المقنعة من جهة ثانية.
كلانا ندفع اليوم ثمن تغذيتنا المستمرّة الوهم الذي أدخلته في أذهاننا المنظومة الدولية الفاقدة للمصداقية، والذي يفيد بأن هناك حلا سياسيا للمواجهة التي تفجّرت منذ مارس/ آذار 2011 بين الشعب والنظام، فتمسكنا بالأمل، وأعطينا للمجموعة الدولية والدول الصديقة والوسطاء الدوليين صكّا على بياض، لاستكمال التوصل إلى هذه التسوية، وجلسنا ننتظر النتيجة. وبدا الموقف التركي الواضح وتقاطع المصالح كما لو كانا ضمانةً لنا، كي لا تذهب الأمور في اتجاه مخالف لتوقعاتنا وتطلعاتنا. وعزّز من موقفنا الانتظاري هذا تبنّي الدول الغربية مواقف مناوئة لسياسات الأسد، وفرض العقوبات على شخصياتٍ عديدة تابعة له، وفضح الصحافة العالمية أكثر فأكثر ارتكاباته الإجرامية على مدى سنوات حرب الإبادة التي نظمها على امتداد الجغرافيا السورية انتقاما من قيام الشعب ضده ومطالبته له بالرحيل.
والحال، لم نشهد خلال عقد من "المفاوضات" الفارغة ما يمكن أن نسميها عملية سياسية. وكل ما شهدناه كان مهاتراتٍ تعمّدها النظام لإضاعة الوقت وقطع الطريق على فتح أي مناقشة جدّية. كانت تلك تمثيلية هزلية ومأساوية معا، غايتها الإيحاء بإمكانية الوصول إلى حلّ بالسياسة، بينما كان النظام وحلفاؤه، أو بالأحرى مشغلوه المراهنون على بقائه لتعزيز مكاسبهم الاستراتيجية في سورية، يسعون إلى كسب مزيد من الوقت، للقضاء على المعارضة وتفريغ الثورة من محتواها، وهذا ما لم يتوقف النظام عن تأكيده عند كل مفترق، مرة وثانية وثالثة، بادّعاء الانتصار، منذ أعلنت مستشارته العبقرية، بثينة شعبان، بعد شهرين من اندلاع الثورة "خلصت"، وتعني بها نجاح نظامها في إخماد الثورة وإنهائها.
أما تجمّع "أصدقاء سورية" الذي تشكّل لتأمين الدعم العالمي للشعب السوري، فقد ظهر أيضا أنه أكذوبة لطيفة. اعتقد الغربيون، في الأشهر الأولى، أمام اتساع نطاق الثورة الشعبية وتصميم السوريين وتضحياتهم التي لا تتوقف، أن الأسد ساقط لا محالة. لكن سرعان ما انتبهوا إلى أن حساباتهم لم تكن دقيقة، وأن دخول طهران، ثم روسيا، على الخط، وتبنّيهما انتصار الأسد بأي ثمن، حتى لو كلف ذلك تدمير سورية وتحطيم شعبها وتهجيره، لم يترك لهم هامش مناورة يذكر. وأصبح تحقيق الوعود التي أعطوها للسوريين يتطلب انخراطا جديا في الصراع ما كانوا يتوقعونه، وبالتالي، تكلفة عالية لا يريدون أو لا يستطيعون تقديمها، وليست في حساباتهم. فانسحبوا بهدوء، وتقلص عددهم إلى 11، ثم غابوا عن الصورة تماما.
أما أستانة فلم تكن سوى مزحة ثقيلة أراد بها الروس أن يخرجوا الغرب من دائرة الصراع في سورية، وهو ما اشتراه الغربيون بطرابيشهم. وما كانوا ينتظرون فرصةً أفضل للانسحاب بريشهم، وسحب أيديهم من المحرقة التي سوف يتحمّل لهيبها السوريون وحدهم. وقبل الغربيون "أصدقاؤنا" من دون تحفظ اختصار العملية باللجنة الدستورية، ليوحوا للسوريين أنهم لا يزالون يدعمونهم "سياسيا".
أما مؤتمر جنيف فقد جبّته أستانة وحلت محله. ولم يعد للتذكير بقراراته لدى الغربيين والمعارضة السورية وظيفة سوى كسب الوقت، من دون أي إنجاز، وتبرير الاحتفاظ بالرواتب والمناصب التي ولدت على هامشه وفي أمل انعقاده. وكان الأمل بهذا الانعقاد هو ما ينطبق عليه القول: أمل إبليس بالجنة للأسف.
