عرب مخيّمون في الساحة. نيران تشتعل. دخان يكاد يكون لا مرئيا في المساء. كنّا في أعلى المئذنة عندما صعد المؤذّن لينادي على الصّلاة. غربت الشمس كما لو أنها تفعل ذلك للأبد على السّهل المتعب اللاّمتناهي. هذا التراب، الأكثر شحوبا لوقت طويل، أصبح أشدّ عتمة من السّماء.
لقد عانينا طوال النهار من الشمس، وطراوة المساء كانت مبهجة بالنسبة لنا. أطفال كانوا يلعبون في الساحة، وكلاب كانت تنبح على سطوح المنازل. وكان صوت المؤذن يملأ فوقنا المئذنة الصغيرة التي في أعلى الصومعة. كان يبدو ممتدّا على نغم وحيد، رنين طنّان، ثم توقّف بشكل فجئي حتى أنه ترك فراغا في الهواء.
بدأت القوافل تتحرك، ببطء، وروحنا امتلأت بالحماس والنشوة، وبالقلق لعدم معرفتنا للهدف الذي تبتغيه من وراء تيهها اللاّمتناهي.
بسبب القحط الكبير، ماتت الماشية كلها هذا العام، واللحم أصبح نادرا حتى أن الناس باتوا يقتصرون على أكل لحم الجمل.
ونحن نغادر المدينة، نرى تحت سقف صغير من سعف النّخيل الجاف، واحدة من تلك الدوابّ الضخمة، المتفسّخة، لحمها بنفسجي، والتي تتغطى بالذباب حالما نكفّ عن ابعاده عنها. الذباب في هذه البلاد، كثير مثل ذريّة ابراهيم. هو يبيض فوق الجيف المهملة، لخرفان أو لجياد أو لإبل تترك هكذا لتتعفّن تحت الشمس. يرقاته تتغذى من ذلك بكل حريّة، ثم متحولة إلى ذباب، تهاجم المدينة أسرابا وحشودا. والناس يبتلعونه، ويتنفسّونه وبه هم يداعبون، ويرهقون، وبسببه يحجب عنهم النور. الجدران ترتّج به وبضائع التجار والجزّارين به تطقطق. في توقورت، التجار لهم منفضات من سعف النخيل وبها يسعون إلى طرده باتجاه جارهم. في القيروان، هناك أعداد وفيرة منه حتى أنه من الأفضل الاّ نفعل شيئا. التجار لا يطردونه إلا عندما يطلب زبون قديم الاطلاع على البضاعة. عند وصولنا، كانت سيارتنا مغطاة بسحابة منه. في الفندق، الصحون والكؤوس كانت محفوظة بأغطية من المعدن لا ترفع ولا تزال إلاّ عند الأكل والشراب.
مريّر 11 ابريل/ نيسان:
سباخ مالحة ساحرة يخترقها السراب. من أعلى هضبة رملية، عقب الامتداد الهائل للصحراء، نحن نفكر:" هاهو البحر" بحر شاسع أزرق بزوارق صغيرة وجزر، بحر تتخيلّه عميقا، وروحنا بذلك تنتعش. ونحن نقترب، نلتمس انعكاس السماء على قشرة بيضاء مالحة، حارقة عند الأقدام، مؤلمة عند النظر إليها، جليلة وبهية بالانبهارات. وهي ترتخي تحت القدم، هشّة، ذلك أنها ليست سوى سطح رهيف لبحر من الطين المتحرك يغرق القوافل.
في عشاء الضباط، النّقيب الذي بجانبي يثير اهتمامي وهو يحدثني عن الجنوب. لوقت طويل، هو عاش في "ورغلة". وقد أتى من "الغلية" ويتذكر سير الجنود في الرمال. أحيانا، في تلك الرمال المتحركة، والحارقة، والمرتّجة تحت الشمس، يستبدّ بهم نوع من الدوار الخاص يجعلهم يحسّون دائما، أن الأرض تَميد تحت أقدامهم. حتى عندما يتوقّفون، يتواصل الدّوار والأرض تلوح كما لو أنها تفرّ من تحتهم. أحيانا أخرى، يلتـقون وسط تلك الرمال الفظيعة عِرْقًا من البحر الكلسي مكوّمًا ، صلبا، وعريضا بالقدر الذي يكفي كل جندي أن يضع قدميه لبعض الوقت، ويستعيد أخيرا توازنه فوق تلك الصّلابة الصغيرة.
