فجّرت التصريحات التركية غضباً شعبياً سورياً، انعكس في مظاهرات عارمة في الشمال السوري، أوصلت عدة رسائل، أهمها أن الحاضنة الشعبية ما زالت تحتفظ بقرارها السياسي ولم ولن تتنازل عنه، وأن من تنطّع للمشهدين، السياسي والعسكري، واعتمد من بعضهم لا يمثل إلا نفسه، ومن أن الوقت حان، وبشكلٍ ملزم، لإعادة النظر بماهية القيادات المصنّعة التي رُكبت على جسم الثورة ولم تنسجم معه. مظاهرات أكّدت أن إعادة النظر لا تعني إصلاحات روتينية، أو استبدالات خلّبية التفافية كما درجت العادة، بل تكون عبر نسف الموجود تماماً واستحضار أخرى تمثل نبض الشارع، بعد خلع عباءة التبعية التي ظلّلت مشهد الحراكين، السياسي والعسكري، خلال السنوات الأخيرة، ونسج شبكة تقاطع مصالح مع كل الدول المؤيدة للثورة السورية، وعدم وضع البيض السوري في سلة واحدة.
تحدُث متغيرات الحاضنة في وقتٍ يعيش فيه الشمال السوري على بركانٍ قابلٍ للانفجار في أي لحظة، فالعملية العسكرية التركية التي أُعلن عنها منذ قرابة الثلاثة أشهر أغلقت معظم البوابات بوجهها، ورفعت كل الفيتوهات لوقفها، ولم تُفلح الدبلوماسية التركية بتحصيل ولو بصيص أمل لضوء أخضر مضمون يشكّل مخرجاً لحالة الاستعصاء التي وقعت بها، لكن هذا لا يعني النهاية، لأن تركيا قد تعلن عمليتها العسكرية بتحدٍّ لكل الرافضين على غرار عملية نبع السلام أخيرا، مع بروز مؤشّراتٍ على أن الأتراك حسموا موقفهم بعد تعرّض نقاطهم العسكرية أخيرا لاعتداءات أدّت إلى مقتل وجرح عدة جنود أتراك، وأن الرد التركي العنيف الذي طاول موقعاً لمليشيات نظام الأسد (الثلاثاء) في محيط قرية جارقلي قرب مدينة عين العرب (كوباني) رد على استهداف الجيش التركي وقرى حدودية، وقد يكون باكورة العلمية العسكرية التركية المؤجلة عنوة.
الاستراتيجية الأميركية الجديدة بعد الحرب الروسية على أوكرانيا تتمحور بمحاولة تفشيل كل الخطط الروسية وتطويقها
في المقابل، تبرز أجندة أميركية جديدة موجهة، بشكل علني، ضد الوجود الروسي في سورية، فالاستراتيجية الأميركية الجديدة بعد الحرب الروسية على أوكرانيا تتمحور بمحاولة تفشيل كل الخطط الروسية وتطويقها، ومنع بوتين من تحقيق أي إنجاز سياسي أو عسكري. وباتت مناطق النفوذ الروسي في سورية تشغل حيزاً مهما من اهتمام الأميركان. لذلك أصرّوا بطلبهم من قوات سوريا الديمقراطية (قسد) بضرورة تحجيم الدور الروسي في مناطق نفوذهم، ومنع تنقل دورياتهم بشكل منفرد من دون مرافقة من "قسد"، ما أغضب الروس، ورفضوا التنسيق مع مجلس منبج العسكري، فحصل الصدام في قرية "المقبلة" مع دورية روسية خرجت منفردة، أعقبتها اشتباكات في قريتي "المقبلة وأبو_منديل" جنوبي منبج شرق حلب، أوقعت بعض الإصابات في صفوف "قسد" بحسب مصادر. ولم تقتصر الخطوات الأميركية على تلك التعليمات، بل أعادت انتشارها في قاعدتي "خراب عشق" و"معمل لافارج" شمالي الرقّة برسالة واضحة لأنقرة وموسكو، لكن ضربات طائرات "بيرقدار" المسيّرة كان لها الأثر بعمليات نوعية نفّذها الجيش التركي، واستهدفت قيادات من حزب العمال الكردستاني، وآلمت قيادة "قسد" ومجلس "سوريا الديمقراطية" (مسد) التي اتخذت قراراً بتعليق عملياتها المشتركة مع "التحالف الدولي" ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) احتجاجاً على قصف المسيرات التركية "بيرقدار"، فاستدرك التحالف الدولي الموقف عبر اجتماع عاجل مع قيادة سوريا الديمقراطية في محافظة الحسكة السورية، نقلت بعض المصادر أن قائد قوة المهام المشتركة في عملية "العزم الصلب"، الجنرال جون برينان، تحدّث فيه عن محاولات "تعطيل" عمليات مكافحة "داعش" شمال شرقي سورية، وأوضح أن التعطيل يتمّ ممن وصفهم بـأنهم "أطراف خارجية"، مضيفاً أن التنظيم "ما يزال يهدّد الشعب السوري والمنطقة"، وشدّد على أن التحالف وشركاءه من قوات سوريا الديمقراطية ما زالوا ثابتين على هدفهم المشترك، المتمثّل في ضمان الهزيمة الدائمة لـ"داعش"، واعداً بمناقشة الأمر عبر مستويات عليا مع الجانب التركي.