من هنا، ينطلق السؤال الذي دفع وزير الخارجية التركي، مولود شاووش أوغلو، إلى الحديث عن المصالحة، فإذا لم يكن هناك حل سياسي للأزمة السورية التي تحوّلت وتتحول كل يوم أكثر إلى كارثة إنسانية وبؤرة مخاطر على دول عديدة، وفي مقدمها تركيا، التي رهنت سياستها بانتصار المعارضة السورية، ثم راهنت على التوصل إلى تسوية، تضمن من خلالها تحقيق مصالحها الرئيسية التي لا تقتصر على مسألة تأمين الحدود السورية التركية، وإنما تتجاوز ذلك إلى المشاركة في تقرير مصير النظام السياسي لسورية ما بعد الأسد الذي صار عدوّا لها، فما هو الحل؟ وكيف يكون الرد على التحدّيات التي يطلقها إجهاض التسوية السياسية والمراهنة على تفسخ أكبر للأوضاع السورية، يسمح للروس والإيرانيين بتعزيز مواقعهم وتأسيس قاعدة ثابتة وطويلة المدى لنفوذهم؟
قد تكون المصالحة في نظر أنقرة البديل عن غياب الحل الشامل، بانتظار تحوّلات إيجابية مقبلة، فعندما يستحيل التوصل إلى تسوية شاملة، تضمن مصالح جميع الأطراف، لا يبقى خيار سوى أن يبحث كل طرف عن مصالحه الخاصة، وترك الطرف الضعيف يدبر أمره بنفسه، أي يدفع الثمن. وهذا يعني بالنسبة لأنقرة فك ارتباطها بالمسألة الأصلية التي يبدو أنها مستعصية على الحل. فنظام الأسد، في رأي حماته الرئيسيين، إيران وموسكو، لا بديل له، ولا يمكن مناقشة بقائه، ولا حتى تعديل نظامه. وربما يبدو لطهران وموسكو أن إيجاد حل للمصالح التركية بعيدا عن مناقشة مسألة الشعب السوري ومستقبله هو آخر عقبة تقف أمام إجبار السوريين على الاستسلام والقبول بالأمر الواقع، وإكراه الأمم المتحدة على إعادة الاعتراف بنظام الأمر الواقع والتعامل معه بوصفه كذلك، وبصرف النظر عن سجّلاته الإجرامية.
لهذا، كان رد الفعل الشعبي السوري في جمعة "لن نصالح" سريعا وواضحا. وهو رفض القبول بأي تسويةٍ مع بقاء نظام الأسد، والتمسّك بعملية سياسية تضمن، حسب ما تنص عليه قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن، تغيير النظام السياسي، أي قواعد ممارسة السياسة ونمط الحكم، حتى لو شارك بعض رجالاته في النظام الجديد. المهم تغيير قواعد الممارسة السياسية والحكم.
2. لم يبق للسوريين ما يخسرونه إلا بؤس أحوالهم
لا نستطيع، نحن السوريين، أن نفرض على تركيا موقفا لا ترى فيه خدمة لمصالحها، ولسنا من يحدّد هذه المصالح، تماما كما لا يمكن لأنقرة أن تملي علينا ما يتفق مع تطلعاتنا ومصالحنا. وإذا فعلت تركيا ذلك، فهي تختار، في نظري، التضحية بالاستثمارات المادية والسياسية والإنسانية الكبيرة التي وضعتها في الثورة والمعارضة السوريتين منذ 11 عاما، والتي جاءت لتضاعف استثمارات كبيرة سابقة لاندلاع ثورة آذار 2011، ورد الفعل الشعبي كان كافيا لتنبيه أنقره إلى ثمنظ التخلي عن المعارضة أو البحث عن حلول منفردة لا تاخذ بالاعتبار المصالح السورية الشعبية في مواجهة نظام مارق ومجتمع دولي متخاذل.
ولكن سواء استمرّت الدبلوماسية التركية في التقرّب من الأسد لضمان مصالحها أو بقيت متمسّكة بخط التسوية السياسية القائمة على أساس قرارات الأمم المتحدة، تبقى المشكلة الرئيسية الذي نتهرّب منها جميعا، ولا يزال المجتمع الدولي يتجاهلها من وراء التركيز على مكافحة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) والإرهاب واحتواء أزمة الهجرة واللجوء. وهي التي يتوقف علينا نحن السوريين، قبل الآخرين، الاجابة عنها. وأعني بها: ما العمل، بعد أن تبينت استحالة التوصل مع الأسد وطهران وموسكو إلى تسوية سياسية، وانقطع الأمل في الحصول على دعم دولي أو إقليمي كافٍ لإجبار نظام الأمر الواقع على القبول بتسوية من أي نوع؟
لم يكفّ السوريون، منذ بداية الثورة، عن تقديم التضحيات، لكن من دون إيمان بقدرتنا على تحقيق النصر بأيدينا. كنا نضحي ونقاتل، ولا نتردّد في بذل أي جهد، لكن مع الاعتقاد دائما بأن خلاصنا لن يكون في النهاية إلا على أيدي القوى الأجنبية والدول القوية، الغربية في البداية ثم الإقليمية. بل لقد راهن بعضنا أحيانا على موسكو نفسها. ولأننا لم نثق لحظةً بأننا قادرون على حسم المعركة بأنفسنا، لم نبذل الجهد الضروري لحل التناقضات التي تمزّقنا، ولفكفكة العقد التي تقف في طريق تعاوننا، ولنحرّر ضمائرنا من مشاعر الغيرة والحسد والكراهية والأنانية ونتعلم العمل جماعة ونبنى روح الأخوة الوطنية الجديدة. وبقينا نقاتل، فصائل وشيعا وأحزابا متفرّقة، وفي فوضى شاملة، على أمل أن تلفت تضحياتنا نظر القوى الكبرى، وتثير عطف إخواننا وأصدقائنا. وسلمنا أخيرا بأن النظام الذي جاء بدعم إن لم يكن بقرار دولي لا يمكن تغييره إلا بتدخل المجتمع الدولي الذي نصبه.