ولمعاقبة جندي، يحكم عليه بالسيّر خلف رفاقه. وهذا عقاب شديد. فالذين يسيرون في الأمام لا يستطيعون الاهتمام بالمتخلّفين. ويحدث أحيانا، أن يفقد البعض منهم توازنه، ويسقطون، فتبتلعهم الصحراء. الأخيرون يركضون في الغبار الخانق الذي ترفعه الكتيبة، وفوق تلك الأرض الرّخوة، والتي تصبح أكثر رخاوة
بعد أن تمر فوقها أعداد وفيرة من الأقدام، وإذا ما فقدوا توازنهم، فإن نهايتهم تصبح مؤكدة. هم ينظرون إلى الآخرين وهم يبتعدون. والعقبان التي تحلّق خلف الفوج وهو يسير، تتوقف، تترقّب، ثم تقترب. في هذا الرّمل، أحيانا، قطع من الجبس، تلمع مثل الميكا . على طريق "دروح" عثرنا على أحجار، حين تكسر تظهر في داخلها شفافة مثل البلور.
على طريق "الواد" ، قطفنا من هذه الأزهار الغريبة المعدنية التي يسمّونها "أزهار صوف"، والتي هي رمادية مثل الرمل، قليل من الرمل الخاثر.
بسكرة:
انغام طبل زنجي تجذبنا. موسيقى زنجيّة. كم من مرة شاهدتها العام الماضي كم من مرة تركت عملي لكي أستمع إليها. ليس هناك أصوات. هناك نغم. ولا آلة موسيقة، لا شيء غير طبول طويلة، و"تام تام" وجلجليات. جلجليات تحدث بين أيديهم ما يشبه صوت وابل من المطر. ثلاثة مع بعضهم البعض، ينجزون مقاطع حقيقية. نغم مُفرد، مقطّعا بغرابة بتأخيرات النّبر، يرعب ويستفزّ كل وثبات وقفزات اللحم. إنهم موسيقيو المراسم الجنائزية، والحفلات السعيدة، والاحتفالات الدينية. لقد رأيتهم في المقابر، يساعدون النوّاحات عندما يبلغن أقصى درجات الانتشاء بنواحهنّ.
وفي مسجد في القيروان يلهبون ويهيجّون الجنون الصوفي لـ "العيساوية" .ورأيتهم يزنون رقصة العصيّ والرقصات الجليلة والمهيبة في مسجد "سيدي مالك" الصّغير. وكنت دائما الفرنسي الوحيد الذي يشاهدهم. ولست أدري أين يذهب السيّاح. اعتقد أن الإدلاّء يعدّون لهم افريقيا بلا قيمة لكي يريحوا العرب، أحبّاء السرّ والهدوء، من المزعجين واللحوحين، ذلك أني لم أعثر على أي سائح بالقرب من شيء مثير للإهتمام، وحتى، وهذا لحسن الحظ، في قرى الواحة القديمة، إلا في ما ندر، حيث كنت أعود كل يوم وأنتهي بألا أجفل أو أفزع أحدًا. مع ذلك، تمتلئ الفنادق بالمسافرين، غير أنهم يسقطون في بحيرات الإدلاّء الدجّالين ويدفعون مبالغ باهضة لحضور الحفلات المزيفة التي تعدّ لهم.
لم يكن هناك فرنسي واحد أيضا العام الماضي، في تلك الحفلة الليلية الخارقة التي حضرتها بالصدفة تقريبا، منجذبا إليها بصوت الطبل وزغاريد النساء. كانت الحفلة في القرية الزنجيّة: موكب راقص من النساء ومن الموسقيين كان يصعد الشارع الكبير مسبوقا بحاملي المشاعل وبمجموعة من الأطفال كانوا يضحكون ويقودون، ماسكين بقرنيه، تيسا كبيرا، أسود، مغطى بالحليّ وبالأقمشة. وكانت له أسورة في قرنيه، وحلقة كبيرة من الفضّة في منخريه. وكانت له قلائد حول عنقه. وكان يرتدي خرقة من الحرير القرمزي. في الجمع الذي كان يتبع الموكب، تعرّفت على عاشور الكبير. فسّر لي أن ذلك التيس سيذبح في الليل لكي يجلب السعادة للقرية. وقبل ذلك، هم يطوفون به في الشوارع، حتى تدخل فيه أرواح وشياطين البيوت الشريرة، والتي تقف أمام العتبات، وتختفي.
