يعكس التحول في الرؤى ومقاربات السياسة تجاه شمالي سوريا في الأشهر الأخيرة بشكل مباشر استقرار المنطقة الواضح، وإن كان نسبياً. إلا أن حوادث الاقتتال بين فصائل المعارضة السورية المسلحة في ريف حلب الشمالي بقيت أمراً مألوفاً على الرغم من أن تركيا ظلت حتى الآن على أهبة الاستعداد لوضع غطاء على أي تصعيد، ولكن الأمور هذه المرة تبدو مختلفة.
في 11-12 تشرين الأول/أكتوبر، تصاعدت حدة التوترات مرة أخرى بين الجبهة الشامية وفرقة الحمزة بعد مقتل ناشط معارض وزوجته الحامل، ومع تركيز الانتباه على ملاحقة الجناة الذين يُزعم أنهم يختبئون في معسكر للنازحين في مدينة الباب، قامت هيئة تحرير الشام بإرسال مسلحيها من إدلب إلى منطقة عفرين. وفي 12-13 من الشهر ذاته، انتشر مسلحو الهيئة بسرعة وسيطروا على مدينة عفرين بشكل كامل دون قتال يذكر، وكانت التقارير المحلية الدقيقة متقطعة، ولكن يبدو أن هذه الأحداث التحويلية أسفرت عن مقتل أقل من عشرة مسلحين.
منذ التوغل الذي قادته تركيا في عفرين في أوائل عام 2018، أصبحت المنطقة تحت سيطرة تحالف فصائل معارضة يُعرف باسم الجيش الوطني السوري، وهو تجمع أدى اعتماده على تركيا وأجندته المناهضة للكرد إلى فقدانها الكثير من مصداقيتها “المعارضة” السابقة لدرجة باتت تنهار في ركود مدفوع بأمراء الحرب والفساد والاقتتال الداخلي. ومع ذلك ورغم العديد من نقاط الضعف في الجيش الوطني السوري، فقد بدت تركيا حتى الآن مصممة على الحفاظ على سيطرة هذه الجماعة على عفرين ومناطق شمال حلب المعروفة باسم منطقة درع الفرات. وقد أدى ذلك إلى ضمان احتفاظ هيئات المعارضة المعروفة باسم الائتلاف والحكومة السورية المؤقتة بأراض تحت سيطرتها داخل سوريا.
حافظت تركيا على حق النقض (الفيتو) بحكم الأمر الواقع، على السماح لهيئة تحرير الشام بدخول منطقتي عفرين أو درع الفرات، ولكن في حزيران/يونيو الماضي، عندما قامت هيئة تحرير الشام بغزو ريف عفرين الجنوبي الغربي لفترة قصيرة (مرة أخرى مستفيدة من التوترات الداخلية للجيش الوطني السوري)، أدت مكالمة هاتفية من شخصية بارزة داخل جهاز الاستخبارات الوطنية التركية (MIT) إلى عودة قوات هيئة تحرير الشام أدراجها إلى إدلب. ولكن يبدو أنه لم يأت أمر تركي من هذا القبيل هذه المرة؛ وبينما يستمر القتال حول الباب واستيلاء فصائل الجيش الوطني السوري المتعاطفة مع هيئة تحرير الشام على معبر الحمران المؤدي إلى منبج (التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية)، يتزايد القلق الآن من تمدد هيئة تحرير الشام نحو أعزاز.
ظاهرياً، لم يكن دافع هيئة تحرير الشام المتعلق بتوسيع حكمها أمراً مفاجئاً، فقد أوضح الخطاب العلني للجماعة المتشددة وخطاب زعيمها أبو محمد الجولاني رغبتها في القيام بذلك منذ فترة طويلة. وفي الواقع، كانت الهيئة قد خططت لمشروع توسيع وإعادة تعبيد الطريق الرئيسي المتجه من أراضيها نحو جنديرس منذ أشهر، وقد بدأت بعمليات التوسيع في 12 من تشرين الأول/أكتوبر.
وأظهرت “دبلوماسية” هيئة تحرير الشام نواياها تجاه الشرق، ففي عامي 2020 و2021، قاد كبار الشخصيات في هيئة تحرير الشام بمن فيهم جهاد عيسى الشيخ (أبو أحمد زكور) وميسر علي موسى الجبوري (أبو ماريا القحطاني) وأبو توفيق، قناة حوار مستمرة وسرية مع عناصر من الجيش الوطني السوري منفتحين على شكل من أشكال الانفراج أو حتى التعاون.
وبحلول الوقت الذي تلاشت فيه هذه المبادرة في أوائل عام 2022، تحولت التكهنات إلى نهج يحتمل أن يكون أكثر حزماً من قبل هيئة تحرير الشام للتوسع، بما في ذلك من خلال ترتيبات مع أطراف مثل فرقة السلطان سليمان شاه في تموز/يوليو 2022.
تعتقد هيئة تحرير الشام، في سعيها للتوسع، أنها تحافظ على مشروع حكم متفوق على منافسيها في شمالي سوريا من خلال حكومة الإنقاذ التابعة لها في إدلب، وقد سعت في إطار التواصل مع الحكومات الأجنبية وعدم التعارض والتنسيق مع بعثة المساعدة التي تديرها الأمم المتحدة والسعي لفتح المعابر التجارية مع مناطق النظام لإظهار مستوى من البراغماتية اللازمة للتنافس مع منافسيها الأساسيين.
