بيد أن واقع الحال يقتضي التفكير والبحث، التفكير في أي شيء يأتي بالأموال للخزينة الفارغة، بعد تراجع جميع الموارد العامة وتراكم عجز الموازنات لنحو عقد من الزمن، والبحث عن أي عائد مالي، يبقي رئيس النظام على كرسي الوراثة ولا يصل الإفلاس إلى مستوى عدم القدرة على تسديد أجور من تبقي بالقطاع الحكومي ورواتب العاملين بالقطاعين العسكري والأمني، فمن هناك، وهناك فقط، يمكن أن يهتز كرسي الحكم وينقلب سحر التغييب وبث أوهام الاستهداف والمؤامرة الكونية، على الساحر نفسه وتثور حواضن الأسد إن وصلت للعجز عن تأمين الخبز، بعد الرضى بالحد الأدنى، لينتصر القائد وتنتقل إلى الانتعاش والرفاهية.
القطاع الحكومي هو الحل، بل وربما لا حل سواه، فهو يقلع عين المدن الكبرى بمواقعه الجغرافية، ولبكن الاستثمار والبيع للعقار إن لم يفكر المستثمر بإحياء منشأة، تزيد عمر آلاتها على أعمار من يقف خلفها، ووجدت أصلاً لأسباب تاريخية لها علاقة بالمد الاشتراكي وتأميم القطاع الخاص.
لكن لا بد من مبررات يتسلح بها نظام بشار الأسد ليفرّط بقطاع، كان حتى الأمس، يصفه بالريادي وبنسب له الفضل بصمود سورية وكفاية أسواقها ومستهليها. كما وجدت من ذي قبل، مبررات بيع ورهن المرافئ وقطاعات الطاقة، لشركائه بموسكو وطهران.
وعلى الأرجح، لن تعجز حكومة محمد غازي الجلالي "الجديدة" عن إخراج المشهد بشكل مرض، وهي التي تشكلت أساساً، للقيام بأدوار انقلابية، ما كان بإمكان سابقتها الإقدام عليها، بعد أن تشدقت بالنضال والمقاومة ودبجت المدائح للقطاع العام.
وربما بمقولة "الخاسر والعبء التاريخي" المخرج الأنسب لنسف القطاع الحكومي وخصخصته، بواقع يصح خلاله الترويج أن القطاع العام أُنشئ ليقوم بدور اقتصادي واجتماعي، ولكن دوره الاقتصادي تلاشى وأغلب شركات القطاع العام خاسرة، بل وجزء كبير منها، أصبح عبئاً على خزينة الدولة. وتتوالى مراحل المهمة الموكلة للحكومة الجديدة، عبر طرح فكرة التشارك مع القطاع الخاص لضخ الدماء بالقطاع الحكومي، للانتقال لمرحلة البيع، بعد فشل التشاركية لأنها مفهوم نظري غير قابل للتطبيق بواقع عقلية القطاع الحكومي التقليدية وإحجام رأس المال الخاص "الجبان" عن التشارك بخطوط إنتاج وصناعات غير منافسة ومقبولة بالأسواق.
بيد أنه تبقى مشكلة صغيرة، وحلها ليس بالأمر العسير على مفكري حكومة الأسد، وهي الترويج أن تطوير القطاع الخاص ومنحه المواقع والشركات الحكومية العريقة، لا يعني أبداً انسحاب القطاع "الريادي" الضامن تشغيل العمالة المؤمن حاجة السوق والمفضل شروط الجودة والسعر والهم الاجتماعي، على الربح والاحتكار.
بل القصة إعادة تموضع وتحديد أولويات، فبدل أن ينشغل القطاع الحكومي بإنتاج سلع استهلاكية بسيطة، يتجه نحو المشروعات الاستراتيجية في مجال الإنتاج وبناء شبكة حماية اجتماعية متقدمة ومتطورة.
قصارى القول: ما أتينا عليه ليس نبوءة لمهام حكومة الأسد الجديدة، بل واقع أكده أول اجتماع لها، حين قال رئيسها الجلالي" يجب أن نتعامل مع القطاع الخاص بعين مجردة موضوعية بعيداً عن الأيديولوجيا السلبية الجامدة، باعتبار هذا القطاع شريكاً حقيقياً في الاقتصاد الوطني في الواقع الراهن وشريكاً في تطويره، وليس مرشحاً فقط للاستثمار في المشاريع الخاسرة التي يريدها القطاع العام".