أيتها الموسيقى الزنجيّة كم من مرة، بعيدا عن افريقيا، ظننت أني أستمع إليك، وفجأة، يتشكل الجنوب حولك من جديد.. في روما أيضا، شارع "غريغوريانا"، تحضرين عندما توقظني الشاحنات الثقيلة وهي تهبط في الصباح. على وثباتها الصّماء على المبلطات، غافيا لازلت، كان باستطاعتي للحظة أن أخطئ، ثم أتكدّر لوقت طويل.
استمعنا إليها هذا الصبّاح، الموسيقى الزنجيّة، غير أنها لم تكن قط لحفل عادي. كانوا يلعبون في الباحة الداخلية لبيت خاصّ، ورجال عند العتبة، أرادوا أوّلا أن يطردونا. غير أن بعض العرب تعرّفوا عليّ، وَحَمَوْا دخولنا. اندهشت في البداية من وجود عدد كبير من النّساء اليهوديات المتجمعات هناك. يهوديات جميلات ومرتديات ثيابا ثمينة. كانت الباحة ممتلئة. بالكاد تبقّى فضاء للرقص في الوسط. كنا نختنق بالغبار وبالحرارة. شعاع كبير كان يسقط من الفتحة العليا، منها، كما من شرفة، كانت تنحني عناقيد من الأطفال.
الدرج الذي يصعد إلى السّطح، كان يغصّ بالناس، وجميعهم كانوا منتبهين مثلما أصبح حالنا نحن أيضا. فما كنّا نشاهده كان مرعبا. في قلب الباحة، وعاء كبير من النحاس مليء بالماء. نهضت ثلاث نساء عربيات. تجرّدن من ثيابهن العليا، وللرقص حللن شعورهن أمام الوعاء، ثم منحنيات، نشرنها فوق الماء. وكانت الموسيقى قد أصبحت قوية، تاركات شعورهن المبلّلة تسقط عليّهنّ، رقصن لبعض الوقت. كان رقصا وحشيا، محتدّا، لكل الجسد، والذي لم يكن قد شاهده قط، ليس بإمكانه أن يتخيّله. وكانت تشرف على ذلك عجوز زنجيّة، وكانت تقفز حول الوعاء، وماسكة بعصا، هي تضرب حوافه بها بين وقت وآخر. ولقد أعلمنا في ما بعد، وهذا ما بدأنا نفهمه، أن كل النساء اللائي كنّ يرقصن في ذلك اليوم (وأحيانا، لوفرتهن على مدى يومين) هن يهوديات وعربيات، ومريضات نفسانيا. وكل واحدة منهن تدفع بدورها لكي يكون لها الحق في الرقص، وتلك الزنجيّة العجوز، صاحبة العصا، كانت ساحرة مشهورة تعرف التّعزيم والتعويذات، وتعرف كيف تطرد الشياطين من أجساد النساء في الماء المتجدّد. وعندما يصبح ملّوثا يلقي به في الشارع. والتي قالت لنا كل هذا كانت اليهودية الجميلة، قومره، التي لم تتحدّث عن ذلك أراديا، بسبب بقايا اعتقاد ونصف حياء لتعترف أنها أيضا، العام الماضي، كان جسدها مسكونا بالهستيريا بشكل مرعب، وقد شاركت في حلقة الرقص هي أيضا "أملة أن تجد تسكينا لا لامها". لكن بعد ذلك، ازداد مرضها، وزوجها الذي علم أنها رقصت في حفلة السّاحرة، ضربها على مدى ثلاثة أيام لمداواتها.
احتدّ الرقص. والنساء، زائغات النظر، دائخات، مهتاجات، مضطربات، باحثات عن لا وعي اللحم،
أو أفضل من ذلك فقدان الشعور، بلغن النّوبة التي يصبح فيها التعزيم قادرا أن يفعل في أجسادهن التي تخلّصت من كلّ سلطة. عقب هذا التعب الملّح، متعرّقات، ميّتات من الارهاق الذي يعقب النّوبة، هن يذهبن للبحث عن استراحة منقذة.