الآن، نحن نعرف أن أحدا لن يهرع إلى تحريرنا من قيودنا، إن لم ننجح في تجاوز أسلوب عملنا، ونسعى، نحن أنفسنا، إلى قلع شوكنا بأيدينا. وهذا هو الطريق الوحيد البديل للحرب التي لم نكن مستعدّين للرد المتّسق عليها، وللحل السياسي المحرّم علينا من جلادينا. وبدل أن نناقش فيما إذا كانت أنقرة ستبقى معنا أو أنها سوف تتبع طريقا آخر، وهي، في النهاية، ستختار ما يناسب مصالحها، ينبغي أن نعيد النظر في استراتيجيتنا السابقة التي راهنت من دون تدقيق على الدعم الخارجي، وأن نعود إلى المنطق السليم الذي يفيد بأن أحدا لا يمكن أن يحرّر الشعب، ما لم يأخذ هو ذاته بيديه مهمة تحرير نفسه. والتضحيات المطلوبة لن تكون أكبر مما سيكلفنا ترك المحتلين يمزّقون وطننا ويسلبونه، بينما نحن نتسابق على تأشيرات الدخول على أبواب سفارات الدول الأجنبية، التي رفضت تقديم يد العون إلينا، للنجاة بأنفسنا.
إذا أردنا أن نبقى في بلدنا، وأن نجعل منه وطنا لنا ولأبنائنا لا زريبة ولا معسكر اعتقال، علينا أن نبدأ منذ الآن في طرح مسألة الانتفاضة الثانية. وأن نفتح المناقشة، في كل منطقة ومحافظة ومحلة، داخل سورية نفسها، حول هذا الخيار، ونستلهم، ولا أقول نحاكي، مثال إخواننا في الجنوب السوري، في السويداء ودرعا وباقي المدن والقرى المستمرّة في المقاومة.
قد يعترض كثيرون: كيف ننتظر من الشعب السوري الذي يتضوّر جوعا ويعيش تحت تهديد السلاح متعدّد الجنسيات أن ينتفض ويتغلب على نظامٍ هو مركّب غريب من سلطات الاحتلال الأجنبي ومنطق العصابة والعمالة، فاقد أي قيمة أو ضمير وطني؟ والجواب: لهذا السبب بالذات، أي لأنه لم يعد لدى السوريين ما يخسرونه أكثر مما خسروه، ولم يعد هناك أمل لا في حل عسكري مفروض من الخارج، ولا في حل سياسي عن طريق المفاوضات، ولأن الوضع لم يعد يُحتمل، وهو سائر بالتأكيد إلى مزيدٍ من الخراب، ولأن الشكوى والتذمر والاحتجاج لدى المنظمات الدولية والحكومات الأجنبية لا تثمر من دون حضورٍ قويٍّ على الأرض، فإن الانتفاضة ممكنة، بل ضرورية وحتمية، ولا بديل عنها. والرهان على جهود المغتربين في أوروبا وأميركا، وعلاقاتهم من أجل التغيير في الشروط الحالية لا يفيد إلا في ترسيخ الوهم الذي قادنا إلى الفشل في تنظيم أنفسنا، وهو التعلق بالتدخلات الأجنبية والاعتقاد بأن حل المسألة السورية قائم خارج سورية، وبمعزل عن إرادتنا وقرارنا، وتوطين النفس على الانتظار، بينما لا يضيّع أعداؤنا دقيقة واحدة في مساعيهم لسحب البساط من تحت أقدامنا وانتزاع بلادنا منا وتوريثها لما نجحوا في حشده من عصابات وشبيحة وشبكات تجارة أعضاء بشرية ودعارة ومخدرات متعددة الجنسيات.
هذه ليست دعوة إلى إطلاق انتفاضة غدا. بالعكس، إنها دعوة إلى التفكير الجماعي في الانتفاضة الشعبية، القادمة حتما، شئنا أو أبينا، وللنقاش في طبيعتها وخططها وتنظيماتها وشروط إنجاحها وإعداد الجمهور لها، وإنضاج الحلول المطلوبة لمواجهة المشكلات والتحدّيات المحتمل أن تعترض طريقها. على هذا الأمر، ينبغي أن يتركز اليوم تفكير المثقفين، وأن يتدرّب النشطاء، ويتواصل السياسيون، حتى تكون هذه المرة انتفاضة التغيير التي لا تتوقف، ولا يمكن إيقافها قبل تحقيق أهدافها.
----------
العربي الجديد