وليأخذ نهج الحكومي صفة الجدية والتطبيق، وافقت على دمج أكبر مؤسستين بالقطاع الصناعي "الكيميائية والهندسية" بشركة واحدة، ما يعني زيادة مواقع وشركات عن الحاجة، لنرى ربما بالاجتماع المقبل، طرح تلك الشركات للبيع. لأن اجتماع حكومة الأسد، أكد وألح على "ضرورة التخلي عن النهج التقليدي في التعامل مع القطاع العام، وضرورة تبني مقاربات جريئة لتحديث هذا القطاع وتحويله إلى شريك فعّال في التنمية"
ولتكن قرارات حكومة بشار الأسد على حجم التحديات وخطورة المرحلة، قالت خلال اجتماعها الأسبوعي "القرارات الحكومية لن تكون شعبوية، بل ستركز على الجدوى والعائدية من منظور وطني واستراتيجي".
وهذا ما لا يقبل التأويل وتعدد مستويات الفهم، أي انتظروا قراراتنا بالكي يا سوريين، فإصلاح القطاع العام وتذليل الصعوبات التي يعاني منها، من قدم خطوط إنتاج أو بطالة مقنّعة أو حتى تعيين مديريه على حسب الولاء، أمر صعب ومشوار طويل، يلزمه نفقات ووقت، ونحن على عجلة من أمرنا ونريد أموالاً.
ولتكتمل جبهات الحرب على القطاع الحكومي، بهدف تصفيته، رمت حكومة الأسد، بالتوازي مع مبررات الخصخصة، ما سمته "تقرير الاستعراض الوطني" والذي أكمل معزوفة عجز القطاع الحكومي عن مجاراة التطورات وكسب المنافسة، وضرورة إعادة هيكلة جذرية، في حين، وحسب التقرير نفسه، تزيد مساهمة القطاع الخاص بالناتج المحلي الإجمالي إلى 72% ومساهمته من الإنتاج الصناعي 92% وبتشغيل العمالة إلى 76%.
نهاية القول: يبدو أن عباءة خصخصة القطاع الحكومي بسورية، أو جله، اكتملت حياكتها، ولم يبق سوى الطرح المتتالي للمنشآت المغرية، إن بنوعية إنتاجها أو خصوصية موقعها ضمن المدن الكبرى، لتكون فتحاً وإغراء للرساميل المترددة ومورداً لخزينة الأسد الخاوية.
ولكن، ثمة سؤالان جديران بالطرح هنا:
الأول، لماذا لا يفكر نظام الأسد بإعادة إحياء القطاع الحكومي الصناعي، والذي ربما لا يحتاج أكثر من تبديل إداراته التي اعتادت الوصول لمواقعها، وفق مبدأ الولاء لا الكفاءة، فربما بذلك الحل، تبقي سورية على إنتاج موثوق ومنافس بسعره، وتتقي شر بطالة هائلة، بعد تسريح عمالة القطاع الحكومي، ستضاف إلى نسبة 87% اليوم، وقد تتعدى عقابيلها الآثار الاقتصادية؟ والثاني والأهم ربما، من يمكن أن يشتري القطاع الحكومي، ولو احتسب عقاراً فقط، بواقع تلتقي فيه، جميع عوامل الطرد والهروب، وليس المجازفة بأموال بمناخ مفتوح على جميع احتمالات الدمار، أو بقاء نهج الإتاوات والقمع، إن بقيّ نظام الأسد ضمن أسوأ احتمالات التسوية التي نراها بالمنطقة؟هذا إن لم نسأل عن كيفية هروب المستثمرين من عصوات العقوبات الغربية والأميركية، وتركهم مناخات جاذبة حول العالم، ليقدموا على الخسائر والشرور بأرجلهم.
وكل ذلك، مع إقرارنا على الدوام، بأن خصخصة القطاع الذي وجد لأسباب تاريخية واقتصادية مرحلية، ليس شراً أو خطأ بالمطلق، بل قد تقضيه التطورات ومسيرة التنمية، ولكن، بحالة ووضع غير الذي تعيشه سورية اليوم، فقد يكون بحالة الاستقرار والنمو، دفعاً وتسريعاً، لكنه بحالة سورية الأسد وما تعانيه، هو بيع حقوق وحصة الشعب لتمويل البقاء على الكرسي... هذا إن كان من شراة
-------------
العربي الجديد.