والآن هن مقرفصات أمام الوعاء. أيديهن متقبّضات على حوافه وأجسادهن تضرب يمينا وشمالا، إلى الأمام وإلى الخلف بنشاط مثل ميزان غاضب. وشعورهن يسوّطن الماء، ثم يرششن الأكتاف. في كل ضربة خصر، يطلقن صرخة خفيضة مثل تلك التي يطلقها الحطابون وهم يقطعون الخشب. ثم فجأة، يتهاوين إلى الخلف، كما لو أنهنّ يسقطن من شر أعلى، والزبد على شفاههن، وأيديهن ملويّة.
الشياطين غادرت أجسادهن. وعندئذ تأخذهن الساحرة، وتمدّدهنّ، وتنشفهن، وتدلكهنّ، وتمطّطهنّ، مثلما تفعل ذلك في نوبات الهستيريا، ماسكة بمعاصمهن، ومنهضاتهن إلى النصف، هي تضغط بيدها أو بقدمها على بطونهن. وقد قيل أن ستين آمرأة شاركن في حلقة الرقص تلك. الأوليات منهن لازلن يتلوّين، عندما تنطلق أخريات. واحدة منهن صغيرة الحجم ومحدودبة الظهر، ترتدي "غندورة" خضراء وصفراء، لا يمكن نسيانها. شعرها الأسود كان يغطي كامل جسدها.
يهوديات رقصن أيضا. قفزن بطريقة غير منتظمة مثل خذاريف مجنونة. ولم يكن قد قفزن قفزة واحدة، حتى سقطن ذاهلات. أخريات كن أكثر تحمّلا. جنونهن استبدّ بنا، فهربنا غير قادرين على التحمّل.
بسكرة:
"من الذي ابتكر الموسيقى؟" سأل عثمان. أجبته:" موسيقيون". لم يرضه جوابي. ألّح في السؤال أجبته برصانة بأن الله هو الذي ابتكر الموسيقى. وردّ هو في الحين:"لا ... الشيطان هو الذي ابتكرها".
وأوضح لي أنه بالنسبة للعرب، كل الآلات الموسيقية هي آلات من جهنّم، باستثناء الكمان الأوسط الذي لم أتمكن من الاحتفاظ باسمه، والذي له مقبض طويل. وصندوق إيقاعه مصنوع من سلحفاة مفرغة. على هذه الآلة، مع قوس صغير، ومصحوبين بمغني الساحات، يعزف الشعراء، والانبياء، والحكواتيون، وأحيانا بعذوبة أخاذة حتى أنه "يخيّل لنا أن أبواب السماء تنفتح" يقول عثمان.
هؤلاء المغنّون، وهؤلاء الشعراء يثيرون اهتمامي. ماذا يغنّون. ورعاة الماعز عندما يتوقفون عن العزف على قيثاراتهم؟ وصادق مع آلته الموسيقية التي يسميها "الغزلة"؟ وعثمان نفسه، وحده، أو مع أحمد، كل واحد على ظهر جواده في "توقورت". أحيانا، هي أنواع من الحوارات استمع إليها، غير أني لا أفهم منها ولو كلمة واحدة. وعثمان الذي أسأله، يجيب :" ولكن لا ... هي ليست كلمات، إنها شعر فقط" وبسبب إلحاحي، أتوصّل في هذا الأيام إلى أن أجعله يكتب لي ويترجم لي بعضا من هذه الأغاني. إنما، غير مكتوبة، ما يغنّيه المغنون في الساحات، وهم جالسون على الأرض، أو عند عتبة مقهى، يُحيط بهم مجموعة من العرب الصامتين، يستمعون إليهم، أوهم يغنون لأنفسهم تلك الأغاني في وحدة سفرهم. ولست أدري إن كانت هذه الأغاني تروق لمن لا يعرف البلاد. بالكاد أقدر أن أقول أنني أجدها جميلة جدّا، وأنني اعتقد أن التراث الشفوي لهذا الشعر العربي، القديم أو الجديد، جدير بأن يشغل الفولكلور قليلا. ربما، العام المقبل، سأحاول أن أحصل على مجموعة صغيرة من هذه الأغاني.