زادت القوات الأميركية في الفترة الأخيرة من شحنات أسلحتها وتذخيرها لحليفها "قسد"
ترافق اجتماع الحسكة مع معلومات نقلتها جهات خاصة أن القوات الأميركية زادت في الفترة الأخيرة من شحنات أسلحتها وتذخيرها لحليفها "قسد"، وأن الأمر وصل إلى تزويدها بثلاثمائة صاروخ مضادّ للدروع من طراز "جافلين"، ليضاف إلى ترسانة "قسد" من صواريخ "تاو وكورنيت" الموجودة مسبقاً، والموزّعة على خطوط انتشارها وتماسّها مع الجيشين، التركي والوطني. فشل التحالف في إقناع قيادة "قسد" بمتابعة عملها مع التحالف الدولي، ما استدعى قدوم وفد عسكري أمني، فرنسي بريطاني أميركي، عبر طائرتين مروحيتين للتحالف الدولي، هبطتا في القاعدة الأميركية في مدينة الشدادي جنوب الحسكة للاجتماع مع قيادة "قسد"، رشح عنه صياغة شبه توافق أميركي تركي، إضافة إلى "قسد" لعقد اجتماع (استخباراتي) ثلاثي في مدينة أربيل العراقية (وفق مبادرة السناتور غراهام)، وقد تحضر الاجتماع أطراف دولية وإقليمية، للوصول إلى تفاهمات وضمانات تحفظ الأمن القومي التركي، وإنشاء منطقة عازلة على الحدود السورية التركية، مقابل وقف أنقرة عمليتها العسكرية وأي ضربات على قوات "قسد" في الشمال السوري.
أزعجت الاجتماعات التي حصلت في الحسكة بين "التحالف الدولي" و"قسد" الروس الساعين إلى تخريب العلاقة الأميركية مع "قسد"، وتوتير الأجواء بين أنقرة و"قسد" أيضاً بهدف فتح طريق واحد أمام "قسد" يتجه إلى دمشق. وكان الرد الروسي عبر تحريك أدواتها في سورية مرة عبر الإيراني، عندما تحرّكت راجمة صواريخ من بلدة نبل شمال حلب وقصفت القاعدة التركية في قرية كلجبرين، اتهمت بالعملية "قسد"، وهذا ما أراده الروس. ثم بعد اجتماع الشدادي أخيرا بين "التحالف" و"قسد". وحرّك الروس أيضا أداتهم الأخرى، مليشيات أسد قرب مدينة كوباني، لكن ألاعيب الروس كشفها الأتراك، فلقنت طائرات بيرقدار التركية مليشيات أسد في قرية جارقلي درساً قاسياً، وقتل وجرح العشرات من جنوده، بعد تجاوزه الخطوط الحمراء والتسبب بمقتل جنود أتراك وجرحهم.
رصد لشبكات اتصال حزب الله تطلب من عناصرها الدخول في حالة تأهب قصوى لحربٍ مقبلة
لم يشمل التصعيد استهداف النقاط التركية عبر الإيرانيين والأسد في الشمال السوري، بل وصل إلى أقصى الحدود السورية الشرقية، عندما استهدفت مسيّرات مجهولة (إيرانية) مواقع جيش مغاوير الثورة التابع للجيش الحر والموجود في قاعدة "التنف" الخاضعة لحماية التحالف الدولي، ردّا ضمنيا على القصف الإسرائيلي لست شاحنات سلاح ومسيّرات إيرانية، وصلت بحراً، وكانت في طريقها إلى حزب الله في لبنان، استهدفتها صواريخ طائرات إسرائيلية من فوق بيروت، ودمرت مستودعاتها قرب قرية أبو عفصة جنوب طرطوس وعلى بعد 8 كم من نقطة روسية هناك. وشمل التسخين العسكري مناطق الوجود الأميركي في شرقي الفرات، عندما استُهدفت مواقع لقوات التحالف الدولي في قاعدة حقل "العمر" بهجوم عبر صواريخ متوسّطة المدى، عادة ما تستخدمها مليشيات إيران الموجودة في دير الزور والميادين والبوكمال، وكان الرد الأميركي أنهم يحتفظون بحق الدفاع عن النفس، وأن ردهم قادم لا محالة على مواقع تحدّد لاحقاً.
في المجمل، يمكن القول إن تطوّرات شرقي الفرات واستعصاءات العملية العسكرية التركية (قبل اجتماع أربيل إن تم)، ومع الموقف الأميركي اتجاه موسكو وأنقرة، والموقف الشعبي الغاضب للحاضنة السورية من الحالة التي وصلت إليها، إضافة إلى ملفات إقليمية ودولية تعصف بالمنطقة، وتسخين إيران لجبهات حرب شرق أوسطية ردّا على تعثر مفاوضات فيينا، مع خبر نقلته وكالة رويترز عن "استعدادات حرب إسرائيلية على الجبهة الشمالية"، ترافق مع رصد لشبكات اتصال حزب الله تطلب من عناصرها الدخول في حالة تأهب قصوى لحربٍ مقبلة، كانت جولتها الأولى في غزة منذ أيام، عبر ضربات جوية إسرائيلية طاولت قيادات ومواقع حركة الجهاد الإسلامي، إضافة إلى تحذير قدّمه وزير الخارجية الأميركية، أنتوني بلينكن، لرئيس الوزراء العراقي، مصطفى الكاظمي، عن عبور خلايا اغتيال من الحرس الثوري الإيراني الحدود العراقية بهدف اغتيال الزعيم الشيعي مقتدى الصدر.
تنبئ الأمواج المتلاطمة في المنطقة بتغيرات مرتقبة، والساحة السورية صفيح ساخن يوجد عليها كل الفرقاء، وقد تشتعل أرضها تحت أقدام الجميع إن لم يتم التسارع إلى لجم إيران وأذرعها، وكفّ يد موسكو عنها، ومن ثم البحث عن مخارج حل لكل السوريين.
--------
العربي الجديد