وفي محاولة لاستبدال نموذج حكم الجيش الوطني السوري في عفرين، تستخدم هيئة تحرير الشام حجتها القديمة بأنها تكافح الفساد وتضع حداً للانقسام الباهظ الثمن.
ولكن وفي نظر الجولاني، كلما زادت سيطرته كلما كان موقعه أكثر أمناً، ففي بيان عام صدر في 13 تشرين الأول/أكتوبر، أعربت الهيئة عن “أملها” في أن يثق سكان عفرين بأن “الشعب العربي والكردي موضع اهتمامنا وتقديرنا الكبيرين” و”من واجبنا حمايتهم”.
ومع ذلك، قد يتبين أن هذه الغطرسة كانت سوء تقدير، ففي الوقت الذي كانت تركيا سريعة في فرض نفوذها على الهيئة في حزيران/يونيو الماضي وإجبارها على التراجع نحو إدلب، إلا أنها لم تفعل ذلك هذه المرة. من المستحيل عدم قراءة حقيقة أن فيلق الشام، الذي يعتبر وكيل تركيا الأكثر ثقةً ووفاءً، قد قام بإخلاء جميع نقاط التفتيش على طول الطريق الرئيسي المؤدي إلى عفرين في 12 تشرين الأول/أكتوبر بطريقة سريعة ومنسقة بشكل استثنائي؛ ومنذ ذلك الحين، استمر تقدم هيئة تحرير الشام دون أي اعتراض تقريباً.
وعلى الرغم من أن فيلق الشام يتمتع بسمعة طيبة في تجنب أي صراع بين الفصائل، فإن فك ارتباطه المفاجئ والمنسق يطرح السؤال: هل منحت تركيا الضوء الأخضر لتحرك هيئة تحرير الشام إلى عفرين، أم أن أنقرة قررت فقط السماح بذلك بغض النظر عن قبول حتمية التعامل مع العواقب؟.
وسط تكهنات أوسع نطاقاً حول سياسة تركيا تجاه سوريا والشائعات المتعلقة باحتمال عودة تركيا للانخراط مع نظام الأسد، فإن استيلاء هيئة تحرير الشام على عفرين يضعف فقط المعارضة السورية ويعزز خطاب النظام بشأن مكافحة الإرهاب. وقد يؤدي توسع هيئة تحرير الشام أيضاً إلى تعقيد التصويت القادم في كانون الثاني/يناير 2023 بشأن المساعدات عبر الحدود إلى شمال غربي سوريا.
من ناحية أخرى، هل سيطرة هيئة تحرير الشام على عفرين يوفر ضماناً أفضل للاستقرار مقارنة بحالة الفوضى بين فصائل الجيش الوطني السوري؟ وحتى لو أجبرت تركيا هيئة تحرير الشام في نهاية المطاف على إخلاء عفرين، فإن حقيقة تقدمها إلى هذا الحد قد تجاوزت الحد وغيرت ديناميكية القوة في المنطقة بشكل لا رجعة فيه.
هناك قضية أخرى مثيرة للاهتمام ناتجة عن امتداد هيئة تحرير الشام في منطقة عفرين وهي تأثير ذلك على العديد من القادة الجهاديين وناشطي المجتمع المدني من الجهاديين الذين فروا من أراضي هيئة تحرير الشام إلى عفرين في عامي 2021 و 2022. فقد بسط تنظيم حراس الدين والفصائل الجهادية الأخرى، التي تعتبر موالية لداعش أو القاعدة أو مناهضة لحكم هيئة تحرير الشام، سيطرتها على إدلب بلا منازع، لكن العديد من هؤلاء المعارضين قد يجدون أنفسهم الآن تحت سلطة هيئة تحرير الشام وحكمها.
من السابق لأوانه الحصول على إجابات سهلة، ولكن الواضح في الأمر هو أن ديناميكيات شمال غربي سوريا آخذة في التغير، ويبدو أن العواقب ستكون كبيرة للغاية، فالقواعد والافتراضات التي أدت إلى تقييم شمال غربي سوريا تتآكل أمام أعيننا، ويبدو أن الواقع الجديد سيصبح أكثر تعقيداً من ذي قبل. يجب أن تتجه الأنظار الآن إلى أعزاز، بوابة منطقة درع الفرات. ففي أعزاز، أطلقت الجبهة الشامية حملة تعبئة عامة استعداداً لهجوم وشيك محتمل من قبل هيئة تحرير الشام، وفي حالة وقوع أعزاز تحت سيطرة هيئة تحرير الشام، فإن شمالي سوريا سيدخل حقبة جديدة تماماً مع تداعيات عميقة محتملة على الحالة العامة للأزمة السورية.
------------
/ معهد ميدل إيست /
*تشارلز ليستر زميل أول ومدير برامج سوريا ومكافحة الإرهاب والتطرف في معهد الشرق الأوسط.
- المقال كتبه تشارلز ليستر لمعهد ميدل إيست وترجمته نورث برس