--------------------------
الصورة بورتريه الكاتب الفرنسي اندريه جيد
لقد عانينا طوال النهار من الشمس، وطراوة المساء كانت مبهجة بالنسبة لنا. أطفال كانوا يلعبون في الساحة، وكلاب كانت تنبح على سطوح المنازل. وكان صوت المؤذن يملأ فوقنا المئذنة الصغيرة التي في أعلى الصومعة. كان يبدو ممتدّا على نغم وحيد، رنين طنّان، ثم توقّف بشكل فجئي حتى أنه ترك فراغا في الهواء.
بدأت القوافل تتحرك، ببطء، وروحنا امتلأت بالحماس والنشوة، وبالقلق لعدم معرفتنا للهدف الذي تبتغيه من وراء تيهها اللاّمتناهي.
بسبب القحط الكبير، ماتت الماشية كلها هذا العام، واللحم أصبح نادرا حتى أن الناس باتوا يقتصرون على أكل لحم الجمل.
ونحن نغادر المدينة، نرى تحت سقف صغير من سعف النّخيل الجاف، واحدة من تلك الدوابّ الضخمة، المتفسّخة، لحمها بنفسجي، والتي تتغطى بالذباب حالما نكفّ عن ابعاده عنها. الذباب في هذه البلاد، كثير مثل ذريّة ابراهيم. هو يبيض فوق الجيف المهملة، لخرفان أو لجياد أو لإبل تترك هكذا لتتعفّن تحت الشمس. يرقاته تتغذى من ذلك بكل حريّة، ثم متحولة إلى ذباب، تهاجم المدينة أسرابا وحشودا. والناس يبتلعونه، ويتنفسّونه وبه هم يداعبون، ويرهقون، وبسببه يحجب عنهم النور. الجدران ترتّج به وبضائع التجار والجزّارين به تطقطق. في توقورت، التجار لهم منفضات من سعف النخيل وبها يسعون إلى طرده باتجاه جارهم. في القيروان، هناك أعداد وفيرة منه حتى أنه من الأفضل الاّ نفعل شيئا. التجار لا يطردونه إلا عندما يطلب زبون قديم الاطلاع على البضاعة. عند وصولنا، كانت سيارتنا مغطاة بسحابة منه. في الفندق، الصحون والكؤوس كانت محفوظة بأغطية من المعدن لا ترفع ولا تزال إلاّ عند الأكل والشراب.
مريّر 11 ابريل/ نيسان:
سباخ مالحة ساحرة يخترقها السراب. من أعلى هضبة رملية، عقب الامتداد الهائل للصحراء، نحن نفكر:" هاهو البحر" بحر شاسع أزرق بزوارق صغيرة وجزر، بحر تتخيلّه عميقا، وروحنا بذلك تنتعش. ونحن نقترب، نلتمس انعكاس السماء على قشرة بيضاء مالحة، حارقة عند الأقدام، مؤلمة عند النظر إليها، جليلة وبهية بالانبهارات. وهي ترتخي تحت القدم، هشّة، ذلك أنها ليست سوى سطح رهيف لبحر من الطين المتحرك يغرق القوافل.
في عشاء الضباط، النّقيب الذي بجانبي يثير اهتمامي وهو يحدثني عن الجنوب. لوقت طويل، هو عاش في "ورغلة". وقد أتى من "الغلية" ويتذكر سير الجنود في الرمال. أحيانا، في تلك الرمال المتحركة، والحارقة، والمرتّجة تحت الشمس، يستبدّ بهم نوع من الدوار الخاص يجعلهم يحسّون دائما، أن الأرض تَميد تحت أقدامهم. حتى عندما يتوقّفون، يتواصل الدّوار والأرض تلوح كما لو أنها تفرّ من تحتهم. أحيانا أخرى، يلتـقون وسط تلك الرمال الفظيعة عِرْقًا من البحر الكلسي مكوّمًا ، صلبا، وعريضا بالقدر الذي يكفي كل جندي أن يضع قدميه لبعض الوقت، ويستعيد أخيرا توازنه فوق تلك الصّلابة الصغيرة.
ولمعاقبة جندي، يحكم عليه بالسيّر خلف رفاقه. وهذا عقاب شديد. فالذين يسيرون في الأمام لا يستطيعون الاهتمام بالمتخلّفين. ويحدث أحيانا، أن يفقد البعض منهم توازنه، ويسقطون، فتبتلعهم الصحراء. الأخيرون يركضون في الغبار الخانق الذي ترفعه الكتيبة، وفوق تلك الأرض الرّخوة، والتي تصبح أكثر رخاوة
بعد أن تمر فوقها أعداد وفيرة من الأقدام، وإذا ما فقدوا توازنهم، فإن نهايتهم تصبح مؤكدة. هم ينظرون إلى الآخرين وهم يبتعدون. والعقبان التي تحلّق خلف الفوج وهو يسير، تتوقف، تترقّب، ثم تقترب. في هذا الرّمل، أحيانا، قطع من الجبس، تلمع مثل الميكا . على طريق "دروح" عثرنا على أحجار، حين تكسر تظهر في داخلها شفافة مثل البلور.
على طريق "الواد" ، قطفنا من هذه الأزهار الغريبة المعدنية التي يسمّونها "أزهار صوف"، والتي هي رمادية مثل الرمل، قليل من الرمل الخاثر.
بسكرة:
انغام طبل زنجي تجذبنا. موسيقى زنجيّة. كم من مرة شاهدتها العام الماضي كم من مرة تركت عملي لكي أستمع إليها. ليس هناك أصوات. هناك نغم. ولا آلة موسيقة، لا شيء غير طبول طويلة، و"تام تام" وجلجليات. جلجليات تحدث بين أيديهم ما يشبه صوت وابل من المطر. ثلاثة مع بعضهم البعض، ينجزون مقاطع حقيقية. نغم مُفرد، مقطّعا بغرابة بتأخيرات النّبر، يرعب ويستفزّ كل وثبات وقفزات اللحم. إنهم موسيقيو المراسم الجنائزية، والحفلات السعيدة، والاحتفالات الدينية. لقد رأيتهم في المقابر، يساعدون النوّاحات عندما يبلغن أقصى درجات الانتشاء بنواحهنّ.
وفي مسجد في القيروان يلهبون ويهيجّون الجنون الصوفي لـ "العيساوية" .ورأيتهم يزنون رقصة العصيّ والرقصات الجليلة والمهيبة في مسجد "سيدي مالك" الصّغير. وكنت دائما الفرنسي الوحيد الذي يشاهدهم. ولست أدري أين يذهب السيّاح. اعتقد أن الإدلاّء يعدّون لهم افريقيا بلا قيمة لكي يريحوا العرب، أحبّاء السرّ والهدوء، من المزعجين واللحوحين، ذلك أني لم أعثر على أي سائح بالقرب من شيء مثير للإهتمام، وحتى، وهذا لحسن الحظ، في قرى الواحة القديمة، إلا في ما ندر، حيث كنت أعود كل يوم وأنتهي بألا أجفل أو أفزع أحدًا. مع ذلك، تمتلئ الفنادق بالمسافرين، غير أنهم يسقطون في بحيرات الإدلاّء الدجّالين ويدفعون مبالغ باهضة لحضور الحفلات المزيفة التي تعدّ لهم.
لم يكن هناك فرنسي واحد أيضا العام الماضي، في تلك الحفلة الليلية الخارقة التي حضرتها بالصدفة تقريبا، منجذبا إليها بصوت الطبل وزغاريد النساء. كانت الحفلة في القرية الزنجيّة: موكب راقص من النساء ومن الموسقيين كان يصعد الشارع الكبير مسبوقا بحاملي المشاعل وبمجموعة من الأطفال كانوا يضحكون ويقودون، ماسكين بقرنيه، تيسا كبيرا، أسود، مغطى بالحليّ وبالأقمشة. وكانت له أسورة في قرنيه، وحلقة كبيرة من الفضّة في منخريه. وكانت له قلائد حول عنقه. وكان يرتدي خرقة من الحرير القرمزي. في الجمع الذي كان يتبع الموكب، تعرّفت على عاشور الكبير. فسّر لي أن ذلك التيس سيذبح في الليل لكي يجلب السعادة للقرية. وقبل ذلك، هم يطوفون به في الشوارع، حتى تدخل فيه أرواح وشياطين البيوت الشريرة، والتي تقف أمام العتبات، وتختفي.
أيتها الموسيقى الزنجيّة كم من مرة، بعيدا عن افريقيا، ظننت أني أستمع إليك، وفجأة، يتشكل الجنوب حولك من جديد.. في روما أيضا، شارع "غريغوريانا"، تحضرين عندما توقظني الشاحنات الثقيلة وهي تهبط في الصباح. على وثباتها الصّماء على المبلطات، غافيا لازلت، كان باستطاعتي للحظة أن أخطئ، ثم أتكدّر لوقت طويل.
استمعنا إليها هذا الصبّاح، الموسيقى الزنجيّة، غير أنها لم تكن قط لحفل عادي. كانوا يلعبون في الباحة الداخلية لبيت خاصّ، ورجال عند العتبة، أرادوا أوّلا أن يطردونا. غير أن بعض العرب تعرّفوا عليّ، وَحَمَوْا دخولنا. اندهشت في البداية من وجود عدد كبير من النّساء اليهوديات المتجمعات هناك. يهوديات جميلات ومرتديات ثيابا ثمينة. كانت الباحة ممتلئة. بالكاد تبقّى فضاء للرقص في الوسط. كنا نختنق بالغبار وبالحرارة. شعاع كبير كان يسقط من الفتحة العليا، منها، كما من شرفة، كانت تنحني عناقيد من الأطفال.
الدرج الذي يصعد إلى السّطح، كان يغصّ بالناس، وجميعهم كانوا منتبهين مثلما أصبح حالنا نحن أيضا. فما كنّا نشاهده كان مرعبا. في قلب الباحة، وعاء كبير من النحاس مليء بالماء. نهضت ثلاث نساء عربيات. تجرّدن من ثيابهن العليا، وللرقص حللن شعورهن أمام الوعاء، ثم منحنيات، نشرنها فوق الماء. وكانت الموسيقى قد أصبحت قوية، تاركات شعورهن المبلّلة تسقط عليّهنّ، رقصن لبعض الوقت. كان رقصا وحشيا، محتدّا، لكل الجسد، والذي لم يكن قد شاهده قط، ليس بإمكانه أن يتخيّله. وكانت تشرف على ذلك عجوز زنجيّة، وكانت تقفز حول الوعاء، وماسكة بعصا، هي تضرب حوافه بها بين وقت وآخر. ولقد أعلمنا في ما بعد، وهذا ما بدأنا نفهمه، أن كل النساء اللائي كنّ يرقصن في ذلك اليوم (وأحيانا، لوفرتهن على مدى يومين) هن يهوديات وعربيات، ومريضات نفسانيا. وكل واحدة منهن تدفع بدورها لكي يكون لها الحق في الرقص، وتلك الزنجيّة العجوز، صاحبة العصا، كانت ساحرة مشهورة تعرف التّعزيم والتعويذات، وتعرف كيف تطرد الشياطين من أجساد النساء في الماء المتجدّد. وعندما يصبح ملّوثا يلقي به في الشارع. والتي قالت لنا كل هذا كانت اليهودية الجميلة، قومره، التي لم تتحدّث عن ذلك أراديا، بسبب بقايا اعتقاد ونصف حياء لتعترف أنها أيضا، العام الماضي، كان جسدها مسكونا بالهستيريا بشكل مرعب، وقد شاركت في حلقة الرقص هي أيضا "أملة أن تجد تسكينا لا لامها". لكن بعد ذلك، ازداد مرضها، وزوجها الذي علم أنها رقصت في حفلة السّاحرة، ضربها على مدى ثلاثة أيام لمداواتها.
احتدّ الرقص. والنساء، زائغات النظر، دائخات، مهتاجات، مضطربات، باحثات عن لا وعي اللحم،
أو أفضل من ذلك فقدان الشعور، بلغن النّوبة التي يصبح فيها التعزيم قادرا أن يفعل في أجسادهن التي تخلّصت من كلّ سلطة. عقب هذا التعب الملّح، متعرّقات، ميّتات من الارهاق الذي يعقب النّوبة، هن يذهبن للبحث عن استراحة منقذة.
والآن هن مقرفصات أمام الوعاء. أيديهن متقبّضات على حوافه وأجسادهن تضرب يمينا وشمالا، إلى الأمام وإلى الخلف بنشاط مثل ميزان غاضب. وشعورهن يسوّطن الماء، ثم يرششن الأكتاف. في كل ضربة خصر، يطلقن صرخة خفيضة مثل تلك التي يطلقها الحطابون وهم يقطعون الخشب. ثم فجأة، يتهاوين إلى الخلف، كما لو أنهنّ يسقطن من شر أعلى، والزبد على شفاههن، وأيديهن ملويّة.
الشياطين غادرت أجسادهن. وعندئذ تأخذهن الساحرة، وتمدّدهنّ، وتنشفهن، وتدلكهنّ، وتمطّطهنّ، مثلما تفعل ذلك في نوبات الهستيريا، ماسكة بمعاصمهن، ومنهضاتهن إلى النصف، هي تضغط بيدها أو بقدمها على بطونهن. وقد قيل أن ستين آمرأة شاركن في حلقة الرقص تلك. الأوليات منهن لازلن يتلوّين، عندما تنطلق أخريات. واحدة منهن صغيرة الحجم ومحدودبة الظهر، ترتدي "غندورة" خضراء وصفراء، لا يمكن نسيانها. شعرها الأسود كان يغطي كامل جسدها.
يهوديات رقصن أيضا. قفزن بطريقة غير منتظمة مثل خذاريف مجنونة. ولم يكن قد قفزن قفزة واحدة، حتى سقطن ذاهلات. أخريات كن أكثر تحمّلا. جنونهن استبدّ بنا، فهربنا غير قادرين على التحمّل.
بسكرة:
"من الذي ابتكر الموسيقى؟" سأل عثمان. أجبته:" موسيقيون". لم يرضه جوابي. ألّح في السؤال أجبته برصانة بأن الله هو الذي ابتكر الموسيقى. وردّ هو في الحين:"لا ... الشيطان هو الذي ابتكرها".
وأوضح لي أنه بالنسبة للعرب، كل الآلات الموسيقية هي آلات من جهنّم، باستثناء الكمان الأوسط الذي لم أتمكن من الاحتفاظ باسمه، والذي له مقبض طويل. وصندوق إيقاعه مصنوع من سلحفاة مفرغة. على هذه الآلة، مع قوس صغير، ومصحوبين بمغني الساحات، يعزف الشعراء، والانبياء، والحكواتيون، وأحيانا بعذوبة أخاذة حتى أنه "يخيّل لنا أن أبواب السماء تنفتح" يقول عثمان.
هؤلاء المغنّون، وهؤلاء الشعراء يثيرون اهتمامي. ماذا يغنّون. ورعاة الماعز عندما يتوقفون عن العزف على قيثاراتهم؟ وصادق مع آلته الموسيقية التي يسميها "الغزلة"؟ وعثمان نفسه، وحده، أو مع أحمد، كل واحد على ظهر جواده في "توقورت". أحيانا، هي أنواع من الحوارات استمع إليها، غير أني لا أفهم منها ولو كلمة واحدة. وعثمان الذي أسأله، يجيب :" ولكن لا ... هي ليست كلمات، إنها شعر فقط" وبسبب إلحاحي، أتوصّل في هذا الأيام إلى أن أجعله يكتب لي ويترجم لي بعضا من هذه الأغاني. إنما، غير مكتوبة، ما يغنّيه المغنون في الساحات، وهم جالسون على الأرض، أو عند عتبة مقهى، يُحيط بهم مجموعة من العرب الصامتين، يستمعون إليهم، أوهم يغنون لأنفسهم تلك الأغاني في وحدة سفرهم. ولست أدري إن كانت هذه الأغاني تروق لمن لا يعرف البلاد. بالكاد أقدر أن أقول أنني أجدها جميلة جدّا، وأنني اعتقد أن التراث الشفوي لهذا الشعر العربي، القديم أو الجديد، جدير بأن يشغل الفولكلور قليلا. ربما، العام المقبل، سأحاول أن أحصل على مجموعة صغيرة من هذه الأغاني.
--------------------------
الصورة بورتريه الكاتب الفرنسي اندريه جيد